الرئيسية / العلاقات الدولية / التفاعلات الدولية / المسألة الجورجية….مفارقات الهوية والجغرافيا
المسألة الجورجية....مفارقات الهوية والجغرافيا
المسألة الجورجية....مفارقات الهوية والجغرافيا

المسألة الجورجية….مفارقات الهوية والجغرافيا

المسألة الجورجية….مفارقات الهوية والجغرافيا

محمد بوبوش: أستاذ العلاقات الدولية -جامعة محمد الأول-وجدة، المملكة المغربية.

د. محمد بوبوش

مسرح جديد لصراع روسيا مع الغرب،  جورجيا، الدولة السوفييتية السابقة تشهد تظاهرات واحتجاجات حاشدة، تكشف عن الدولة الجديدة التي تحولت لمقر الصراع كما يبدو، القصة بدأت باحتجاجات على قانون تمويلي، ورغم سحب الحكومة للقانون فإن المتظاهرين حولوا الاحتجاجات لرسالة سياسية تُعلن الرفض لروسيا  وتتهم الحكومة بموالاتها.

ورغم أن الاشتباكات بين السلطات في جورجيا ومعارضين محتجين على قانون يخص الجمعيات التي تتلقى تمويلا أجنبيا يبدو شأنا داخليا، فإن متخصصين في الملف الروسي يعتقدون أنه تحضير لصنع بؤرة ساخنة جديدة على حدود روسيا لإرباكها بجانب حرب أوكرانيا.

خريطة جورجيا

  أولا: جورجيا في الإدراك الإستراتيجي الروسي: الاستقرار الصعب

تحظى جورجيا بمكانة متميزة في الإدراك الاستراتيجي الروسي بالنظر لمجموعة اعتبارات يتقدمها الموقع الجيوسياسي، إلى جانب الاعتبارات الاقتصادية المتمثلة بموقعها في  طريق إمدادات نقل الطاقة، ويعود الصراع بين روسيا وجورجيا إلى المرحمة التاريخية التي شيدت سيطرة الروس على جورجيا وضمها إلى الاتحاد السوفيتي في عام  1921، وبعد تفكك  الاتحاد السوفيتي حصلت جورجيا استقلالها عن الاتحاد السوفييتي عام 1991، لكنها عانت لفترة من اضطرابات داخلية في السنوات العشر التي جاءت بعد الاستقلال، وهي الفترة التي شهدت إعلان إقليم أبخازيا استقلاله.

جورجيا هي دولة نامية وتحتل المركز ال70 بين دول العالم في مؤشر التنمية البشرية، وهي عضو في الأمم المتحدة، المجلس الأوروبي، منظمة التجارة العالمية، منظمة التعاون الاقتصادي للبحر الأسود، منظمة الأمن والتعاون الأوروبية (OSCE)، جمعية الخيار الديمقراطي، منظمة غوام GUAM للتطوير الديمقراطي والاقتصادي، وبنك التنمية الآسيوي. تطمح جورجيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والناتو. تخضع التزامات جورجيا الدولية للمراقبة وفقا للجنة U.S.Helsinki كونها عضو مشارك في منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.[1]

يشكل الجورجيون ما يقرب من 83.8٪ من تعداد سكان جورجيا الحاليين (4,661,473 نسمة) (تقديرات يوليو 2006). تشمل العرقيات الرئيسية الأخرى الآذريون الذين يشكلون 6.5 ٪ من السكان، والأرمن 5.7 ٪، والروس 1.5 ٪، والأبخاز، والأوسيتيون. كما توجد العديد من المجموعات الصغيرة في البلاد، بما في ذلك الآشوريون والشيشان والصينيون واليهود الجورجيون واليونانيون والقبرطاي والأكراد والتتار والأتراك والأوكرانيون. والجدير بالذكر أن الجالية اليهودية في جورجيا هي واحدة من أقدم المجتمعات اليهودية في العالم.

مع بداية التسعينات من القرن الماضي وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي، اشتعلت الصراعات الانفصالية العنيفة في منطقتي الحكم الذاتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. غادر العديد من الأوسيتيين الذين عاشوا في جورجيا إلى أوسيتيا الشمالية في روسيا. ومن ناحية أخرى، غادر أكثر من 150,000 من الجورجيين أبخازيا بعد اندلاع أعمال العنف في عام 1993.

تتمتع جورجيا  بعلاقات طيبة مع دول الجوار القريب المباشرين أرمينيا وأذربيجان وتركيا وتشارك بفعالية في المنظمات الإقليمية، مثل المجلس الاقتصادي للبحر الأسود وغوام.

تقول أوتاراشفيلي[2]:إن التوترات بين جورجيا وروسيا كانت تتصاعد، إذ استمرت جورجيا في الإعراب عن رغبتها في «التحول إلى الغرب». وفي كتابه الصادر في 2010 عن “الحرب الصغيرة التي هزت العالم” يقول  رونالد أسموس :”كانت جورجيا قد شرعت في طريق تحول ديمقراطي وتحديث سريع منذ أن أطاحت ثورة الزهور السلمية في نوفمبر عام  2003 بحكومة “إدوارد شيفرنادزه” الفاسدة المفككة، وأوصلت الثورة ميخائيل ساكاشفيلي المدعوم غربياً وزعيم المعارضة الجورجية إلى الرئاسة.وبدعم من قادة غربيين ومنظمات غربية، بدأت الحكومة الجورجية الجديدة في بذل جهود مدروسة لتلقي بإرث ما بعد الاتحاد السوفياتي وراء ظهرها.[3]

ويومها، شكل ملف العلاقة مع موسكو ورقةً مهمة في الحملات الانتخابية لزعيمَي الموالاة والمعارضة، إذ اتهم زعيم ائتلاف المعارضة “حلم جورجيا” بيدزينا إيفانشفيلي، الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي بإقحام البلاد في حرب مع روسيا أدت إلى خسارة إقليمَي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. ومن جهته، لم يتوقف ساكاشفيلي زعيم “الحركة الوطنية الموحدة” عن اتهام خصمه بجني ثروته من روسيا خلال التسعينيات من القرن الماضي، إلى حد اعتباره موالياً للروس.

وساكاشفيلي الذي أشعل المواجهة مع أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وتالياً مع روسيا،   وبعدها، في العام 2004، حصد ساكاشفيلي نسبة كبيرة من أصوات الناخبين أوصلته إلى الرئاسة، وفي 2008، احتلت القوات الروسية منطقة أخرى في جورجيا فيما يعرف بـ “حرب الخمسة أيام”، وهي منطقة أوسيتيا الجنوبية الجبلية الصغيرة الكائنة في شمال شرقي العاصمة تبليسي.[4]

لم يكن التدخل العسكري من قبل جورجيا في أوسيتيا الجنوبية امرأ مفاجئا في ضوء التطورات الأخيرة وزيادة التوتر بين الطرفين ؛حيث قام الرئيس الجورجي “سكاشفيلى” باستغلال انشغال العالم وموسكو بافتتاح مونديال العالم في الصين وقام بشن هجوم عسكري علي عاصمة أوسيتيا الجنوبية  تسخينفالي  في 7 اغسطس عام 2008 ظنا منه بأن الدول الغربية سوف تقف بجانبه وتوافق على ضم جورجيا الى حلف الناتو والذي سوف يقوم بصد القوات الروسية اذا ما تدخلت  للدفاع عن أوسيتيا الجنوبية بحكم دعم موسكو المستمر لها.[5]

وأعلنت المنطقة استقلالها في وقت لاحق أيضا واعترف بها عدد قليل من الدول، من بينهم روسيا نفسها وروسيا وفنزويلا. ولا تزال أوسيتيا الجنوبية تحت الاحتلال الروسي.

تراجع تأييده في الانتخابات الرئاسية التالية عام 2008، قبل أن تحرقه الحرب مع روسيا في العام نفسه، وتنتج تغييراً في خيار الجورجيين لمصلحة “الحلم”.

لقد مثلت الحرب الجورجية علي اقليم أوسيتيا الجنوبية في 7 اغسطس عام 2008 فرصة كبيرة لموسكو للتدخل في جورجيا لتأكيد نفوذها بها و رغم ان موسكو بررت حربها علي جورجيا بانها استجابة للعمليات العسكرة الجورجية في اوسيتيا الجنوبية ،حيث أعلن الرئيس الروسي آنذاك “ميدفيديف” في 8 أغسطس عام 2008 بأنها  جاءت لـ”حماية حياة وكرامة المواطنين الروس أينما كانوا” ، إلا انه كان هناك عدد من الاسباب من وراء دخول روسيا لتلك الحرب لعل أهمها رغبة روسيا في استعادة السيطرة على ما تعتبره حقها التاريخي والمجال الجغرافي لنفوذها بما يمكنها من تأكيد قوتها ونفوذها كقوة عالمية و استعادة زمام المبادرة التي افتقدتها بعد انتهاء الحرب الباردة كنتيجة انهيار الاتحاد السوفيتي والحيلولة دون ان تكون هذه الدول خطرا عليها وخاصة مع تزايد النفوذ الغربي في  جورجيا.[6]

في تلك الفترة، اتهم زعيم ائتلاف المعارضة “حلم جورجيا” بيدزينا إيفانشفيلي، الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي بإقحام البلاد في حرب مع روسيا أدت إلى خسارة إقليمَي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. ومن جهته، لم يتوقف ساكاشفيلي زعيم “الحركة الوطنية الموحدة” عن اتهام خصمه بجني ثروته من روسيا خلال التسعينيات من القرن الماضي، إلى حد اعتباره موالياً للروس

قطعت موسكو وتبليسي العلاقات الدبلوماسية وتجمدت علاقاتهما الاقتصادية في أعقاب الحرب، ولا تزال قضية وضع المنطقة مصدر إزعاج رئيس، حتى مع تحسن العلاقات إلى حد ما.

أقفلت هذه النتائج مرحلةً من تاريخ جورجيا وفتحت أخرى، خرج بعدها ساكاشفيلي من رئاسة البلاد وغادرها إلى الخارج. في ما بعد، عمل مستشاراً للرئاسة الأوكرانية، وواجه عدة قضايا في جورجيا أوصلته إلى السجن في وقتٍ لاحق.

منذ ذلك الوقت، وعلى وقع بدء تسخين الموقف في أوكرانيا مع انقلاب عام 2014 على الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش، وضم روسيا شبه جزيرة القرم، انتهج “حلم جورجيا” نهجاً حكيماً في التعاطي مع القوتين الكبيرتين اللتين تتجاذبان البلاد. فعلى الرغم من تبنيه القيم الغربية والتناغم التام مع الاتحاد الأوروبي، ومحاوله الانضمام إليه، حافظ الحزب الحاكم على علاقات ودية مع موسكو، وسعى إلى تطمينها بسياسةٍ خارجيةٍ غير منحازة ضدها، وسياسةٍ داخليةٍ حافظت على استقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. وموسكو بدورها، لم تكن تريد من تبليسي أكثر من ذلك.[7]

ويسيطر القلق على أغلبية سكان جورجيا حيال إمكانية نشوب المزيد من الصراعات. وأشارت نتائج استطلاع رأي أجري في الفترة الأخيرة إلى أن أغلب سكان البلاد يفضلون الحل السلمي لمشكلة أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.

وتحاول روسيا منذ غزوها لأوكرانيا في 24 فبراير 2022 إلى اتخاذ تدابير وقائية لمنع انفجار أي جبهات جديدة تُشتّت عمليتها في أوكرانيا وتجلب عليها مزيدا من العقوبات الأمريكية الغربيّة والكلفة العسكرية، لكن ذلك لم يمنعها من أن يكون لها بصمة في تشريعات دول مجاورة للتضييق على الدعم الغربي لمنظمات العمل المدني وحقوق الإنسان التي تراها روسيا مجرد ذريعة للغرب لبسط نفوذه وتمدده الناعم عبر دعمه لتلك المنظمات للإضرار بمصالحها في دول الجوار.

المسألة الجورجية....مفارقات الهوية والجغرافيا
المسألة الجورجية….مفارقات الهوية والجغرافيا

ثانيا: جورجيا ..بين تجاذبات الغرب وتعقيدات المجال الأوراسي

لطالما مارست جورجيا، التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي عام 1991، “عملية توازن بين مشاعر مواطنيها المؤيدة لأوروبا، والأهداف الجيوسياسية لجارتها القوية روسيا، وقد واجهت روسيا الاتحادية تحدي الدعـم الأمريكي لجورجيا واوكرانيا لا سيما بعد الثورات الملونة التي أطاحت بالحكومات الموالية للنظام الروسي، مقابل وصول حكومات موالية للولايات المتحدة والقوى الأوروبية تسعى إلى إنهاء النفوذ الروسي في هذه الدول، وقد شيد الربع الأول من القرن الحادي والعشرين.

الانخراط الأميركي والأوروبي في منطقة جنوب القوقاز الاستراتيجية ظل متقطعا ويفتقر إلى الاستراتيجية الواضحة ويتسم بتضاؤل النفوذ، وهو ما مكن الرئيس الروسي من فتح جبهات جديدة في حربه لتعزيز القوة الروسية في المنطقة.

كانت جورجيا أول موطئ قدم للولايات المتحدة في المنطقة ومنها انتقلت ما تعرف بالثورة الوردية بدعم أمريكي عام 2003 ضد ما تعرف بالنظم التسلطية وضد النفوذ الروسي ثم انتقلت إلى أوكرانيا عام 2004 وقرغيزستان عام 2005،[8] وسعت الولايات المتحدة لإنشاء اتحاد يضم أوكرانيا، جورجيا، أذربيجان، أوزبكستان ومولدافيا فيما يعرف ً لإرادة باتحاد جوام. يرمي إلى إيقاف التمدد الروسي الجديد والسيطرة على هذه الدول وتحديا روسيا في فرض أهدافها واستراتيجيتها ومصالحها الإقليمية.[9]

وقد أدى السعي الأمريكي لضـم جورجيا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي إلى تصاعد الخلافات بين جورجيا وروسيا، الذي اقترن بالدعـم الأمريكي للثورات الملونة التي اندلعت مع مطلع القرن الحادي والعشرين، التي كانت تهدف إلى منع عودة النفوذ الروسي في دول الخارج القريب[10]، وفي هذا الصدد يؤكد مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبيغينيو بريجنسكي : “إن إخضاع جورجيا يفتح الطريق أمام  الاستراتيجية الأمريكية للسيطرة على منطقة القلب في الرقعة الأوراسية تعني السيطرة على  أهم ثلاث مناطق استراتيجية في عالم ما بعد الحرب الباردة  الغنية بمصادر الطاقة من النفط والغاز في  دول بحر قزوين و القوقاز آسيا الوسطى “.[11]

معركة الاستقطاب المستمرة بين موسكو والغرب في دول الاتحاد السوفييتي السابق، والتي كانت أفدح نتائجها الحرب الدائرة في أوكرانيا منذ أزيد من سنة، بدأت تلقي بظلالها على منطقة القوقاز، لا سيما جورجيا، التي تحتل روسيا 20% من أراضيها منذ العام 2008.

ووجه كثير من المتظاهرين أصابع الاتهام إلى مؤسس حزب “الحلم الجورجي”، بيدزينا إيفانيشفيلي، الملياردير المثير للجدل، الذي كون ثروته في روسيا وتربطه علاقات ودية مع الكرملين، بمحاولة “فرض أجندة روسية في بلاد يدعم شعبها المقاومة الأوكرانية دعما غير مشروط”.[12]

“الديمقراطية الهشة في جورجيا – وهي واحدة من الحلفاء القلائل المخلصين للولايات المتحدة وأوروبا في المنطقة حتى وقت قريب – تواجه الآن لحظة خطرة مماثلة لأوكرانيا”، مضيفة أن “مسيرة جورجيا باتجاه الغرب، مثل مسيرة أوكرانيا، هي إحدى المسيرات التي صمم الرئيس الروسي فلاديمير  بوتين على إفشالها”.[13]

رغم فوز حزب “الحلم الجورجي” الحاكم في الانتخابات على أساس برنامج موال للغرب، يجادل النقاد بأن رئيس الوزراء الجورجي بيدزينا إيفانشفيلي يدفع جورجيا نحو فلك موسكو، مشيرة إلى أنه على الرغم من الدعم الساحق لأوكرانيا في البلاد، فإن الحكومة لم تنضم إلى الغرب في فرض عقوبات على روسيا.

وتعتبر تقارير أن مشروع القانون والسياسة العامة للحزب الحاكم وموقفه من الحرب الروسية في أوكرانيا قد تدفع بأمد الاحتجاجات إلى مدى أبعد وأوسع، مستشهدة باستطلاعات رأي تفيد بأن نحو 85% من الجوروجيين يفضلون الانضمام للاتحاد الأوروبي، في حين يرى المحتجون أن قانون “العملاء الأجانب” يبعد حلم الانضمام للاتحاد.

ويعتقد المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR)، وهو مؤسسة فكرية، أن الحزب الحاكم في جورجيا يقود البلاد نحو مجال نفوذ روسيا.

“في السنوات القليلة الماضية، وخاصة على مدار الثمانية عشر شهرا الماضية، قام الائتلاف الحاكم في جورجيا بسلسلة من التحركات التي يبدو أنها تهدف إلى إبعاد البلاد عن الغرب وتحويلها تدريجيا إلى مجال نفوذ روسيا” ،وفقا لتقرير صادر عن
ECFR، في ديسمبر 2021.

ويشير التقرير إلى بيدزينا إيفانيشفيلي، رئيس الوزراء السابق والملياردير، كقوة دافعة وراء هذا التحول نحو موسكو.

وذكر التقرير أن “جزء كبير من المسؤولية عن هذا الانحراف عن الاتحاد الأوروبي يقع على عاتق الأوليغارشي ورئيس الوزراء السابق، بيدزينا إيفانيشفيلي”.[14]

ثالثا: تفاعلات الحرب الروسية الأوكرانية…مستنقع جورجيا القادم

شكلت الأزمة  بين روسيا وجورجيا حول أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا بكل  حيثياتها وتفاصيلها المختلفة مؤشرا واضحا على  بداية التنافس الاستراتيجي بين الطرفين الروسي والأمريكي يمتد من الجوار القريب لروسيا مرورا بالفضاء الأوراسي والأوربي وانتهاء بالفضاء العالمي بشكل عام.[15]

وتبدو استراتجية الرئيس بوتين  مخالفة لاستراتيجياته السابقة في شنِّ الحروب، فالرئيس الروسي أصبح يتبع أسلوب الحرب الهجينة[16] كما سبق له في تدخله العسكري في جورجيا لفصل أبخازيا و أوسيتيا في 2008، ثم في ضم جزيرة القرم، ودعم الانفصاليين في إقليم دونباس الأوكراني في 2014، وقد تكلَّلت جميعها بالنجاح لأنها تشترك في عدد من الميزات الرئيسية:[17]

  1. يغلب على سكان هذه الأقاليم الانتماء لروسيا؛ إذ يتحدثون اللغة الروسية، ويحمل أعداد منهم جوازات سفر روسية، ويكوِّنون بذلك بيئة صديقة للقوات الروسية، تحفز بوتين على تنفيذ ضرباته من دون تكبد خسائر بشرية.
  2. يوجدون في أطراف دولهم، أبخازيا وأوسيتا في شمال جورجيا، والقرم في جنوب أوكرانيا على البحر الأسود، وإقليم دونباس في شرق أوكرانيا؛ ما يجعل قدرة دولهم على السيطرة عليهم ضعيفة.
  3. توجد هذه الأقاليم بمحاذاة الحدود الروسية، فيسهل على موسكو إمدادها بالعدد والعتاد.
  4. هي أقاليم ذات مساحات صغيرة، لا تحتاج روسيا لقوات كبيرة للسيطرة عليها. [18]

يشير مراقبون إلى التشابه بين الوضع في جورجيا وأوكرانيا، فكلتاهما دولة سوفياتية سابقة وجدت نفسها عالقة بين الغرب والشرق، وقد تصاعدت الخلافات بين روسيا والغرب في شأن توسع “الناتو” في فترة ما بعد الحرب الباردة، منذ أن فتح الحلف آفاق منح العضوية لجورجيا وأوكرانيا خلال قمة بوخارست عام 2008. ومن ثم كانت حرب روسيا القصيرة عام 2008 مع جورجيا وضم بوتين شبه جزيرة القرم ودعمه الانفصاليين في شرق أوكرانيا عام 2014، وكانت بمثابة خطوات جادة لإظهار استعداده للتدخل العسكري لإحباط هذه الأهداف.[19]

لا شك في أن تفاعلات الحرب في أوكرانيا أثرت، خلال العام الماضي، في الأوضاع الداخلية في جورجيا. هناك رغبة واضحة لدى جزء من الجورجيين في الانتقام من موسكو، مصحوبة لدى هؤلاء أنفسهم بتعاطفٍ مع كييف، تم التعبير عنه من خلال انضمام متطوعين جورجيين إلى “فيلق الأجانب” الذي يقاتل إلى جانب القوات الأوكرانية، بالإضافة إلى مواقف علنية يتم التعبير عنها يومياً تخدم الفكرة نفسها. وفي مقابل ذلك، يتمسك قسمٌ آخر من الشعب الجورجي بالاستقرار الذي تنعم به البلاد منذ تسوية علاقاتها بموسكو في ظل الحزب الحاكم اليوم.

المتتبع لمواقف جورجيا إزراء الحرب الأوكرانية يجدها تتسم بالبرود الجانح إلى روسيا وغير المتفاعل مع تصريحات المسؤولين الأوكران، فقد كانت أوكرانيا تطمح في فتح الجبهة الجنوبية على روسيا لتطويقها والإضرار بمصالحها في منطقة القوقاز وتخفيف الضغط الروسي عليها، وقد تجلى ذلك في تصريحات رئيس وزراء جورجيا بأن السلطات الأوكرانية تحاول جرّ بلاده إلى الحرب مع روسيا، وأن المحاولات لا تتوقف لكن الحكومة تقوم بالكثير من العمل لمنع هذا الاختبار الصعب، وذلك ردا على سكرتير مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني الذي دعا جورجيا لفتح جبهة ثانية ضد روسيا معتبرا أن هذا “سيكون مفيدا جدا لأوكرانيا”.[20]

رابعا: الجدل بشأن قانون العملاء الأجانب

تدخل التظاهرات التي هزّت جورجيا الثلاثاء والأربعاء في إطار أوسع من الأزمة السياسية التي تشهدها هذه الدولة القوقازية. وتطمح هذه الجمهورية السوفياتية السابقة، التي شهدت تدخّلاً عسكرياً روسياً في العام 2008، إلى الانضمام رسمياً إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وهو اتجاه اتخذ بعد “ثورة الورود” في العام 2003.

وأوصلت هذه الثورة إلى السلطة ميخائيل ساكاشفيلي الموالي للغرب، وهو الآن في السجن حيث يندّد بانتقام سياسي. لكن عدداً من الخطوات التي اتخذتها الحكومة الحالية أخيراً، مثل مشروع قانون “العملاء الأجانب”، ألقى بظلال من الشك على ما إذا كانت التطلّعات الموالية للغرب ستستمر، في الوقت الذي تتهمها فيه المعارضة بدعم موسكو.

كان التشريع المثير للجدل يتطلب من المنظمات التي تحصل على 20٪ أو أكثر من دخلها السنوي من الخارج التسجيل كـ “عملاء أجانب” أو مواجهة غرامات باهظة. وهو اقتراح يحذر خبراء حقوق الإنسان من أنه سيكون له تأثير مخيف على المجتمع المدني في البلاد ويلحق الضرر به.

وتعتبر المعارضة هذا القانون إنه يشبه قوانين مماثلة تستخدمها روسيا لقمع المعارضة السياسية. وإن الإعلان عن إرجاء مشروع القانون لقي ترحيباً من مكتب الاتحاد الأوروبي في الجمهورية السوفيتية السابقة.

وتصنيف “العميل الأجنبي” في روسيا يذكّر بعبارة “عدو الشعب” العائدة للحقبة السوفياتية والذي استخدمته السلطات الروسية بشكل مكثّف ضد معارضين وصحافيين ونشطاء في مجال حقوق الإنسان اتهموا بممارسة أنشطة سياسية بتمويل أجنبي.

وبحسب التشريع الروسي الذي أدخلت عليه تعديلات مؤخرا يمكن اعتبرا كل شخص “خاضع لتأثير أجنبي” أو يتلقى دعما من الخارج، ليس فقط تمويلا خارجيا، “عميلا أجنبيا”.

ويطلب القانون الروسي من المنظمات التي تشارك في النشاط السياسي وتتلقى التمويل من الخارج التسجيل كوكلاء أجانب والالتزام بالقواعد والقيود الصارمة.

تم تحديث القانون الروسي بشأن العملاء الأجانب تدريجيا منذ ذلك الحين، ليشكل العمود الفقري لقيود أكثر إحكامًا على المجتمع المدني في روسيا على مدار العقد الماضي.

وركزت التقارير الغربية على حركة الاحتجاج الواسعة ضد القانون الذي يهدد الديمقراطية من وجهة نظر غربية، ما يفسر المساعي الغربية لمنع تخلي جورجيا عن الخط الغربي بإبقائها حليفاً على غرار أوكرانيا.

على رغم سحب مشروع القانون فإن الحكومة الجورجية لم تتخلَّ كلياً عن المقترح، بل قالت إنها ستطلق ما يشبه حواراً مجتمعياً لشرح الهدف من مشروع القانون وأهميته، وإنها أرسلت مشروع القانون إلى “لجنة البندقية”، وهي هيئة تندرج ضمن “المجلس الأوروبي” تقدم المشورة للبلدان في شأن التبعات المحتملة لمشاريع القوانين على الديمقراطية وحقوق الإنسان.

سيؤثر تمرير مثل هذا القانون حتماً في العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة، وفرص جورجيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، الذي حذر في بيان له الثلاثاء من أن القانون “يتعارض مع قيمه ومعاييره، وستكون له عواقب خطيرة على علاقاتنا”.[21]

إن الشعور المناهض لروسيا أمر شائع في جورجيا – التي كانت ذات يوم جزءًا من الاتحاد السوفييتي – بسبب الغزو الروسي للبلاد في عام 2008، وسيطرتها على المنطقتين الانفصاليتين أوسيتا وأبخازيا، اللتين منحتا موسكو سيطرة على 20% من مساحة البلاد وورقة رابحة بيد موسكو عملت ولاتزال، وستظل على استغلالها لدخول البيت الجورجي من النافذة الأبخازية، وبذلك تطرح تطرح الازمة الأوكرانية الحالية على صعيد منهجية العلاقات الدولية، إشكالية “الأقلية الذريعة” لتدخل دولة في شؤون دولة أخرى، أو “الأقلية الأداة” لممارسة الضغوط والابتزاز على السلطات القائمة في دولة ما في آلية تجعل من هذه الأقلية عنصر مساومة في العلاقات بين دول متجاورة.[22]

وقد أصبح هذا السلوك الروسي منهجا قائما بذاته في السياسة الخارجية الروسية، فللمرة الخامسة عمل بوتين على تكرار تجاربه السابقة في قضم أقاليم الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفيتي والتي أصبحت تتخذ موقفا عدائيا من روسيا، وتميل في توجهاتها السياسية والاقتصادية أكثر إلى الغرب.

يمكننا القول بإن السياسة الخارجية الروسية في مرحلة الرئيس فلاديمير بو تين تواجه مجموعة من التحديات الأمينة – الاستراتيجية، في إطار الاستراتيجية الأمريكية لمحاصرة و تطويق روسيا الاتحادية ومنعها من استعادة نفوذها  في مناطق مجالها الحيوي المتمثلة بالفضاء السوفيتي السابق، وقد اشتملت هذه التحديات على محاولات  اختراق الأمن القومي الروسي في ظل السعي الأمريكي توسيع حلف  شمال الأطلسي ونشر الدرع الصاروخي الأمريكي في أوربا الشرقية، إلى جانب تحديات اختراق المجال الحيوي الروسي في ضوء توظيف جورجيا اوكرانيا  ودول البلطيق بالضد من المصالح الروسية في دول الخارج القريب.

 

[1] Foreign Policy Strategy  2006-2009 , Ministry of Foreign Affairs of Georgia, pp. 9-10  Retrieved on 2023-03-13, available at: http://www.mfa.gov.ge/files/115_1973_997704_Strategy_MFA2006-2009En.pdf

[2] – زميلة باحثة ونائبة مدير برنامج أوراسيا في معهد أبحاث السياسة الخارجية. وهي محررة مشاركة في مجلد المعهد لعام 2017: «هل الديمقراطية تهم؟ الولايات المتحدة ودعم الديمقراطية العالمية». تتضمن مجالاتها البحثية الجغرافيا السياسية لمنطقة البحر الأسود والقوقاز، ودول أوروبا الوسطى والشرقية الشيوعية السابقة، وسياسات التوسع الشرقي في الاتحاد الأوروبي والسياسة الخارجية الروسية.

[3]حرب روسيا وجورجيا بعد مرور 10 أعوامهل تعلّم الغرب؟ ترجمة محمد الهادي، المجلة، 23 نوفمبر 2018 على الرابط: bit.ly/3lb6FuP

[4] – محمد سيف الدين، طريق جورجيا الضيّق بين هوّتين، صحيفة الميادين، 12 مارس 2023 على الرابط: bit.ly/3Th6cE6

[5] – جهاد عودة، مروة حامد البدري، إيمان عبد العال،الحرب الروسية –الجورجية: استعادة النفوذ الروسي في جورجيا، المجلة العلمية للبحوث والدراسات التجارية المجلد 31 – العدد 1 ، ص: 107.

[6] – Jentzsch, Greg,”What are the main causes of conflict in South Ossetia and how can they best be addressed to promote lasting peace?”, The BSIS Journal of International Studies, Vol.(6), 2009, On the Website: bit.ly/407QHAI

 

[7] – محمد سيف الدين، المرجع السابق.

[8] – نورهان الشيخ. روسيا وأزمة اوسيتيا الجنوبية توازن جديد للقوى الدولية. مجلة السياسة الدولية. العـدد 174 مركـز الأهـرام. القاهرة  2008، ص73

[9] – سعيد السعدي، تداعيات الأزمة الروسية الجورجية… المرجع، ص: 99

[10] – كامران محمد أمين، السياسة الدولية في ضوء فلسفة الحضارة، دراسة تحليلية ناقدة، دار المعرفة، بيروت، ط 1، 2009، ص: 406

[11] – عمرو عبد العاطي، عودة النفوذ الروسي في أوربا الشرقية، مجلة السياسة الدولية،  العدد 181، مركـز الأهـرام. القاهرة  يوليو 2010، ص: 202.

[12] – تامر خرمة، معركة الاستقطاب بين روسيا والغرب تفجر الاحتجاجات في جورجيا، العربي الجديد، 11 مارس 2023، على الرابط: bit.ly/3lbLFEe

[13] – أبعد من مسألة قانون.. صراع النفوذ بين روسيا والغرب قد يطيل أمد احتجاجات جورجيا، العربي الجديد، 09 مارس 2023 على الرابط: bit.ly/3JcVhGZ

[14] Régis Genté, Broken Dream: The oligarch, Russia, and Georgia’s drift from Europe, The European Council on Foreign Relations, 21 December 2022, available at:  bit.ly/3l71xYR

[15] – سعد السعيدي، تداعيات الأزمة الروسية الجورجية على العلاقات الروسية الأمريكية، مجلة دراسات دولية، ص: 95

[16] – تتضمن الحروب الهجينة مجموعة من أنماط الحرب المختلفة، بما في ذلك القدرات التقليدية والتكتيكات والتشكيلات غير النظامية والأعمال الإرهابية التي تشمل العنف العشوائي والإكراه والفوضى الإجرامية ويمكن أن يكون هذا التنوع في الإجراءات من عمل الفاعل نفسه.

[17] – الحواس تقية، اجتياح أوكرانيا: المعضلات الاستراتيجية، مركز الجزيرة للدراسات، 27 فبراير 2022 على الرابط:

https://bit.ly/3tBwnc0

[18] – الحواس تقية، اجتياح أوكرانيا….المرجع  السابق.

[19] – إنجي مجدي، في المسألة الجورجية… قلق الحدود بين الأيديولوجيات، صحيفة اندبندنت، الأحد 12 مارس 2023 على الرابط:   bit.ly/3YMYOBz

 

[20] – علي الصاوي، هل تُشعل احتجاجات جورجيا بؤرة صراح جديدة بين روسيا والغرب؟ صحيفة ترك بريس، على الرابط:  bit.ly/3ZONeHd

 

[21] – – إنجي مجدي، في المسألة الجورجية….المرجع السابق.

[22] -محمد رفعت الإمام، جورجيا والأزمة الأبخازية، مجلة السياسة الدولية، العدد147، يناير 2002، ص: 141.

عن د. محمد بوبوش