الهيمنة والمساواة في السيادة
بقلم: إم. جي. بالون
ترجمة: أحمد سعود حسن
تاريخ الإصدار: ٢٠١٦
إن الكتب التي تَبحث في العلاقات الدولية والتي تستهدف القراء على المستويين الشعبي والمهني ليست بالقليلة. ففي كل عام تُصدر دور النشر مئات من العناوين التي تدرس هذا الموضوع من زوايا مختلفة، أما الكتب المتممة حول نظرية وتاريخ وسياسات وسلوك العلاقات الدولية فهي تلك التي تركز على موضوعات متخصصة مثل قانون البحار والانتشار النووي ونزع السلاح والتغير المناخي والعولمة والتجارة والتمويل العالمي والإرهاب، وعلى ضوء هذه التخمة في سوق الكتب فإنه من المنصف أن نتساءل ما الجديد الذي يمكن أن يقدمه نص آخر للقارئ؟
بلغة علم الاقتصاد تكمن القيمة المضافة لهذا الكتاب في محاولة استكشاف العلاقات الدولية من زاوية جديدة، أي من زاوية الدول التي لا تكون قوية عسكرياً ولا مزدهرة اقتصادياً كتلك الدول التي تدير شؤون العالم والتي لا تستحوذ على انتباه الباحثين. ينطلق هذا الكتاب من الافتراض القائل: إنَّ دراسة العلاقات الدولية بشكل حقيقي يستلزم الإقرار بتعايش الأقوياء مع الضعفاء. وبناءً على هذا الافتراض، يضع هذا الكتاب إطاراً من المفاهيم والذي من المحتمل أن يثبت بأنه ذو فائدة في فهم الصراع والتناغم بين مختلف أنواع المصالح سواءً كانت مصالح الأقوياء الضعفاء أو مصلحة الدولة أو مصالح اللاعبين من خارج إطار الدولة.
يرسم الكتاب الخطوط الأساسية لنظرية جديدة وهي نظرية تقارب المصالح، ويبدأ بتحديد ثلاثة أنواع من المصالح بشكل عام. المصلحة الأولى هي مصلحة الفرد فيما يتعلق باهتماماته هو وليس اهتمامات أي شخص آخر، والنوع الثاني بالإضافة إلى المصلحة الشخصية هي مصلحة الدولة التي تعمل لمصلحة مجتمع من الأفراد وبالنيابة عنهم. أما النوع الثالث من المصالح فهي مصلحة المجتمع الدولي أو دول ذات سيادة وفي حالة تنافس فيما بينها. ويؤكد الكتاب أن أهمية كل نوع من أنواع هذه المصالح لا يمكن فهمها بشكل كامل ما لم يتم تحليل المسافة أو التقارب بين كل نوع من هذه المصالح.
لتوضيح نماذج معينة في عملية بروز أنماط مختلفة من المصالح، يستند هذا الكتاب إلى أسطورة آدم وحواء وذريتهما، والسلالات التي انحدرت منهما، فيلحظ الكتاب بشكل خاص أنه في بداية الأمر لم يكن يهم آدم إلا نفسه، فقد كان باستطاعته أن يتجول في طول وعرض جنة عدن كما شاء، وأن يزيل أي شيء يعترض طريقه. ولو كان لديه معرفة مسبقة عن مؤامرة الحيّة لكي تبعده عن الأرض الملعونة، ما كان هناك شيء يمنعه من قطع رأس الحيّة المتآمرة ويعيش في نعيم إلى الأبد. لقد كان بإمكان آدم أن يتصرف دون أن يسأله أحد ماعدا ضميره وربما الخالق إن كان يعرف الخالق حقاً. إن حياة آدم البسيطة والخالية من الهموم منحته كل الحقوق، ولم تكن عليه واجبات والتزامات ماعدا واجباته تجاه نفسه وتجاه بقائه ورفاهيته.
بيد أن الحالة اختلفت عندما ظهرت حواء في المشهد، فكان على آدم الآن أن يهتم بأمزجة رفيقته الجديدة. كان لا بد أن تُعدَّل قليلاً “نظريته حول السيادة الفردية”، إذا جاز لنا أن نسميها كذلك، لتستوعب هذا المتغير وهو زوجته، فقد ازدادت القيود على أعمال آدم الأحادية الطرف كلما ازداد عدد أفراد عائلة أول زوجين وتكاثروا. لقد استلزم تكاثر السكان وضع وتنفيذ مجموعة من المبادئ والقوانين الأخلاقية بهدف تنظيم العلاقات ما بين الأفراد وما بين الجماعات، وتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات. وحتى وقتذاك ولآلاف السنين، كان المتحدّرون من آدم يحرسون وبغيرة حرياتهم الفردية، وهكذا كانت زيادة عدد السكان في إحدى المناطق تهدد حرية إنسان الكهوف التقليدي، وكان ينتقل مع أقربائه أو قبيلته إلى منطقة أخرى.
استمرت موجة الهجرة حتى غطَّت كل شبر من الأرض ولم يبقَ هناك من مكان للذهاب إليه. وعند هذه النقطة بالذات دخل الأفراد الأقوياء ذوو السلطة والموارد وفوق كل شيء الإرادة لفرض النظام وتنظيم سلوك المجتمعات الجنينية. ومنذ هذه المرحلة المبكرة حتى الوقت الحالي كان على المجتمع المنظم أن يعالج مسائل مثل أخلاقية السلطة، ولماذا يجب على الفرد أن يكبح نزوعه الطبيعي نحو الحرية ويختار الطاعة لسلطة خارجية بدلاً من ذلك، وما الذي يشكل حدود السلطة، وكيف نستجيب لتوق الإنسان الأساسي للعدالة.
وفي حين أن الدولة الحديثة مستمرة في التصارع مع هذه القضايا، برز نمط جديد من السيادة له منظومته الخاصة ليس من الدولة فحسب، بل أيضاً من الأفراد الذين كانوا حتى تلك اللحظة خاضعين للسيطرة الحصرية للدولة.
إن أحد الأسئلة التي يسعى هذا الكتاب للإجابة عليه، هو فيما إذا كان الانتقال المتدرج من حالة الفوضى أو حالة “دولة الطبيعة” مروراً ببروز الدولة القومية ووصولاً إلى العقيدة الدولية، هو حدث تاريخي عارض أم حقيقة لا مفرَّ منها للتطور الإنساني. وبكلمات أخرى، هل يمكن تتبّع رحلة آدم نحو العقيدة الدولية عبر مسار تاريخي يمكن التنبؤ به كما هي الحال في النتائج الفيزيائية الجبرية؟. وكما يبين هذا الكتاب فإن رحلة آدم من دولة الطبيعة مروراً بالدولة المبنية وفق معاهدة ويستفاليا Westphalia وصولاً إلى العقيدة الدولية، يمكن فهمها على أحسن وجه ليس كحركة أحادية الاتجاه، بل كتجربة متعددة الأطراف.
تبين نظرية تقارب المصالح أنه بدلاً من أن تكون رحلة الإنسان منذ البداية حتى الوقت الحالي رحلة ميسرة ذات اتجاه واحد، فإنها كشفت عن وجود ثلاثة أنماط من المصالح بشكل عام. المصلحة الأولى هي المصلحة الفردية والتي على غرابتها تميل إلى أن تكون متناقضة، كما يتجلى ذلك في الميل الطبيعي لدى الإنسان لأن يتأرجح بين الخير والشر، وبين الخطأ والصواب. والنوع الثاني من المصالح هو مصلحة المجتمع أو المصلحة الوطنية، والتي من الصعب أكثر مناغمتها نظراً لصدام الإرادات. أما المصلحة الثالثة فهي المصلحة التي تبرر إنشاء المؤسسات المتخطية للحدود القومية والحفاظ عليها.
وعلى الرغم من تصارعها، فإن بعض المصالح ونظراً لتقاربها يمكن التوفيق فيما بينها بسهولة أكبر من التوفيق بين مصالح أخرى. وهذه نظرياً هي الحالة مع مصلحة الفرد تجاه نفسه وعلاقته مع مجتمعه المباشر، في حين أن مصالح أخرى متباعدة تباعد القطبين وتحتاج إلى جهود غير عادية لأن تصبح متطابقة بشكل متبادل، ومثال على ذلك هي الرغبة في الاستعمار مقابل إرادة المقاومة أو المصلحة النموذجية للدولة أو لمواطنها ومصلحة المؤسسة التي ترعاها مؤسسات دولية بعيدة المكان.
وفي إطار تتبعه للصلات ما بين الأنماط الثلاثة من المصالح، يبدأ هذا الكتاب بنزهة فلسفية قصيرة حيث يولي اهتماماً خاصاً للزوايا المختلفة التي ينظر من خلالها إلى كيفية حصول الفرد على معرفة الخطأ والصواب. بعد ذلك ينطلق هذا الكتاب في الفصل الثاني ليبحث في مضامين المعرفة البشرية للحرية الفردية، وعلى خلفية الأسئلة المعرفية والوجودية التي تم طرحها في الفصول الأولى، يبحث الفصل الثالث في الزوايا المتنافرة التي يُنظر من خلالها إلى نظرية الدولة وبشكل خاص إلى الظروف التي في ظلها يبرر للدولة أن تضع مصلحة المجتمع فوق مصلحة الفرد. أما الفصل الرابع فيركز على إقحام ثوابت الحكم الرشيد للمؤسسات المتخطية للحدود القومية في معادلة السيادة والصراع ما بين التفسيرات المثالية والواقعية للنظام الجديد. إن كفاية أو عدم كفاية التفسيرات المتضاربة للتغيير (أم هل هو تطور تدريجي؟) من حالة الفوضى إلى “نظام عالمي جديد” هو موضوع الفصول اللاحقة.
بالإضافة إلى اقتراحها أداة تحليلية جديدة ليتم دراستها وتبنيها من قبل المهنيين في مجال العلاقات الدولية، فإن من المحتمل أن تثير نظرية تقارب المصالح جدلاً شعبياً حول قضايا معاصرة من أبرزها دور القوى العظمى في الحفاظ على النظام، والصدام ما بين الهيمنة والمقاومة ومدى وحدود الحرب على الإرهاب، والخيارات المفتوحة أمام العالم في المحاولات الرامية لكبح جماح الفوضى وتعزيز سلام دائم. ومن المؤمل أن يجد صناع السياسات في مختلف أنحاء العالم الخيارات التي تم تحديدها في هذا الكتاب خيارات عملية ومفيدة فيتم دمجها في الرؤى الاستراتيجية العالمية.
إنني ممتن بشكل خاص للزملاء المهنيين الذين قدموا تعليقات مفيدة على المسودات الأولى، كما يجب عليّ أن أشكر أولئك القراء المجهولين لما قدموه من تعليقات مفيدة على المخطوطة، ولكن الأهم من ذلك، لما قدموه من إشارات مفيدة حول التغييرات التي كنت بحاجة لإدخالها في الأجزاء المختلفة من الكتاب. ولكنه يجب عليّ أن أتقبّل المسؤولية عن أيَّة أخطاء متبقية.
إم. جي. بالون
لتحميل الكتاب: الهيمنة والمساواة في السيادة