الرئيسية / علوم بينية / علم اجتماع السياسة / المستويات المتاحة وإصلاح المجتمع – السنهوري نموذجاً
المستويات المتاحة وإصلاح المجتمع – السنهوري نموذجاً
المستويات المتاحة وإصلاح المجتمع – السنهوري نموذجاً

المستويات المتاحة وإصلاح المجتمع – السنهوري نموذجاً

المستويات المتاحة وإصلاح المجتمع – السنهوري نموذجاً

كتب/ تامر نادي

 

قَدَّم المستشار عبد الرزاق السنهوري[1] نموذجًا فريدًا للقلائل مِن النُّخَب المصرية، في فترة الأربعينيات والخمسينيات، التي جمعتْ بين الأصالة والمُعَاصَرة، ولم تتلوث أفكاره بالمؤثرات الغربية نتيجة دراسته في الخارج كما حدث للكثيرين؛ بل استطاع بحنكةٍ بالغةٍ الجمع بين الدعوة للتمدن والتحضر مع عدم التفريط في الثوابت، وطلب وصل ما انقطع، وإحياء ما اندثر، وفق ما يتيحه الواقع.

شَغَل الرجل وزارة المعارف أربع مرات، وذاع صيته كرئيس لمجلس الدولة بعد ثورة 1952م.

ساهم السنهوري في وضع العديد مِن القوانين، بل ودساتير الدول العربية: كالعراق، سوريا، الكويت، السودان، وليبيا، وهو الذي دعا لإنشاء معهد الدراسات العربية، والذي تبَنَّت جامعة الدول العربية بعد ذلك الفكرة وأنشأته.

قدّم السنهوري نموذجًا للعامل في المجال العام، المتمسك بثوابت الإسلام وأصالته، مِن خلال مشاركته في كتابة الدستور المصري بعد ثورة 52، ومشروع تقنين القوانين في حكومة 48، لكن الجدير بالملاحظة في سيرة الرجل هو إدراكه الدائم لمستويات المتاح، وعدم توقفه أمام أي باب أغلق في وجه مسيرته الإصلاحية، فحينما تضيق عليه الأمور في مصر ينتقل إلى العراق، وعندما تغلق العراق أمامه يتجه إلى سوريا، وعندما يصطدم مع عبد الناصر لا يتخذ مِن الخلاف الشخصي منهجًا، ولكن يواصل العمل وبجدٍّ؛ كان الرجل يحمل منهجًا ويحمل هَمًّا لا يجعله يلتفت للمعارك المصطَنعة، حتى حينما هوجم مِن كيانات محسوبة على نفس المعسكر المنافح عنه، لم يلتفت كثيرًا لضيق أفُقهم.

امتاز نموذج السنهوري بالعمل على ممارسة الإسلام مِن خلال الاجتهادات في معالجة أوضاع الحاضر ومشكلاته وعالج اجتهادات الناس -عامة وقادة- في مجالات أنشطتهم كافة، فقد قدَّم مذكرة إضافية للدكتوراه “فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية”، عقب سقوط الخلافة الإسلامية، دون أن يطلب أحدٌ منه ذلك.

ويجب أن ننتبه إلى أن الهدف ليس مجرد الدعوة إلى الإسلام وأحكامه، بل الدعوة إلى أصل قدرة الإسلام على حل مشكلات الناس وتسيير شؤونهم.

وتحديدًا: المطلوب أن نمارس هذه الأحكام، ونضعها أمام الناس بأسلوبٍ مجردٍ، لا أن نكرر الحديث ونكتفي بتوجيه اللوم للحكومات بعدم تنفيذها هذا المطلب؛ بل أن نتوجه إلى الناس في معاملاتهم وأنشطتهم الأهلية.

وأن نمارِس الدعوة مدركين أنها تُمَارَس مع مواطنين يعتنقون ذات الدين، ويعتبرونه عقيدتهم وأساس وجودهم.

وأوضح مثال على ذلك: قضيتي “الحجاب” في الثمانينيات، و”البنوك” في التسعينيات، وكيف كان للممارسة والعمل وتقديم الحلول والتقارب مع الناس أبلغ الأثر، وخلال السبعينيات، شارك الإسلاميون في النقابات والعمل العام المنظَّم داخل إطار الدولة، وقد كان لهذه التجربة الأخيرة نجاحاتها رغم إخفاقها؛ فنحن مُطالَبون بالممارَسة الشعبية للأفكار وما ينشأ ويتفرع عنها مِن أوجه النشاط وتعاملات الناس.

ومُطالَبون بالعمل على إشاعة هذه الأعمال والترويج لها، وإتاحة المعرفة بها في سائر وجوه النشر بين الناس، والترويج للأنشطة: ثقافية وفكرية وإعلامية في مجالات الدعوة في كافة الميادين، وبتقديم حلولٍ للمشكلات الموجودة فعلًا على كافة مستويات المجتمع.

يتعين ألا نُخِيف المجتمع مِن دعوتنا، وأن نتركها ترسخ بداخله، ولسان حال الداعية: إن وُجِدَ العداء فهو ليس للإسلام، ولكن لوجود تشوش في الرؤية مِن جهة المستقبل، ووجود قصور في تسويق الأفكار وتقديم الحلول مِن جهة المرسل، فضلًا عن تهاون صاحب الرسالة في طرق جميع المستويات المتاحة للعمل، وجلوسه عند أول باب في انتظار أن يُفتح له!

———————————-

[1] عبد الرزاق السنهوري (1895م – 1971م) أحد أعلام الفقه والقانون في الوطن العربي ولد في 11 اغسطس 1895 بالإسكندرية وحصل على الشهادة الثانوية عام 1913 ثم التحق بمدرسة الحقوق بالقاهرة حيث حصل على الليسانس عام 1917م وتأثر بفكر ثورة 1919م وكان وكيلاً للنائب العام عام 1920 ثم سافر فرنسا للحصول على الدكتوراه والعودة سنة 1926م ليعمل مدرساً للقانون المدني بالكلية ثم انتخب عميداً لها عام 1936م. نادى بوضع قانون مدني جديد واستجابت له الحكومة وشغل منصب وزير المعارف 4 مرات وعين رئيساً لمجلس الدولة من عام 1949م حتى 1954م عرف عنه تأييده لثورة يوليو وشارك في مشاورات خلع الملك فاروق مع محمد نجيب وجمال سالم وأنور السادات، بذل جهود كبيرة في مشروع الإصلاح الزراعي وطلب إرساء الديموقراطية وحل مجلس قيادة الثورة وعودة الجيش إلى الثكنات إلا أن المظاهرات العمالية هدمت أفكاره. يعتبر السنهوري باشا ومؤلفاته ثروة للمكتبة القانونية إذ كان عضواً في مجمع اللغة العربية منذ 1946م وأسهم في وضع كثير من المصطلحات القانونية إلى أن توفي في 21 يوليو 1971م.

عن تامر نادي

شاهد أيضاً

نحو نهاية الرأسمالية العالمية: بين إعادة الضبط الكبيرة والصحوة العظمي

نحو نهاية الرأسمالية العالمية: بين إعادة الضبط الكبرى والصحوة العظمى

نحو نهاية الرأسمالية العالمية: بين إعادة الضبط الكبرى والصحوة العظمى الكسندر دوجين ترجمة: تامر نادي …