الرئيسية / النظرية السياسية / فكر وفلسفة سياسية / فلسفة مفهوم الحرية في الفكر الإنساني المشترك وأثرها السياسي(1)
Freedom and the individual
فلسفة مفهوم الحرية في الفكر الإنساني المشترك وأثرها السياسي(1)

فلسفة مفهوم الحرية في الفكر الإنساني المشترك وأثرها السياسي(1)

فلسفة مفهوم الحرية في الفكر الإنساني المشترك وأثرها السياسي(1)

د. محمد أحمد عبد السلام

 

الحرية مفهوم من المفاهيم الكبرى التي تحكم وعي الإنسان، فتُحرك مشاعره وتوجه فعله، مثل مفاهيم الحياة والموت والأمل، وهي لذلك من المفاهيم التي يصعب تحديدها تحديدًا جامعًا مانعًا، نظرًا لتأثرها بالخبرة الاجتماعية وارتباط معانيها بجملة من المفاهيم المساوقة، وبغير الحرية والمساواة بين البشر جميعًا فيها لن تقوم قائمة للإنسانية؛ لذا هبت البشرية في ثورات متتالية ومتكررة ومتنوعة بحثًا عن الحرية، والمطالبة بها، والمحافظة عليها للجميع دون التفريق بين إنسان وأخيه.

لذا كان إعلان حقوق الإنسان وثيقة فرنسية تحدد مبادئ الحرية الإنسانية وحقوق الأفراد، والاسم الكامل للوثيقة هو إعلان حقوق الإنسان والمواطن، وتنص المادتان الأولى والثانية على أن جميع الناس أحرار ومتساوون في الحقوق التي تشمل: الحرية، وحق التملك، والأمان، ورفض الظلم، وتختص مواد الإعلان الخمس عشرة الأخرى بكل من أنظمة الحكومة وحقوق المواطنين وواجباتهم.([1])

كما أقرت الجمعية الوطنية الفرنسية الإعلان في 26 أغسطس 1789م، وذلك أثناء الثورة الفرنسية، وقد ساعد رفض الملك لويس السادس عشر قبول الإعلان على إيجاد أنشطة ثورية متزايدة في أكتوبر 1789م.([2])

مما يؤكد أن الإنسانية تناضل من أجل الحرية والمساواة، ولم تهدأ إلا بعدما وصلت إلى أول الطريق في هذا المضمار، وإذ نحاول في هذه العجالة إظهار إشكالية الحرية في الفكر الغربي الحداثي، وبيان أن الفكر الحداثي قدَّم لنا مفهومين متقابلين ـ لا مفهومًا واحدًا ـ للحرية: المفهوم البريطاني الذي يرى أنَّ الحرية تفَلُّت من القيود الاجتماعية؛ إذ ظهرت المناداة بالحرية الجنسية كالمثلية وغيرها، كذا ظهر التفلت الأخلاقي الناجم من المطالبة بالحرية، وهو بهذا الفكر مفهوم مغلوط، والمفهوم القاري الذي يؤكد على أنَّ الحرية ناجمة عن التزام الفرد والمجتمع بالواجب.

كذلك وجب ربط تطور مفهوم الحرية بالسياق التاريخي للمجتمع الغربي، وإبراز أهمية توظيف النموذج العملي المرتبط بآلية (المطالبة)، وعدم الاكتفاء بالتحليل النظري للحرية، وانتهت إلى بيان أهمية دراسة النموذج العملي لفهم المفارقة بين التأكيد النظري على استحقاق الإنسان للحرية ونزوع الديمقراطيات الغربية إلى الهيمنة الخارجية.

السياق الاجتماعي والتاريخي:

تتحدد عملية تطوير المفهوم بتجريده عن سياقه الزماني والمكاني؛ أي عن السياق الثقافي والتاريخي المواكب، هذا التجريد عنصر أساسي في عملية فهم التجربة الإنسانية، وشرط أولي لتحويل الظاهرة المعيشة إلى فكرة متداولة وخطاب معرفي، وكما نعلم جميعًا، فإنَّ عملية التجريد هذه تتم عبر تخليص المفهوم من خصوصياته الزمانية والمكانية، وإعطائه سمة إنسانية عامـة تتجاوز التجربة الخاصة للأفراد والجماعات التي تشكل تجربتهم، القاعدة التي ينطلق منها المفكر أو الباحث في عملية التجديد؛ أي إنَّ التجريد يتم دائمًا من حالة مشخصة عبر عملية الاستقراء لتحديد العناصر الكلية المشتركة في التجربة أو الخبرة المرصودة، وهنا تكمن المفارقة، فعملية التجريد الهادفة إلى تحديد المفهوم الكلي الذي يتجاوز الخصوصيات الزمانية والمكانية، تنطلق دائمًا من تجربة محدودة في الزمان والمكان، وتعتمد أفرادًا وجماعات لا تتطابق أحوالها وظروفها تطابقًا كاملًا مع ظروف وأحوال الجميع.

إظهار المفارقة المشار إليها آنفًا لا يهدف بطبيعة الحال إلى التشكيك بأهمية التجريد، أو التقليل من أهمية الجهود الفكرية الرامية إلى البحث عن الكليات في التجارب الإنسانية، بل ترمي إلى التنويه بضرورة التعامل مع عمليات التجريد والإشارات الكلية في الخطاب الفكري والبحث الاجتماعي المعرفي على أنها تجريدات وكليات غير نهائية، وبالتالي التنبيه إلى عناصر الاختلاف والتطابق بين الخصوصيات التاريخية المساوقة لتطوير المفهوم المعتمد، وخصوصيات التجربة التاريخية الراهنة.

بعبارة مكافئة نقول بأن المفارقة المذكورة تؤكد حيوية التجربة الإنسانية، وضرورة تجديد الفكر والخطاب لاستيعاب الخصوصيات الراهنة، ومحاذير التعامل مع المعرفة المستقاة من التجارب الإنسانية السابقة، أو تجارب المجتمعات السياسية المغايرة على أنها معرفة ناجزة، وصالحة لكل زمان ومكان.

إشكالية الحرية والخصوصيات التاريخيـة:

عودة سريعة إلى الوراء تظهر لنا أنّ الإشكالية السياسية الأساسية التي واجهها الفكر الإغريقي هي إشكالية العدل، فكتابات الفلاسفة الإغريق تشدد على مفهوم العدل باعتباره مفهومًا مفتاحيًّا في الحياة السياسية والأخلاقية، لذلك نجد أفلاطون، مؤسس الفلسفة العقلانية التي انبنت عليها الفلسفة الحديثة، يعطي العدل الأولوية المعيارية في النظام السياسي والأخلاقي الذي كرَّس جهده لتحديد معالمه، ولا نكاد نجد لمفهوم الحرية أثرًا في منظومته الأخلاقية والسياسية. فالمجتمع السياسي الفاضل هو المجتمع السياسي العادل. ويتحقق العدل في المجتمع من خلال تكامل جهود أفراده، وقيام كل فرد بالوظيفة الاجتماعية التي تتناسب مع مهاراته واستعداداته النفسية والجسدية([3]).

ومن هنا اعتبر أفلاطون أن التوازن والاعتدال السلوكي في الفرد، والتكامل الوظيفي والانضباط في استخدام الموارد المتاحة على مستوى المجتمع السياسي، القاعدة الأساسية لتحقيق مجتمع سياسي عادل. كذلك ربط أرسطو من بعده المجتمع السياسي النموذجي بغياب التباين الاقتصادي بين فئات المجتمع، وانتماء الكثرة الغالبة من أبناء المجتمع إلى طبقة متوسطة، تمارس نشاطها الاجتماعي بعيدًا عن حالة الفقر المدقع أو الثراء الفاحش. فالاعتدال الاجتماعي المبني على تقارب الموارد والإمكانيات، والاعتدال النفسي المتمثل بانضباط الفرد بمجموعة من القيم تحول دون تطرفه السلوكي، شرطان أساسيان عند أرسطو لتحقيق مجتمع عادل.([4])

استبعاد الفلاسفة الإغريق لمفهوم الحرية من منظومتهم المعيارية لم يكن نتيجة جهل بالدلالات السياسية والاجتماعية لهذا المفهوم، بل نجم في تقديرنا عن المعطيات العملية لتطبيق مفهوم الحرية في المجتمع الإغريقي التاريخي. فقد واكب بروز المدرسة الفلسفية العقلانية في التاريخ الإغريقي مرحلة التحول الديمقراطي الذي شدَّد على ربط العدالة القانونية باختيار الأغلبية من جهة، والذي واكب فترة اتسمت بالتفلت من الضوابط الأخلاقية، استخدم خلالها مفهوم الحرية كذريعة لتبرير التجاوزات السلوكية.

يكتب أرسطو واصفًا مفهوم الحرية عند الديمقراطيين الإغريق قائلًا: “يدعو الديمقراطيون إلى إقامة الدولة على أساس أن إرادة الأغلبية هي العليا، ويؤكدون أن الحرية تقتضي أن يعيش كل فرد كما يشاء، بدعوى أن تقييد حرية الإنسان علامة من علامات العبودية”([5])، ومن هنا اعتبر الفلاسفة الإغريق أنَّ الحرية انفلات يتناقض مع الحياة الأخلاقية المبنية على الالتزام.

بالمثل لم تتحول الحرية إلى مبدأ سياسي أو أخلاقي في الحضارة الإسلامية. الإشكالية السياسية التي واجهها المجتمع الإسلامي هي إشكالية تحقيق النظام السياسي وتجاوز الفوضى السياسية والتشرذم القبلي، وهي لذلك عكس الإشكالية التي واجهها الفكر الغربي الحديث في جهده لتجاوز الاستبداد الإقطاعي والملكي إبان بروز الدولة الديمقراطية الحديثة في أوربا؛ لذلك نجد الأدبيات السياسية في التاريخ الإسلامي تركز على مفاهيم الطاعة والانقياد إلى الشريعة بل نجدها تبرر إمارة المتغلب إذا رافقها عمل بأحكام الشريعة.([6])

الحرية تحرير للفرد من القيود الاجتماعيـة:

لعل أولى الكتابات الغربية التي حاولت إظهار إشكالية الحرية في سياقها الحديث تلك التي قدَّمها توماس هوبز البريطاني، يعرف هوبز الحرية قائلًا: “الحرية بمفهومها الصحيح هي غياب القيود الخارجية التي تحول بين الإنسان وفعل ما يمليه عليه عقله وحكمته”.([7])

بيد أنَّ هوبز يدرك أنَّ حرية الفرد غير مستقلة كُلِيًّا عن حرية الجماعة السكانية التي ينتمي إليها، وبالتالي فهي غير مستقلة عن مفهوم النظام السياسي القوي القادر على تحقيق الأمن والعدل لأفراده، ولأنَّ الفوضى السياسية خطر على أمن الأفراد، فقد رأى هوبز أن يمنح الحاكم سلطات واسعة لتحقيق الأمن والحيلولة دون الفوضى والتنازع السياسي.

وطاعة السلطة السياسية واجب على الأفراد، لكنها واجب منبثق عن عقد اجتماعي يوحد المجتمع السياسي، وبالتالي فإنَّ سلطة الحاكم مستمدة من المجتمع السياسي، لا من سلطة خارجة عنه، والسلطة السياسية التي يمنحها هوبز للحاكم واسعة، لكنها محدودة بالقانون الطبيعي، وبالتحديد بحق الأفراد الدفاع عن أنفسهم وممتلكاتهم.

يعتبر توماس هوبز رائدًا في الفكر السياسي الحداثي؛ إذ إننا نجد في كتاباته جهدًا واضحًا لربط الحقوق والحريات السياسية بمفهومي القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي اللذين يشكلان القاعدة التي يقوم عليها النظام الديمقراطي الحديث، كذلك نجد في كتابات هوبز مفهوم الحرية الذي تبنته الفلسفة السياسية البريطانية، ثم الأمريكية، ليصبح اليوم المفهوم السائد في الأدبيات الغربية بعد أن هيمنت الرؤية السياسية البريطانية – الأمريكية على النظام السياسي العالمي، فالحرية كما يعرفها ويعرضها هوبز تستلزم إطلاق إرادة الفرد، وهي بالتالي تتناقض مع مفهوم العقد والقانون: “لقد أقام الناس قيودًا مصطنعة أسموها القانون المدني، كما أقاموا كيانًا مصطنعًا أسموه المجتمع السياسي، وذلك بغية تحقيق السلام والأمن”.([8])

وعلى الرغم من تأكيد هوبز على أن القانون الطبيعي يعطي الإنسان حرية مطلقة في التصرف، فإننا نراه يدعو في كتاباته إلى التخلي عن الحرية لحاكم مطلق من أجل تحقيق السلام والأمن، فسلطة الحاكم لا يحدها سوى الحق الطبيعي للفرد في الدفاع عن حياته أو ممتلكاته، هذه الرؤية للدولة الحديثة خضعت فيما بعد إلى تعديلات مهمة في المدرسة البريطانية، لعل أهمها تعديلات جان لوك الذي اعتمد البناء الأساسي الذي طوره هوبز، والقائم أساسًا على مفهومي القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي.

احتفظ جون لوك في كتاباته بمفهوم الحرية الهوبزي، لكنه خالفه في مدى السلطات المطلوب إعطاؤها للحاكم لتحقيق الأمن والسلام، فغاية المجتمع السياسي لا تتحدد فقط في الأمن والسلام، بل وأيضًا الحرية، وبالتالي يتوجب على السلطة السياسية احترام الحريات، إضافة إلى توفير الأمن والسلام، وفي حين أطلق هوبز سلطة الدولة، وأعطى الحاكم حق التصرف طالما عمل على حفظ أمن المواطنين وممتلكاتهم، نرى لوك يجنح إلى تقييد سلطة الدولة وحصرها في وظائف ثلاثة: تحقيق أمن الأفراد، وحفظ ممتلكاتهم، وصيانة حرياتهم الشخصية والعامة.([9])

الحرية تطابق بين إرادة الفرد والمجتمع:

مفهوم الحرية باعتبارها فقدان القيود الاجتماعية، البريطاني الأصل، واجه تحويرًا هامًّا في كتابات الفلاسفة الفرنسيين والألمان، أو ما يشار إليه أحيانًا بالفلسفة القارية (Continental Philosophy)، ذلك أنَّ الفلاسفة القاريون عمدوا، بدءًا بكتابات روسو، إلى تطوير مفهوم آخر للحرية يقوم على تطابق إرادة الفرد وإرادة الجماعة السياسية؛ ففي كتابه الشهير “العقد الاجتماعي” سعى روسو إلى تحديد إشكالية الحرية على النحو الآتي: “كيف نحدد شكل الرابطة السياسية القادرة على حماية حياة أعضائها وممتلكاتهم من خلال تضافر قواهم من ناحية، والتي تسمح للأفراد بإطاعة إرادتهم الشخصية المستقلة”.([10])

الحرية والعقلانية عند الفلاسفة:

لم يلبث الاتجاه الجديد الذي اتخذه روسو في تعريف الحرية أن أخذ بعدًا فلسفيًّا متكاملًا في كتابات هيغل، فالحرية كما يراها هيغل هي نقيض الحرية في المفهوم الهوبزي البريطاني؛ إذ يؤكد هيغل أن الحرية الحقيقية للفرد تتحقق من خلال التزامه بالواجب:

و”تظهر الواجبات وكأنها قيود للذوات المائعة التي تنظر إلى الحرية على مستوى التجريد، وكذلك للإرادة الطبيعية في الإنسان، أو التي تحدد معنى الحياة الطيبة بطريقة عشوائية، في حين يحقق الإنسان حريته على أرض الواقع من خلال التزامه بالواجب، فالواجب يحرر الإنسان أولًا من التبعية للنزوات الطبيعية، ومن الاكتئاب الناجم عن عجز الإنسان عن تحقيق الأمثل؛ وثانيًا يحرره من البقاء في حالة عدم تعين نتيجة استغراقه في معاني بعيدة كل البعد عن الحياة العملية”.([11])

الحرية إذن، كما يعرضها هيغل، ليست شعارًا يرفع بعيدًا عن الممكنات الاجتماعية، بل يجب أن تتحقق عبر استيعابها لهذه الممكنات، والممكنات الاجتماعية تقضي بأن قدرة الإنسان على العيش حياة تتسم بالحرية مرتبطة بالجماعة السكانية التي ينتمي إليها، وبالتالي فإن حرية الإنسان على الفعل تتوقف على تطابق القواعد التي تحكم فعله، والقواعد التي تحكم أفعال الآخرين من جهة، والانسجام بين هذه القواعد وإرادة الإنسان الذاتية.

مثل هذه المعادلة لا تتحقق إلا عند التزام الجماعة السكانية بمبادئ سلوكية مشتركة نابعة عن قناعة ذاتية لتلك الجماعة، أي في حياة أخلاقية مشتركة تتطابق فيها والواجب.

لذلك يعتبر هيغل الدولة قاعدة أساسية لتحقيق معنى الحرية؛ لأنها كما يرى، الكيان الوحيد القادر على نقل مفهوم الحرية من حيز التصور والوعي الوجداني إلى حيز التطبيق والممارسة الحياتية، بل يذهب هيغل إلى ربط الوجود الحقيقي والعملي للفرد بوجود الدولة التي تحقق على أرض الواقع القيم التي يحملها ويلتزم بها: “الدولة هي تجسيد فعلي للعقل، فإن الفرد يستمد حقيقته واستقلاليته ووجوده الأخلاقي عبر الانتماء إلى الدولة”.([12])

وعلى الرَّغم من أن هيغل يفرق في كتاباته بين الدولة والمجتمع الديني، ويعتبر الأخير مجالًا مهمًّا للممارسة التعددية، والمحافظة على التنوع الاجتماعي، بل ويعتبره المساحة الرئيسية في الحياة الاجتماعية لتجلي القانون، فإنَّه يجعل الدولة المحور الأساسي لتحقيق مفهوم الحرية الاجتماعية، ولأنَّ الدولة الحديثة تنزع بطبيعتها إلى المركزية وإلى الهيمنة على دوائر متزايدة من دوائر الحياة الاجتماعية، فقد ساهمت كتابات هيغل، كما ساهمت كتابات غيره من أقطاب الفلسفة القارية، إلى تهيئة النفوس والعقول لتقبل فكرة الدولة الفاشية التي سيطرت على مساحة واسعة من القارة الأوربية خلال النصف الأول من القرن العشرين.

إشكالية الحرية بين التفلت والتسلط:

تمكنت المدرسة القارية من تخليص مفهوم الحرية من معاني الانفلات والعبثية الذي اقترن بالمفهوم البريطاني للحرية، من خلال إعطائها محتوى أخلاقيًّا إيجابيًّا، لكنها في الوقت نفسه قيدت هذا المفهوم بالدولة، وبالتالي مهدت الطريق أمام النُخب الحاكمة لاستخدام سلطة الدولة لفرض مجموعة من القيم والتصورات على المجتمع، لتتيح بذلك الفرصة أمام الدولة للتسلط والهيمنة باسم الحرية وتحرير الإنسان.

ذلك أن المفاهيم التي طورتها المدرسة القارية قابلة للتفسير ـ وتم تفسيرها فعلًا ـ بطريقة تؤدي إلى تبرير الهيمنة والتسلط، بل نجد عبارات واضحة في كتابات رواد المفهوم الأخلاقي للحرية تدعو إلى استخدام القوة لفرض المشتركة للمجتمع: “يحق للمجتمع السياسي فرض المشتركة على كل من يرفض اتباعها، وهذا يعني أن البعض سيرغم على اختيار الحرية”.([13])

فرض الحرية على أفراد المجتمع يمكن أن يفهم على أنه إرغام للعناصر المنحرفة في المجتمع على اتباع القانون، وبالتالي التحرر من النزوات والمصالح الضيقة، لكنه يمكن أن يُفَسر على أنه دعوة إلى إلزام الأقلية الدينية والسياسية بخيارات وتصورات الأغلبية، أو فرض الرؤية الكلية للنخب الحاكمة على جمهور الناس باستخدام سلطة الدولة ومؤسساتها، وهذا يجعل مفهوم الحرية القاري غير مناسب في المجتمعات التعددية المركبة التي تجاوز الأشكال التنظيمية البسيطة المرتبطة بالمجتمعات القبلية أو الزراعية.

هذه المفارقة بين النزوع إلى التحرر من سيطرة الآخر، والرغبة في توظيف القوة الناجمة عن تحرير الذات من الهيمنة لفرض إرادة الذات على الآخر هي جوهر إشكالية الحرية في الفكر والحضارة الغربية الحديثة.

المفارقة ليست مفارقة نظرية صرفة، والإشكالية ليست إشكالية فلسفية وحسب، بل نجد تجليات ازدواجية مفهوم الحرية في الحركة التاريخية للمجتمعات الغربية، الحديثة أولًا، ثم المجتمعات غير الغربية التي تبنت النموذج الغربي.

تبدو المفارقة العملية لإشكالية الحرية بدءًا في تزامن المد الاستعماري الغربي مع حركات التحرر الغربية التي قضت على الأنظمة الملكية المستبدة، وشكل التنوع في مفاهيم الحرية أرضية نظرية استخدمت بذكاء لتبرير التناقض بين الدعوة إلى تحرير المجتمعات الغربية من هيمنة النخب الإقطاعية والملكية من جهة، والدعوة إلى فرض هيمنة المجتمعات الحرة على شعوب أخرى خارج أراضيها.

وتمكن المنظرون الداعون إلى هيمنة الغرب من توظيف حشد كبير من المفاهيم الثانوية لتعمية التناقضات وتغطية التسـلط مثل مفاهيم “المصلحة القومية” و”الأمن القومي” و”المجتمعات الحضارية” و”الرسالة الحضارية” و”القانون الطبيعي” و”العقد الاجتماعي”، فقد حصر مفهوم “الدولة القومية” ومفهوم “العقد الاجتماعي” المسؤولية الأخلاقية ضمن المجتمع السياسي، وأباح مفهوم “القانون الطبيعي” الهوبزي استخدام القوة المجردة من الالتزام الأخلاقي والقانوني المدني تجاه المجتمعات السياسية المغايرة، كما سمح مفهوم “تطوير المجتمعات المتخلفة” و”المصلحة القومية” لحركة التوسع الاستعماري بحجة نقل الحياة الحضارية من المجتمعات الغربية إلى المجتمعات الأخرى.

وتبدو مفارقة التحرر الغربي (الليبرالية) أكثر وضوحًا في المجتمعات النامية، فقد أدت حركات التحرر في هذه المجتمعات إلى بروز الدول النامية الحديثة التي ألغت، أو كادت أن تلغي كل مساحات الحرية في المجتمع المدني، وحولت المجتمعات النامية إلى مؤسسة مركزية تتحكم في كل مؤسسات المجتمع وتلحقها بجهاز الدولة، ولأهمية هذا الموضوع لا نتوقف عند هذا الحد، ولا يقتصر حديثنا عند تلك النقطة بل هو ممتد في مقالات آتية. لمزيد من التوضيح وعقد مقارنة بين مفهوم الحرية بالمفهوم الغربي، والمفهوم الإسلامي.

[1]. الموسوعة العربية العالمية، أول وأضخم عمل من نوعه وحجمه ومنهجه في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية. عمل موسوعي ضخم اعتمد في بعض أجزائه على النسخة الدولية من دائرة المعارف العالمية World Book International، شارك في إنجازه أكثر من ألف عالم، ومؤلف، ومترجم، ومحرر، ومراجع علمي ولغوي، ومخرج فني، ومستشار، ومؤسسة من جميع البلاد العربية.

[2]. المرجع السابق.

[3]. انظر: جمهورية أفلاطون، المدينة الفاضلة كما تصورها فيلسوف الفلاسفة، إعداد: أحمد المنياوي، دار الكتاب العربي، دمشق، ط1، 2010م، ص 183-205.

[4]. انظر: السياسات، أرسطو، نقله من اليونانية إلى العربية الأب أوغسطينس بربارة البولسي، اللجنة الدولية لترجمة الروائع الإنسانية الأونسكو، بيروت، 1957م، ص150-159.

[5]. انظر: السياسات، أرسطو، مرجع سابق، ص 102.

[6]. انظر: الرسالة المستنصرية، أبو حامد الغزالي، وانظر: الأحكام السلطانية، الماوردي.

[7]. المارد، توماس هوبز، ص: 375، نقلًا عن: مفهوم الحرية في الغرب بين النظرية والممارسة، لؤي صافي، مقال منشور بمدونة تأملات.

[8]. المارد، توماس هوبز، ص 381، نقلًا عن المرجع السابق.

[9]. دراستان حول الحكومة، جون لوك،، ص 412-413. نقلًا عن: مفهوم الحرية في الغرب بين النظرية والممارسة، لؤي صافي، مقال منشور بمدونة تأملات.

[10]. العقد الاجتماعي، جان جاك روسو، ص 60. نقلًا عن: مفهوم الحرية في الغرب بين النظرية والممارسة، مرجع سابق.

[11]. أصول  فلسفة الحق، هيغل، ترجمة وتعليق: د. إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ط3، 2007،  ص 107، بتصرف.

[12].  أصول فلسفة الحق، هيغل، مرجع سابق، ص 156، بتصرف.

[13]. العقد الاجتماعي، روسو، ص 64، نقلًا عن: مفهوم الحرية في الغرب بين النظرية والممارسة، مرجع سابق.

 

عن admin

شاهد أيضاً

"سلام ترام" .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين “سلام ترام” قصة …