الرئيسية / النظرية السياسية / فكر وفلسفة سياسية / الفكر السياسي عند إبن خلدون
الفكر السياسي عند إبن خلدون
الفكر السياسي عند إبن خلدون

الفكر السياسي عند إبن خلدون

الفكر السياسي عند إبن خلدون

حمزة محمد جامع

مقدمة:

انتهى الفكر السياسى الإسلامي، بعد عهد الأزدهار الإسلامي الذى بلغ ذروته فى أطروحات الفارابي والماوردي والقاضى أبى يعلى وابن تيمية، إلى الأندلس والمغرب الإسلامي، فلمع نجم المفكر العملاق ابن خلدون، والذي لم يكن مفكراً أكاديمي التكوين والمزاج، منعزلاً عن الحياة العامة، بعيداً في أبراج عاجية كعادة الأكاديميين، ولكنه كان رجل دولة خاض فى غمار الحياة العامة، وتولى مناصب رفيعة فى دويلات المغرب الإسلامي، وانغمس في الحياة السياسية: مناوراتها ومؤامراتها إلى أذنيه. وأصابه منها ما أصابه من فرح وترح ونجاحات وإخفاقات، وطرد من أكثر من بلد، وسجن، وكاد أن يقتل أكثر من مرة.

من هنا جاء فكره منفعلا بالواقع متفاعلاً معه، تربطه أوثق الوشائج بمعطيات الحياة السياسية آنذاك، وما كان يضطرب فيها من مؤامرات وانقلابات وحروب، وبالرغم من أن جذور الفكر الخلدوني كانت شديدة الاتصال بالواقع، إلا أن عبقرية ابن خلدون التي خلدت اسمه، هي قدرته الفائقة على التنظير واستنباط قوانين عامة، التي تعبر عن الحركة المجتمع، وتحكم الظواهر الجزئية، وتصوغها في منظومات نظرية شاملة المجال، يتصل بعضها بالبعض بعلاقات نسبية كلية. هذه العلاقات النسبية تمثل البنى التحتية التي تمثل باطن الحركة التاريخية للمجتمعات البشرية، وتعطى تفسيراً علمياً موضوعياً للظواهر الجزئية الظاهرية.

فالسياسية ظاهرة حاضرة فى كل ظاهرة ضاغطة على كل مفهوم، محشورة في كل فعل وحركة، لهذا لا يمكن قراءة التراث بن خلدون دون التوقف عند إنجازه وما أضافه فى هذا المجال، بل يمكن القول إن إسهامات ابن خلدون فى علم السياسية هى أحد أبرز إنجازاته كمفكر، وهى الإنجازلت التى يمكن اتخاذها مجالاً للتعرف على مدى عالميته، وإدراك مدى أصالته العلمية فيما خطه من فصول فى المقدمة عن الدول وأحوالها وتطورها والتملك والتغلب وأنواع الملك وكيف يسري اليه الانحلال.

فقد امتاز عن سائر من سبقوه فى الكتابة السياسية عن الدولة ــ مثل أفلاطون وأرسطو والفرس ــ بأنه انتقل بالكتابة عن السياسية من مستوى الواجب أو المفترض إلى مستوى الواقع المعاصر أو المعاش في التجربة التاريخية، ولهذا كان بحث ابن خلدون بمثابة العالم الوضعي بالمعنى الحديث للفظ. فحتى عصر ابن خلدون كانت السياسية عند العرب إلى ثلاثة أقسام مختلفة، يمكن تسمية أولها بالخلقى وموضوعه العلائق بين السلطان والرعية، والثاني عملي ويحدد تصرف الحكومة نحو الافراد فيما يتعلق بالمسائل العامة، ويكون جزء من التشريع، والثالث نظري ويختص بالخلافة وضرورتها، وأساسها من الدين والعقل، ومختلف آراء المسلمين فى وراثة السلطة وأسرة الخلفاء، واحتمال وجود خليفتين، حيث يمثل كل ذالك جزء من علم كلام.

ويعد ابن خلدون أول من استطاع أن يستخلص الأبعاد السياسية من الاعتبارات الدينية، وأول من استطاع أن يشرحها بطريقة أصح من الوجهة العلمية، ولغاية ليست عملية من وجهة ما. ولو أن ابن خلدون لم يزد على أن جعل السياسية موضوعاً لعلم نظري لكان شأنه فى هذا أقل بكثير من أرسطو وأفلاطون، إذا لم يكن له رسوخهما. كما أنه لم يعرف إلا شكلاً واحداً للحكومة، هو شكلا الحكومة المطلقة الذي تخالف كثيراً عن النظم اليونانية. إلا أن ابن خلدون كان يرمى من وراء كتابته فى السياسية إلى غاية أخرى أوسع بكثير من ذالك فقد كان يريد أن يشرح تاريخ الإنسانية بأوسع معاني الكلمة، وفى هذا تتفوق فكرته الاجتماعية.

فالسياسة لدى ابن خلدون ينتظم بها أمر العمران على حسب تعبيره، وهو يميز بين أنواع السياسات حسب طبيعة الأسس التى تستند إليها والمصالح التى تقوم على رعايتها ما بين سياسية (طبيعية)، وسياسة (عقلية)، وسياسة (شرعية). وهكذا تدلنا قراءة المقدمة على رؤيته عن عموم السياسات وأنواعها الموجبة للعمران البشري كمفاهيم عامة عالمية تخرج عن الإطار التطبيقي للمقدمة فى علاقتها بتاريخ المغرب العربي. وبتعبير أخر يجب عند تحليل رؤيته ودراستها ألا نقتصر على حدود الأبعاد المعرفية والتاريخية التى احتواها كتاب العبر؟ فما طرحه ابن خلدون من أبعاد معرفية ورؤى منهجية تتجاوز بكثير طبيعة الاجتماع العربي والاسلامي فى القرن الرابع عشر الميلادي، ومن ثم يمكننا سحب ابن خلدون إلى مجال العالمية فى الرؤية والمنهج والقضايا، وهنا يبرز الاسهام العلمي الحقيقي له.

ويقتضي التعرف على موقع السياسة من الظاهرة العمرانية فى فكر ابن خلدون التوقف عند ثلاث نقاط مترابطة ومتتابعة على التالي: لكن أذكرها سريعاً: –

أولاً: ما يتصل بالشروط والمقتضيات الطبيعة والبشرية التى تميز الاجتماع الإنساني وتقود إلى ظهوره ابتداء (نشأة الإجتماع السياسي).

ثانياً: مايتصل بالتقاء الشروط الطبيعة والبشرية من انفتاح على العمران البشري (دور السياسية الناظمة للعمران، ودور العصبية المحركة لفاعليته).

ثالثاً: ما يتصل بالعلاقة بين مكونات الاجتماع البشري عموماً، خاصة علاقات الخاص/ العام.

 

  • نظريات ابن خلدون السياسية: ـــ

بين دفتي مقدمة ابن خلدون وكتاب التعريف ملامح في السياسة والفلسفة والتاريخ والاجتماع وغير ذلك مما تزخر به المقدمة من معارف وفنون ونظريات وأفكار أودعها في فصول مقدمته. وابن خلدون مثل سابقيه لم يجانب الصواب وسار على نهجهم، فكانت شهرته كمؤرخ وكعالم للاجتماع أكثر من الفلسفة والسياسة. كل هذا الزخم الفكري إنما هو محصلة المعرفة التي اكتسبها وتعلمها، والتي بانت جلية في الأفكار التي أودعها في مقدمته عن السياسة في تونس وبلاد المغربين الأوسط والأقصى من خلال وظائفه التي استدعي إليها، وهذه النزعة المعرفية والسياسية حول الكتابة قديمة قدم الفكر اليوناني، حيث أصبحت بمثابة العرف عند المفكرين والمؤرخين على اختلاف مشاربهم، وابن خلدون دعته واستهوته الكتابة في السياسة ما كتبه حول علمه الذي استحدثه وهو- علم العمران – حيث يقول في فصل أعده لهذا الغرض “إن العمران البشري لابد له من سياسة ينتظم بها أمره”(1).

هذه النزعة الخلدونية للسياسة شدت الانتباه لأخذ القلم والبحث في ثنايا هذه الأفكار، وما آلت إليه نزعته هذه سواء النظرية أو التجريبية ومدى انعكاسها على حياته العلمية التي كان اهتمامه بها لا يقل عن اهتمامه بالسياسة في عقوده الأربعة الأولى، إَلا أنه كان يقوم بالتدريس متى سنحت له الفرصة.

وكان يتعلم في عقوده الأربعة الأولى، إَلا أنه كان يقوم بالتدريس متى سنحت له الفرصة. وكان يتعلم ويجالس العلماء بعد أن توطدت علاقته مع أمراء وسلاطين دول المغربين الأوسط والأقصى.

حين نبحث في السياسة الخلدونية نقصد الدولة، وما يهتم به أصل الدولة وفصلها، فكيفية نشأة الدولة هو الذي يحرص عليه وعلى إبرازه في عمرانه الذي استحدثه من جهة ومن جهة أخرى يعود السبب إلى الأحداث الجسام التي أحاطت بنشأة الدولة الإسلامية، ثم الأزمات التي توالت على الحكم الإسلامي، ولعل نظرته إلى دورة حياة الدولة كان اعتماده على النموذج (البيولوجي – الحياتي – للإنسان).

 

نظرة ابن خلدون للسياسة:

إن التجربة السياسية كانت نتائجها وثمرتها هو تأليف ابن خلدون في التاريخ وعلم الاجتماع العام والسياسي والاقتصادي وغيرها من الأفكار التي ظهرت على شكل موسوعة علمية ينهل منها المفكرون على اختلاف مشاربهم، وتعتبر آراءه مرجعية في كثير من العلوم والفنون والسياسة، والأخيرة هذه كانت شغله الشاغل وهاجس بدأ معه منذ توليته أول وظيفة عمل بها إلى أن عكف على التأليف والكتابة.

وإذ لم يسلم قلمه من الكتابة في دواوين الأمراء أيضاٌ، لم يسلم قلمه فى الكتابة فى السياسية وهو بعيد عنها، وإذ لم يكتب ابن خلدون فى السياسية، إلا أنه كتب في مقدمته وتاريخه الطويل كلاما كثيرا فيها، فتحدث عن الدولة وأطوارها ومراحل تكوينها وانهيارها، وتكلم عن الملك، والخلافة، والبيعة، والوازع، والعصبية وأثرها في السياسة والرئاسة. فيا ترى ما هي الأفكار السياسية التي كان ابن خلدون قد أودعها في كتبه وتأليفه؟ وحسبنا أن نبدأ عن الدولة ومفهومه لها. لكن ليس قبل أن نبرز أقوال ابن خلدون السياسية، وفى فصل خصصه للسياسة وسمه في أن العمران البشري لابد له من سياسية ينتظم به أمره.

ويقول أيضا إن ما تسمعه من السياسة المدنية فليس من هذا الباب، وإنما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون غاية كل واحد من أهل ذلك المجتمع فى نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكماء هم الحكام رأساً، ويسمون المجتمع الذى يحصل فيه ما يسمى بالمدينة الفاضلة.

ويوضح السياسة المجتمعية بقوله: وليس مرادهم السياسة التى يحمل عليها الاجتمتاع بالمصالح العامة فان هذه غير تلك.

 

الدولة كمفهوم سياسي في فكر ابن خلدون:

لأسباب شخصية تتعلق بابن خلدون نفسه، وبأسرته التي كانت تحكم إشبيلية قبل انهيار الحكم الإسلامي في الأندلس، ولأسباب تتعلق بتاريخ الإسلام وحكم المسلمين للأندلس، كان هناك سؤال محوري يدور في ذهن ابن خلدون، حول كيف تنشأ الدول؟ وكيف تصل قمة الازدهار؟ ثم كيف تزول بعد ذلك وتصير نسياً منسياً؟

ولكي يجيب ابن خلدون على هذه الأسئلة، انتهج منهجاً مزدوجاً، هو مزيج من الاستقراء لأحوال الدول والدويلات التي قامت في شمال إفريقيا، فيما كان يعرف بالمغرب الإسلامي، والتأمل النظري لاستخراج القوانين والسنن العامة التى تحكم حركة الاجتماع والتاريخ والسياسة من وراء تلك التحولات الظاهرية والجزيئة.

ويظهر اعتماد ابن خلدون على المنهج الاستقرائي في النظريات التي وصل إليها، ومن أهم النظريات نظريته السياسية فى أن الدول لا تنشأ إلا إذا توفرت لها قوة قومية عرقية، أسماها ابن خلدون (العصبية) للفرق وللقوم وللقبيلة. فإذا وجدت مجموعة من البشر ترتبط ارتباطاً قومياً قوياً وتشعر بالتعالى والتمييز على المجموعات التي تجاورها، فإنها تسعى إلي التغلب عليها عسكرياً بالغزو والاستيلاء، وكلما كانت العصبية قومية وكاسحة، كانت فرص تكوين دولة جديدة كبيرة للغاية، والدول لا تنشأ إلا إذا وجدت مجموعة من البشر ذات قوة كبيرة وذات بأس شديد وشوكة تتعصب لها وتتناصر وتتفانى فى طاعة قادنهخا القومين وتؤمن بأنها الأعز والأقوى والأجدر بالحكم والسيطرة والهيمنة.

ابن خلدون هو أول من بدأ يقرأ التاريخ قراءة مختلفة، فبينما كان التاريخ قبل ابن خلدون يدرس على أنه حوادث متفرقة ومتتابعة؛ جعل بن خلدون التاريخ مجالاً للاستقراء والتحليل والاستنتاج، وكان يريد أن يستنتج القوانين التي تحكم الحراك التاريخي. حتى يمكن استخدامها في مجالات أخرى. فاعتبر الوقائع التاريخية والإسناد في التاريخ وتحقيق الحادثة التاريخية هو مجال صناعة المادة الخام. أما وظيفة ابن خلدون فكانت استخدام المادة الخام واستخراج القوانين منها.

ومن خلال هذه الدراسة تمكن من أن يستخلص نظرية حول نشوء الدول واستقرارها، وتحللها واندثارها، ملاحظاً الدورة من الظفر إلى الانقراض، ومؤكداً على نظرية العصبية القائمة على الدم أو الدين أو أي رابطة اجتماعية أخرى في جميع مراحل الدولة.

لقد كان الهم الأول عند ابن خلدون، وهو يكتب التاريخ ويصحح وقائعه ويستكشف ظواهر العمران البشري، أن يجيب على سؤال محوري: كيف تقوم الدولة؟  كيف تنهار؟

أطوار الدولة أو نظرية التغير الاجتماعي:

يقول ابن خلدون: اعلم أن الدولة تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجددة….وأطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار:

الطور الأول: الظفر بالبغية وغلب المدافع والممانع والاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السالفة قبلها.

الطور الثاني: طور الاستبداد.

الطور الثالث: طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك.

الطور الرابع: طور القنوع والمسالمة.

والطور الخامس: طور الإسراف والتبذير.

هذه الأطوار الخمسة اختزلتها “ناجية الوريمي” في ثلاثة أطوار مقترنة بالأجيال الثلاثة، إلا أنها تفسر قيام الدولة بإطارها راجع لإقتران الدولة بسلطة عصبية معينة تنشأ، ثم تقوى ثم يصيبها الهرم وذلك في ثلاثة أطوار وهي:

1- الطور الأول: يبدأ من خلق البداوة، وشظف العيش والشجاعة والاشتراك في المجد وهنا العصبية قوية ومحفوظة.

2 – الطور الثاني: بداية الحضارة – الترف – الاستكانة – الانفراد بالمجد – ثم تضعف العصبية بعض الشيء.

3 – الطور الثالث: يبدأ بالانغماس في الحضارة – والمبالغة فيها – الجبن – الاستعانة بالأجانب – ثم تسقط العصبية بالجملة أي كلها.

وتعقب ناجية على ذلك بأن هذه الأطوار ليست من نتائج الفعل الإرادي للإنسان حاكما أو محكوما، بل هي طبيعية للدول. هذه الأطوار الثلاثة، كما وضح ابن خلدون، أمثلة لها مستشهدا بما قراء عن أخبار الدولة الإسلامية.

ففي الطور الأول: عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعهد الخلفاء الراشدين، الذين أسسوا هذه الدولة، وفيها قضي على العصبية.

الطور الثاني: الملك والانفراد بالمجد، في عهد الدولة الأموية إلى سقوط الدولة العباسية.

أما الطور الثالث: تكثر المفاسد والانحلال، ويستعين الخليفة ويسترضي الجند المرتزقة لأنهم هم عدته وسلاحه، بعد أن ابعد عصبيته، وينقض العداء على الدولة من كل جانب، كما حدث مع المغول والصليبيين، وينقض المماليك على الحكم كما حدث في مصر ثم بعد ذلك تنهار الدولة تماما.

 

مفهوم الملك:

في فصل خصصه ابن خلدون للملك عنونه في حقيقة الملك وأصنافه بأنه منصب طبيعي للإنسان… ولا يتم شيء من ذلك إلا بالعصبيات…. وكثيرا ما يوجد في الدول المتسعة النطاق.

ويرادف ابن خلدون بين الملك والسياسة بقوله “السياسة والملك هي كفالة الخلق وخلافة الله في العباد لتنفيذ أحكامه فيهم” وهذا يعني الضمانة والإعالة وأصل المعنى هو تضمن الشيء للشيء.

اذ أن الملك له علاقة وطيدة بالسياسة والعصبية ولا يتحقق إلا بوجودهما ذلك أن الملك غاية طبيعية للعصبية، إلا أن ابن خلدون يشير إلى بعض المؤشرات نحو الملك فيقول (في أن من طبيعة الملك الترف، وأن من طبيعته أيضا الدعة والسكون، وإذا تحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم، وان من طبيعة الملك الانفراد بالمجد) هذه التنبؤات الخلدونية يبدو إنها ذات دلالة طبيعية في الحياة الطبيعية لكل دولة ، وأيضا في كل من يحكم أو يرأس أي دولة غير أن مفهوم الملك مرتبط بمنظومة من المفاهيم الاجتماعية كالوازع ، والحاكم، والرئاسة، والسلطان، والسياسة، والخلافة، والعصبية، والدولة، والمنصب، وفي ر أي حسن إسماعيل أن السياسة العقلية التي يتكلم عليها ابن خلدون ويصنفها في أنواع الملك، توقفنا على طبيعة الحكم في المجتمعات التي عاصرها، ولاسيما في مجتمع المغرب، وترشدنا على طبيعة الحكم في المجتمعات السابقة للخلافة، كالمجتمع الفارسي.

ويرى ابن خلدون أن من أهم أسباب زوال الملك الظلم والنكوص عن تحقيق العدالة ، الإسراف فى النفقات من قبل الحاكم وحاشيته ، وانغماسهم في الترف والترفه … وهذه الأعراض سرعان ما تصيب الدولة عندما تتبدل النصر الأول وشيدوا الملك والدولة، وكانوا حريصين على حسن تصريف الأمور ولكن سرعان مايذهب هؤلاء بانقلاب الحاكم عليهم، وطردهم من مناصبهم وتجريدهم من كل نفوذ سياسي واجتماعي، وهنا سرعان ما تسيطر العصابة الثانية التى جاءت من أجر المصلحة والغنائم وهؤلاء بالطبع ليس لهم هدف سوى الاثراء على حساب الدولة، والحاكم يمد لهم فى ذالك يتألفهم به ويشترى ولاءهم له، فبينما كانت العصابة الأولى تسمع وتطيع من أجل الفكرة والمبادئ التى قامت من أجلها الدولة، فإن العصابة الثانية همها الإثراء على حساب الدولة والشعب.

اعتمد ابن خلدون في مقولته السياسية الشهيرة، إن العصبية هي أساس الملك، وأنه لا يقوم ملك، إلا وهو يستند على شوكة من عصبية القوم الذين يؤسسون الملك ، اعتمد ابن خلدون في تبرير هذه المقولة على استقراء الواقع السياسى لدول الاندلس وشمال أفريقيا الإسلامية. ويقصد بذالك انه نظر فى أحوال تلك الدول فى هذه المنطقة التى أقامها العرب أو العجم أو البربر ، فوجد أنه ما قامت دولة الا وراءها عصبية عريقة قوية ذات شوكة ، وانما يؤسس الملك ـ عند إبن خلدون ـ وهو ما يسميه بالملك الطبيعي ، على الغزو العسكري والاستيلاء بالقوة وبالفتح ، ولا يتم النصر لاي مجموعة غازية ، إلا إذا كانت متكاتفه مترابطة … ذات عصبية قوية لبعضها البعض ولقيادتها القومية أو القبلية، ويبدو أن هذه النظرية ـ عن الملك الطبيعى ـ قد واجهت معارضة شديدة منذ أول إعلانها … وبيدوا أن المعارضين قد ذكروا مثال دولة الرسول الكريم صلى الله وعليه وسلم وأنها لم تقم على العصبية العشائرية أو العنصرية ، هنا اضطر ابن خلدون ، إلى تعديل نظرية ،،العصبية العرقية ،، على أساس تكون الملك فى إتجاهين:

1: فرق بين الملك الطبيعى والملك الذى يقوم على الدين والمذهب،

فقال إنه عندما يقول أن الملك إنما يؤسس على العصبية العرقية، إنما يقصد به الملك الطبيعى … ويقصد بذالك الملك فى مجرى العاده والعرف وفى طبيعة الاشياء واضطراد الواقع المعاش.

2: أما دولة المدينة : فهى حالة شادة لا حكم له ولا ينضوى تحت قانون الأعراف وعادة الناس واضطراد الأحوال الاجتماعية والسياسية فى غالب الأمر.

وهذا الاتجاه الثانى الذى تخارج به إبن خلدون أو حاول التخارج به ،عندما ادعى أن قانون العصبية هو القانون السائد الذى يحكم عوائد وطبائع العمران البشرى … واما دولة المدينة فقد كانت فلتة لا تتكرر ولو لا تأثير الرسول صلى الله وعليه وسلم لما قامت دولة تعتمد على الفكر والدعوة فقط … بهذه الطريقة حاول ابن خلدون أن يجعل دولة المدينة حالة شاذة والشاذ لا حكم له ولكن ــ هذا قول مردود .. فدولة الرسول صلى الله عليه وسلم قامت على الفكر والدعوة .. ومن بعدها دولة بنى العباس ـ قامت على الدعوة لآل العباس ـ عم الرسول وكذالك دولة الفاطمية .. قامت على فكرة أن الخلافة أولى بها آل الرسول صلى الله وعايه وسلم من ذرية فاطمة رضى الله عنها وأرضاها وكذالك الدولة التى قانت على فكرة المهدى المنتظر..

وفى العصر الحديث قامت دول تعمد على المذهب وعلى الفكرة … ومن أهمها الجمهورية الفرنسية والدستورية الأمريكة .. والدول التى أسست على المذهب الماركسى ، وهكذا تسقط مقولة ابن خلدون فى تعميها الواسع ، ولكنها تظل فكرة صالحة إذا لم يراد التعميم المطلق ، فكثير من الدول تقوم على القوميىة العرقية..

انظر مثلاً قيام دولة الرايخ الالماني بزعمة هتلر ، وكذالك الدول القومية المنبثة فى عالم اليوم من بريطانيا غرباً إلى الهند والصين واليابان شرقاً ..

ومقولة إبن خلدون الثانية خاطئة ايضاً ولا تعتمد على أي أساس علمى .. فدولة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست فلتة طارئة لن تتكرر . ولم تكن دولة الرسول صلى الله عليه وسلم تعتمد على شخصية الرسول الكريم ،يقول عزوجل ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ،أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزى الله الشاكرين )

ويقول ابوبكر الصديق فى حادثة وفاة المصطفى عليه السلام (من كان يعبد محمد فإن محمد قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت )

فدولة الرسول إنما تعتمد على كتاب الله الخالد المحفوظ ألا وهو القرآن الكريم وهى كذالك تعتمد على سنة الرسول الله ، وقد قامت بالفعل مثل هذه الدولة فى عهد عمر بن عبد العزيز والمرابطين والموحدين والمهدين والسنوسين .

ويعتمد إبن خلدون فى تعميمه المبالغ فيه على أساس العرق القومى والقوة العسكرية فى نشأة الدول ، إلا أن التعميم فى هذا الموضوع وإضفاء الطبيعة العمرانية عليه أمر غير مقبول ، وهو إرتداد عن فكرة البيعة كأساس للحكم فى الإسلام وفكرة العقد الاجتماعى أساس للحكم عند فلاسفة الغرب أمثال توماس هوبر وجان جاك روسو وهلم جرا…

إلا أنه رغم ما ثييره الرؤية الخلدونية فى علم السياسة من جدل يبقى أنها تقدم نماذج معرفية وتاريخية إلا أنها لا يجب التعامل معها باعتبارها نماذج معرفية قياسية تصلح للتطبيق عللا كل واقع يفترض فيه بعض عناصر التشابه أو المماثلة فى العوامل والمقومات، مع الأخذ فى الاعتبار عناصر الاختلاف والمغايرة. ورغم هذا فإن القول من ناحية بخصوصية تحليل إبن خلدون للاجتماع البشرى الإسلامي، وإن كانت الأخيرة هى الغالبة لعلة عملية، وهذا يتماشى مع شمول الموضوع وهو العمران البشري وليس اجتماعاً إنسانياً معيناً من ناحية، وأن هذه الأمثلة فى كل الحالات تأتي لتأكيد تحليل نظرى عام تتأخر عنه لتوضيحه، ولا تتقدم عليه لتأسيسه، إنها إذن شواهد وليست مبادئ، وهو ما يؤكده ابن خلدون عند الإشارة إلى شروط تأسيس أي علم من العلوم.

 

المراجع والمصادر:ــ

عبد الرحمن ابن خلدون، المقدمة

زكريا بشير إمام، الفكر السياسى الخلدونى جذوره الإسلامية وأثره على أوروبا النهضة

أبو يعرب المرزوقي، الاجتماع النظري الخلدوني

على فهمى، التحليل الخلدوني في العلوم الاجتماعية بين تقديس التراث وتحديث المحاولة.

محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون، العصبية والدولة.

محمد راتب الحلاق، الفكر السياسي عند ابن خلدون.

محمد الجبر، ابن خلدون وفلسفة الحكم.

سعيد بن الصغير بشار، الفكر السياسي عند ابن خلدون.

جهيدة بو جمعة، الفكر السياسي عند ابن خلدون.

محمد عبد القوى، الدولة عند ابن خلدون.

جهاد على السعايدة، دراسة تحليلية نقدية على فكر إبن خلدون فى نظرته للعرب ونظريتى العصبية والدولة والمنهج الذي اتبعه.

محمد الدقس، العصبية الخلدونية ووظيفتها الاجتماعية والسياسية.

عن حمزة محمد

2 تعليقان

  1. مقال رائع يوضح النظرة السياسية لابن خلدون ونظرياته تجاه بناء الدول وازدهارها الى انهيارها واخيرا بعض الثغرات في النظرة الخلدونية . مثل التعميم في ان دولة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست فلتة طارئة لن تتكرر.. بوركت أستاذ حمزة