الرئيسية / النظرية السياسية / فكر وفلسفة سياسية / السياسة الشرعية في ضوء السنة النبوية (2)
السياسة الشرعية في ضوء القرآن والسنة
السياسة الشرعية في ضوء القرآن والسنة

السياسة الشرعية في ضوء السنة النبوية (2)

السياسة الشرعية في ضوء السنة النبوية (2)

لقراءة الجزء الأول: السياسة الشرعية في ضوء القرآن والسنة (!)

د. محمد عبد السلام

ورد عن أبي هريرة t أن النبي r قال: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء؛ كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم الذي جعل الله لهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم)([1]).

ولقد عمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تأسيس دولة الإسلام على إصدار منشور كتبه لأهل المدينة وضَّح فيه واجبات الدولة الجديدة وواجبات المواطنين، ووضع الأحكام والتعليمات التي تنظم بعض أمور الدولة الجديدة، وهذا نصه:([2])

“بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي – صلى الله عليه وسلم – بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم، وهم يفْدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو جُشَم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وإن المؤمنين لا يتركون مفرحًا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل، وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة([3]) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعًا ولو كان ولد أحدهم. ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر ولا ينصر كافرًا على مؤمن وإن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم، وإن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم، وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضًا، وإن المؤمنين يبيء([4]) بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله، وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه، وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسًا ولا يحول دونه على مؤمن وإنه من اعتبط مؤمنًا قتلًا عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثًا ولا يؤويه وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد صلى الله عليه وسلم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ([5]) إلا نفسه وأهل بيته، وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بن عوف، وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم، وإن موالي ثعلبة كأنفسهم وإن بطانة يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم، وإنه لا ينحجز على نار جرح، وإنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته إلا من ظُلِم، وإن الله على أبر هذا، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه وإن النصر للمظلوم وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.

وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وإن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين على كل أناس حصتهم في جانبهم الذي قبلهم، وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة”.

وبالنظر في هذا الميثاق الذي يحدد طريقة التعايش في مجتمع المدينة بين المسلمين وغير المسلمين، من اليهود، والعرب المشركين، وكذلك بين دولة المدينة والعالم من حولها، نجد أنها تؤسس لدولة المدينة بالمفهوم الحديث من حيث المواطنة، ففي ظل هذا التنوع الموجود داخل مجتمع المدينة، إلا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسس لدولة قوية يسودها العدل والسلام، والتعاون بين جميع أبنائها وأفرادها، دون تفرقة بين لون أو جنس أو عقيدة، وهو ما يسمى بالمواطنة في عصرنا هذا.

ولعل هذه الوثيقة تَقِفنا على نصٍّ دستوري في غاية الأهمية لكل دولة تسعى إلى التأسيس للعيش المشترك بين مواطنيها الذين يحملون كل أشكال الاختلاف وصنوف التعدد! ومن هذه القيم: المواطنة بين جميع أفرادها، وقبول تلك التعددية بينهم، كذا القبول بالآخر.

وتعد تلك هي البداية الفعلية لترسيخ السياسة الإسلامية في بناء دولته على أرض المدينة المنورة عمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها على وضع كل أسس التعامل بين المقيمين داخل دولة الإسلام (المدينة آنذاك)، وبين المقيمين خارجها، وبين كل الطوائف وبتحليل هذه الوثيقة بالمعايير السياسية الحالية، نجد أنها تنص على جميع المدارس السياسية التي تدرس حاليًّا، من الأمن الاجتماعي، والمساواة بين المواطنين، واحترام الحرية الشخصية في التعبد والعقيدة والحياة، وتحقيق المسئولية الفردية.

وتأتي بعد ذلك رسائل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى جميع ملوك ورؤساء الدول ودعوته لهم للدخول في الإسلام، أو أن يحكم الإسلام شعبهم، وإرسال البعثات المتعددة، واتخاذ قرارات الحرب والسلم، والموادعة والمعاهدة، وتجهيز الجيوش، وإصدار القرارات الاقتصادية، لذا استطاع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقيم هذه الدولة في فترة وجيزة.

ولعل هذا النجاح جعل مفكري الغرب يشيد بهذا الإنجاز في بناء الدولة وحسن سياستها بعد ذلك؛ حتى إننا لنجد ماركس([6]) يكتب متحدثًا عن نظام الإسلام في الزكاة (مثال) وكيف أنه نظام سياسي فريد من نوعه قائلًا: “كان الإسلام أول من وضع أساسه في تاريخ البشرية عامة، فضريبة الزكاة، التي كانت تجبر طبقات الملاك والتجار والأغنياء على دفعها، لتصرفها الدولة على المعوزين والعاجزين من أفرادها، هدمت السياج الذي كان يفصل بين جماعات الدولة الواحدة، ووحدت الأمة في دائرة اجتماعية عادلة، وبذلك برهن هذا النظام الإسلامي على أنه لا يقوم على أساس الأثرة البغيضة”([7])

ويمكن القول: إن أقدم نصٍّ وردت فيه كلمة “السياسة” بمعنى الحكم هو قول عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري في وصف معاوية: إني وجدته ولي عثمان الخليفة المظلوم والطالب، بدمه الحسن السياسة الحسن التدبير، وكذلك ما جاء عن عمر ابن الخطاب حيث قال: “قدْ عَلِمْت وَرَبِّ الْكَعْبَةِ مَتَى تَهْلِكُ الْعَرَبُ، فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: مَتَى يَهْلِكُونَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: حِينَ يَسُوسُ أَمَرَهُمْ مَنْ لَمْ يُعَالِجْ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَمْ يَصْحَبِ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم”([8]).([9])

ولهذا نجد أن الإسلام منذ أول يوم في نشأته يتعامل على أنه دولة ذات كيان، فيكتب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ دستورًا تسير به الدولة ويراسل جميع ملوك ورؤساء العالم آنذاك، ليعلم الجميع ببزوغ فجر دولة إسلامية جديدة تتعامل مع الجميع، منفتح على العالم من حولها.

كما أن النظام الإسلامي يؤسس لدولة عظمى يستقي منها العالم معاني الإنسانية والرقي الحضاري، وإذا كنا نعاني اليوم صراع الحضارات فإن الإسلام ـ كما سبق آنفًا ـ يدعو إلى التكامل الحضاري من خلال التعاون والتكافل الإنساني، والمواطنة، والحرية، والمسئولية، فلا معنى لوجود الإنسان وحده في الكون، أو وجود دين دون أن يضبط مسار الحياة السياسي والاجتماعي والثقافي.

ولما طُبِّق الإسلام عاشت جميع المجتمعات الإسلامية وغيرها في نوع من الوئام والخير والسلام المجتمعي، ولما بدأ الضعف الإسلامي، كانت هناك الحروب الصليبية بما جرته على العالم من دمار وكذلك هجوم المغول وما كبدت من خسائر في الأرواح والماديات، وفي العصر الحاضر الحرب على البوسنة والهرسك، والهجمة على أفغانستان، وغزو العراق، وتشريد المسلمين في كل ركن في العالم، وعرقلة مسيرة الربيع العربي من خلال الضغوطات الخارجية، فنحن أمام حالة تستحق الدراسة والتأمل، ولا يخفى عليك الجرح الأكبر المتمثل في الاحتلال الصهيوني للقدس الشريف، الذي لم يتجاوز السبعين سنة، واللعب السياسي الدولي أمام أمة المليار لخسارة مقدراته ومقدساته.

ولعل العالم الآن يحتاج إلى هذا السلوك الإسلامي، فبناء هذا السلوك بدوره يعيد تلك الحضارة الإسلامية، فإذا كنا لا نستطيع بين عشية وضحاها أن نبني هذا الصرح التكنولوجي الذي يتقدم به الغرب، فإننا نستطيع أن نبني الشخصية الإسلامية، من خلال الرجوع إلى هذه المفاهيم التي رسخها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ونبدأ بإخراج أطفال قادرين على تحمل تلك المسئولية تجاه العالم أجمع، من خلال تعليمهم هذه السلوكيات الإسلامية التي تؤثر ولا تتأثر، فالإصلاح يبدأ من الطفل، وبناء الإنسان لهو بناء للأمة.

 

لقراءة الجزء الأول: السياسة الشرعية في ضوء القرآن والسنة (!)

السياسة الشرعية في ضوء القرآن والسنة (ا)

—————————-

الهوامش:

([1]) متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم (3268)، (3/1273)، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب: الإمارة، باب: الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، رقم (4879)، (6/17).

([2]) السيرة النبوية لابن هشام، عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري أبو محمد، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، بيروت، 1411 هـ، (3/35:32).

([3]) الدسع: الدفع كالدسر، والمعنى: أي طلب دفعا على سبيل الظلم فأضافه إليه، وهي إضافة بمعنى من؛ ويجوز أن يراد بالدسيعة العطية أي ابتغى منهم أن يدفعوا إليه عطية على وجه ظلمهم أي كونهم مظلومين، وأضافها إلى ظلمه؛ لأنه سبب دفعهم لها. انظر لسان العرب، كتاب العين المهملة، فصل الدال، مادة د س ع، (8/ 85).

([4]) أباءَ الشَّخصَ منزلاً: أنزله فيه “أباءني داره ريثما أجد دارًا أسكنها”، انظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، مادة: ب و أ، (1/ 258).

([5]) الوَتَغُ، بالتحريك: الهَلاكُ. وَتِغَ يَوْتَغُ وتَغًا: فسَدَ وهلَكَ وأَثِمَ. انظر: لسان العرب، فصل الواو، مادة: (و ت غ)، (8/ 458).

([6]) ليس هو كارل ماركس الشيوعي؛ إذ إننا نجزم أنه لم يتح له أن يطلع على شيء من الإسلام لا كثيرًا ولا قليلًا، ولكنا نرجح أنه العالم الديني الألماني (ماركس ولهلم).

([7]) الإسلام والحضارة العربية، لكرد علي، (1/274)، نقلًا عن: اشتراكية الإسلام، د. مصطفى السباعي، الاتحاد القومي دار ومطابع الشعب، 1381 هـ / 1962م، ص287.

([8]) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، رقم (33139).

([9]) الدين والسياسة تأصيل ورد شبهات، القرضاوي، مرجع سابق، ص31.

عن محمد أحمد عبد السلام

شاهد أيضاً

السياسة الشرعية في التراث الإسلامي

السياسة الشرعية في التراث الإسلامي “3”

السياسة الشرعية في التراث الإسلامي “3” د. محمد أحمد عبد السلام   تعد السياسة الشرعية …