الرئيسية / النظرية السياسية / فكر وفلسفة سياسية / السياسة الشرعية في ضوء القرآن والسنة (ا)
السياسة الشرعية في ضوء القرآن والسنة
السياسة الشرعية في ضوء القرآن والسنة

السياسة الشرعية في ضوء القرآن والسنة (ا)

السياسة الشرعية في ضوء القرآن والسنة

إن كلمة “السياسة” لم ترد في القرآن الكريم؛ لذلك قد يتخذ بعض الناس من هذا دليلًا على أن القرآن أو الإسلام لم يهتم بالسياسة، ولا ينظر إليها، ولا شك في أن هذا القول ضرب من المغالطة، فكثير من الألفاظ لا توجد في القرآن ولكن مضمونها ومعناها جاء مثبوتًا بألفاظ أخرى توحي بالمعنى نفسه للفظ غير المثبوت، و- على سبيل المثال – كلمة “العقيدة”، فهي لا توجد في القرآن مع أن مضمون العقيدة موجود في القرآن بكامله من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والعقيدة هي القضية المركزية الأولى التي تدور حولها آيات القرآن الكريم، وكذلك كلمة الفضيلة فهي لا توجد في القرآن الكريم مع أن القرآن من أوله إلى آخره يحث على الفضيلة والتحلي بالقيم والمثل العليا النبيلة واجتناب الرذيلة.

“والقرآن لم يذكر لفظة “السياسة” بعينها وإنما جاء بما يدل عليها مثل كلمة المُلك الذي يعني حكم الناس وأمرهم ونهيهم وقيادتهم في أمورهم، حيث جاء ذلك في القرآن بصيغ وأساليب شتى بعضها على سبيل المدح والآخر على سبيل الذم، فهناك الملك العادل وهناك الملك الظالم والملك المستبد”([1]) والشورى والملك والحُكم والتمكين والخلافة حيث وردت هذه الألفاظ في الآيات التالية:

قال تعالى: ﴿فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ ([2])

وذكر من آل إبراهيم يوسف u الذي ناجى ربه فقال: ﴿رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾([3])، وكذلك ممن آتاهم الله الملك: طالوت الذي بعثه الله ملكًا لبني إسرائيل ليقاتلوا معه وتحت لوائه، قال تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾([4]).

وكذلك سليمان u الذي آتاه الله مُلكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وممن ذكره القرآن من الملوك: ذو القرنين الذي مكنه الله في الأرض وآتاه من كل شيء سببًا حتى اتسع ملكه من المغرب إلى المشرق([5])، قال تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا﴾ ([6]).

وكذلك جاء ذكر ملكة سبأ حيث قام مُلكُها على الشورى وليس على الاستبداد والقهر قال تعالى: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ ([7]).

وتحدث القرآن الكريم عن التمكين في الأرض والملك، وذكر تصرف ملك مصر بتمكين يوسف عليه السلام، وأوضح بعض تصرفاته الحسنة في إدارة البلاد والسعي في تدبير معاش رعيته ولفظة التمكين هنا تدل دلالة قاطعة على السياسة، حيث جاء قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ﴾ ([8])، وقوله عن المهاجرين: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَلله عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ ([9]).

جاءت كلمة “الحُكم” ومشتقاتها في الكثير من آيات القرآن الكريم لتوضح إدارة الدولة الإسلامية في الداخل والخارج ضمن سياسات عادلة وحكيمة، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ﴾ ([10]).

وأكد القرآن على الحاكمية لله في المجتمع وحذَّر من الافتتان بالمناهج الأرضية الساقطة والانجراف مع أحكام الجاهلية قال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ﴾ ([11]).

وهنا يوضح الحق تبارك وتعالى أن الأنظمة الجاهلية وعلى رأسها الأنظمة الرأسمالية والصهيونية وقوى الاستعمار والظلم تسعى جادة لإحداث زحزحة المسلمين عن عقيدتهم وعن تطبيق منهج الله في جانب الحكم والسياسة والاقتصاد والجهاد، على أن يبقى الإسلام طقوسًا وشعائر مفرغة من مضمونها، لا تحكم إلا الجوانب المتعلقة بفقه الأحوال الشخصية من حياة الناس.

فنحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى الحكم بكتاب الله، وبتعبير أدق تحكيمه في أمورنا والرجوع إليه في كل مشكلة أو معضلة، واللجوء إلى حكمه في كل نائبة، والنهل من منهلة في كل مسألة، إذ تتجاذبنا التيارات الفكرية لتحط من قوتنا وتوهن عزيمتنا وتفرق وحدتنا، وخاصة أننا جربنا في العقود الماضية الاشتراكية والرأسمالية والأفكار المستوردة، فلم تحقق إلا الهزائم وتكريس الاحتلال والضياع لمقدرات الأمة، قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ ([12]).

كما أن الآيات القرآنية السابقة توضح بجلاء ماهية وحقيقة وجود علم السياسة والحكم في الإسلام، فحديث القرآن عن إعطاء الملك لبعض الأنبياء، مثال إبراهيم u وآله، وكذلك ملك سليمان u، وحديث القرآن عن مملكة سبأ، وكذلك مدْح الله
-جل وعلا – لمن يحكم بالعدل وتوجيهه تبارك وتعالى إلى ذلك، وبيان تمكينه سبحانه لعباده الصالحين، ومنهم يوسف u الذي جعله الله على خزائن الأرض، وهنا تحضرني كلمة فإنه قد وجب على الامة الإسلامية أن يكون لها دور سياسي وشهود حضاري، ووجب على الساسة المسلمين أن يضطلعوا بهذه المهمة وتوليتها قدرًا أكبر من جهدهم وبحثهم؛ إذ “إن الثمن الذي يدفعه الطيبون بلا مبالاتهم بالأمور العامة هو أن يحكمهم الأشرار”، ولذا فإن الله حذَّرَنا من الشر والأشرار، ووجه رسوله الكريم أن يحكم بما أنزل الله، وتوعد من يحيد عن هذا الطريق، ووصفهم بالكافرين، والظالمين، والفاسقين، حتى يسود الأمن والأمان الدنيا وتشرق شمس العدالة والحرية، اللتين تغيبان عن حاضرنا اليوم في ظل الأحكام الوضعية والابتعاد عن السياسة الشرعية الرشيدة.

 

لمتابعة قراءة الموضوع: الجزء الثانى من المقال: السياسة الشرعية في ضوء السنة النبوية (2)

السياسة الشرعية في ضوء السنة النبوية (2)

([1]) انظر: الدين والسياسة تأصيل ورد شبهات، يوسف القرضاوي، دار الشروق، ط1، 2007، ص28.

([2]) النساء: 54.

([3]) يوسف: 101.

([4]) البقرة: 247.

([5]) انظر: محاسن التأويل، لقاسمي، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، مكتبة عيسى البابي الحلبي، ط1، 1376 هـ/ 1957م، (11/89).

([6]) الكهف: 83-84.

([7]) النمل:32.

([8]) يوسف:56.

([9]) الحج:41.

([10]) النساء:58.

([11]) المائدة:49.

([12]) المائدة:50.

عن محمد أحمد عبد السلام

شاهد أيضاً

السياسة الشرعية في التراث الإسلامي

السياسة الشرعية في التراث الإسلامي “3”

السياسة الشرعية في التراث الإسلامي “3” د. محمد أحمد عبد السلام   تعد السياسة الشرعية …