الرئيسية / النظم السياسية / السياسة المقارنة / النموذج المعرفي والحضاري الغربي الحديث عند المسيري
النموذج المعرفي والحضاري الغربي الحديث
النموذج المعرفي والحضاري الغربي الحديث

النموذج المعرفي والحضاري الغربي الحديث عند المسيري

النموذج المعرفي والحضاري الغربي الحديث

الفصل الثاني من كتاب دراسات معرفية في الحداثة الغربية للدكتور عبد الوهاب المسيري

 

أولا – النموذج الحضاري الغربي: مقدمة وتاريخ:

الحضارة الغربية مفهوم عام ومجرد وليس له اي وجود مادي فعلي، والنموذج المجرد يلجأ إلى تضخيم بعض الصفات والخصائص. ومن المهم دراسة تاريخ النموذج الغربي الحديث والعناصر التي دخلت في تكوينه للتعرف على سماته وخصوصيته.

بدأ هذا النموذج في التكون في عصر النهضة ووصل الى درجة من الاكتمال في منتصف القرن الـ19 وبدأت ملامح أزمته بعد الحرب العالمية الأولي، وقد حاول حل أزمته عن طريق الاستعمار المباشر في أول الأمر، ثم عن طريق الاستعمار الجديد وتشجيع حدة الاستهلاك في الداخل، وقد ساهمت عدة عوامل في ظهور النموذج الغربي وتمثلت أهم سماته البنيوية:

1 – أول هذه العناصر هو ظهور العلم الغربي الذي انفصل عن القيمة الأخلاقية والدينية، بل وانفصل عن الإنسان نفسه ليتعامل مع الكم وحسب.

2 – صاحب ظهور العلم كسبب ونتيجة ظهور الطبقات البرجوازية داخل المدن التي كانت تضم ميليشيات عسكرية مستقلة عن النظام الاقطاعي، ونما الاقتصاد التجاري الجديد داخل المدن بعيدا عن القيم الاقطاعية الهرمية وبعيدا عن سيطرة الكنيسة الكاثوليكية بقيمها الدينية.

3 – نمو حركة الإصلاح الديني البروتستانتي التي أكدت على فكرة الخلاص خارج الكنيسة وهي الفكرة التي ستصبح جوهر العلمانية الجزئية بفصلها بين الدين والدولة بحيث تصبح الأمور المدنية والاخلاقية أمور خاصة بالضمير وحده.

4 – عبرت الثورة البرجوازية عن نفسها من خلال الفكر العقلاني في القرن الـ 18 ثم الرومانسية في القرن الـ 19 مما أدي إلي تأكيد دور الفرد ككيان عقلي أو عاطفي خالص.

5 – أدت كل هذه الاتجاهات السابقة إلى تقويض دعائم المسيحية وتآكل القيم الدينية والأخلاقية، لذا حينما استولت البرجوازية على السلطة في القرن الـ19 كان مفكروها يطرحون أفكارا تحررية بعيدة عن التراث والأخلاقيات الدينية، وتم التصنيع والتحديث الأوروبي داخل هذا الإطار.

6 – أصبحت عملية التصنيع والتحديث على الطريقة الغربية تعني القضاء على الماضي والحرب ضد الدين.

7 – يمكن تلخيص الإطار الذي تم فيه التحديث الغربي بأنه إطار علماني شامل أي فصل القيم الدينية والأخلاقية عن مجمل حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص.

8 – أصبحت العلاقات الاجتماعية أشياء قابلة للقياس يمكن ردها إلى أساس مادي ما.

 

ثانياً – النموذج المعرفي والحضاري الغربي الحديث، بعض السمات العامة:

يمكن القول إن تحيزات أي نموذج حضاري تكشف عن توجهه وجوهره ويمكن حصر التحيزات الأساسية للحضارة الغربية فيما يلي:

1 – يتحيز هذا النموذج للمادي على حساب الإنساني.

2 – التحيز للعام على حساب الخاص.

3 – التحيز للمحسوس والكمي على حساب اللامحسوس والكيفي.

4 – التحيز للبسيط والواحدي والمتجانس على حساب المركب والتعددي والغير متجانس.

5 – التحيز للموضوعي على حساب الذاتي.

6 – التحيز للمصطلحات العامة الوصفية والكمية التي تنبذ المجاز وتبتعد عن التركيب.

7 – التحيز للدقة في التعريفات والمطالبة بأن تكون جامعة مانعة.

8 – التحيز ضد الغائية والخصوصية والتحيز للاغائية والعمومية بهدف تيسير التحكم الامبريالي.

9 – التحيز للنظرية الداروينية والسوق كصورة نهائية للكون والدولة المركزية الاستهلاكية.

هيمن على الكثيرين منا النموذج المعرفي الحضاري الغربي، ولايمكن أن نتحرر من قبضته إلا من خلال دراسة متكاملة لمجمل البناء النظري الغربي توضح نقط قوته وضعفه ومواطن تميزه وقصوره.

1- نقط القوة ومواطن التميز

يمكن القول إن النموذج الحضاري الغربي الحديث قد حقق عدة انجازات يمكن أن نذكر منها:

أ – الإدارة الرشيدة للمجتمع من خلال مؤسسات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية قادرة على حل المشكلات وتسوية الخلافات دون اللجوء للعنف، ووضع مخططات تضمن استمرار المجتمع من خلال الاجراءات الديمقراطية والفصل بين السلطات.

ب – نجحت المجتمعات الغربية في حل مشكلة الخلافة عن طريق تداول السلطة دون عنف.

جـ – احترام حقوق الإنسان السياسية، وتأكيد حرية الفرد.

د – ظهور فكرة المواطن الذي يدين بالولاء لوطنه متجاوزا ولاء أسرته وعشيرته، مما يجعل سلوكه في الحياة العامة منضبط لإدراكه أن مفهوم الأخلاق لا ينصرف إلى رقعة الحياة الخاصة وحسب، وإنما ينصرف إلى رقعة الحياة العامة وهو ما يسمي بالأخلاقيات المدنية.

هـ – إنشاء دولة الرفاه التي تضمن للإنسان الحد الأدني من متطلبات الحياة من تعليم وصحة وضمان اجتماعي.

و – تفعيل دور المرأة وتأكيد حيزها المستقل.

ز – تطور العقلية النقدية والابداع والقدرة على اكتشاف الأخطاء وتصحيحها.

ح – تطوير المناهج البحثية بما يتلائم مع حركة تطور المجتمع.

ط – تكوين المؤسسات الكبري عبر اندماج الشركات الكبري واتحادات تضم دول عديدة كأوروبا.

2 – انجازات المشروع الحضاري الغربي وأسباب نجاحه:

أ – من عوامل نجاح النموذج الحضاري الغربي قدراته التعبوية والتنظيمية المرتفعة.

ب – ساهمت الإمبريالية الغربية في نجاح النموذج الحضاري الغربي التي حققت مستوي معيشي مرتفع للإنسان الغربي مكنته من تشييد بنية تحتية مادية قوية وساعدته على تصدير مشاكلة الاجتماعية والمادية إلى الشرق.

جـ – نجح الغرب في جعل المواطن الغربي يؤمن بالقيم الداروينية الصراعية في الحياة العامة وادارة حياته الخاصة وفق مجموعة من الثوابت الأخلاقية، مما رفع من انتاجية المواطن وانضباطه، لكن مع أواخر الستينات بدأت قيم المنفعة المادية واللذة تتغلغل في الحياة الخاصة، لذا يلاحظ تآكل الأسرة والعزوف عن الزواج والانجاب، كما تآكلت قيم الإيمان بالوطن.

 

3 – أهمية النقد الكلي:

يمكن القول إن معظم مزايا النموذج الحضاري الغربي مرتبط بمساوئه، فإدارة المؤسسات والمجتمع بشكل رشيد أمر مرتبط بسيادة النماذج الكمية والبيروقراطية، واحترام حقوق الإنسان مرتبط بالفرد المطلق وتحقيق الامن الاجتماعي مرتبط بالإمبريالية. ومن هنا أهمية ما نسميه النقد الكلي أي دراسة مجمل البناء النظري للنموذج الغربي في جزئياته المترابطة وفي كليته. وعملية النقد الكلي تهدف إلى فرز محتويات المعرفة الغربية لعزل ماهو خاص بالغرب، عن ما يصلح أن يكون عالميا يعبر عن إنسانية مشتركة.

4 – نموذج معاد للإنسان:

يجب أن ندرك أن المشروع المعرفي الغربي يحوي نزعات عدمية معادية للإنسان، فهو مشروع يصفي ظاهرة الإنسان كظاهرة متميزة في الكون، فرغم أن مؤسسات القوة الناعمة الغربية تعلو من العقل الإنساني وتفرده، نجد أن المؤسسات الكبري العسكرية والاقتصادية التي تحدد استراتيجية الغرب تحمل رؤية مختلفة، فهي تنكر على الإنسان خصوصيته وتنكر عليه إبداع عقله، فهي تدور في إطار مفهوم الإنسان الطبيعي (الاقتصادي والجسماني) وظهرت بعض الفلسفات المعادية للعقل وتنفي مركزية الإنسان في الكون (استخلافه في الارض)، والمشروع الغربي ينتهي به الأمر أن ينزع القداسة عن كل شئ إذ يعلن موت الإله ثم موت الإنسان.

 

5 – استحالة المشروع المعرفي والحضاري الغربي:

إن الاستعانة بالمشروع المعرفي الغربي للتوصل إلى قوانين عامة في الحياة مشروع مستحيل من الناحية المعرفية والعملية، فمن الناحية المعرفية يفترض المشروع بيقين كامل أن رقعة المجهول ستتناقص بالتدريج وستتزايد رقعة العلوم، وأن تحكم الإنسان في الكون سيصبح كاملا، وهي افتراضات تتسم بالسذاجة، كما يحاول المشروع الغربي أن يصل إلى مستويات من التعميم لا تبررها درجة المعرفة عند من قاموا بالتعميم.

أما من الناحية العملية، فالمشروع الحضاري الغربي المبني على التحكم في المصادر وتعظيم الانتاج والاستهلاك والتقدم اللانهائي اصطدم بحائط كوني، لأن الإنسان الغربي لا يشكل سوي نسبة 20 % من سكان الكرة الأرضية ويستهلك مايزيد عن 80 % من مواردها الطبيعية، وهذا يعني أن النمط الغربي في التنمية وتحقيق السعادة واللذة للأفراد لا يمكن محاكاته.

 

 

6 – أزمة الحضارة الغربية الحديثة:

بدأت تتضح معالم أزمة الحضارة الغربية الحديثة منذ منتصف القرن الـ 19 ولها أصداء في معظم المعرفة الغربية ويمكن رصد موضوعات وقضايا هذه الأزمة، ثم يتم ربطها الواحدة بالأخرى حتى نصل إلى نموذج تحليلي تفسيري للأزمة، ويمكن طرح الأسئلة التالية:

هل هناك علاقة بين الإباحية وتفتت الأسرة؟ وهل هناك علاقة بين العقلانية والمادية وتزايد معدلات الاغتراب؟ وهل هناك سبيل لتحاشي الأزمة أم إنها حتمية؟

إن المطلوب هو الوصول إلى نظرية عامة لأزمة الحضارة الغربية وأزمة النمط التحديثي الغربي.

 

7- نموذجية الانحراف:

تعد الامبريالية والنازية والصهيونية والعنصرية من أبرز تجليات النموذج المعرفي الغربي، ويمكن القول أن دراسة نماذجية الامبريالية الغربية بمعني أن سلبيات هذا النموذج تعبر عن شئ أساسي كامن في الحضارة الغربية، وليس مجرد استثناء أو انحراف، ويمكن طرح الأسئلة التالية: هل يمكن فصل المعدلات المتصاعدة للفردية عن التوجه الاستهلاكي الحاد في المجتمع الغربي؟ هل يمكن فصل كليهما عن التجربة الامبريالية؟ وهل يمكن فصل الرخاء والرفاهية في الغرب عن عملية النهب التي قامت بها الامبريالية الغربية؟ وعلي سبيل المثال مجمل مانهبته انجلترا من الهند يفوق بمراحل ماقمات هي بانتاجه اثناء الثورة الصناعية، ولم تستفد انجلترا اقتصاديا وحسب، بل إنها قامت بتصدير مشاكلها الاجتماعية إلى الشرق مثل الفوائض البشرية (عمال متعطلون، مجرمون يهددون نسيج المجتمع) والأقليات غير المرغوب فيهم (اليهود إلى فلسطين)، كل هؤلاء تم تصديرهم إلى الشرق مع كم هائل من السلع.

وهل يمكن مثلا دراسة الاقتصاد الاسرائيلي بمعزل عن الدعم الغربي؟ إن الحديث عن النموذج الغربي بمعزل عن ظاهرة الامبريالية هو تحيز وخلل تحليلي جوهري لابد من تجاوزه.

أما بخصوص النازية فهي لحظة عبر فيها النموذج الغربي عن نفسه، فقد تم إبادة منهجية لعدة الملايين من البشر. وإذا وضعنا نظريات التفاوت العرقي والداروينية الاجتماعية التي شكلت الإطار العقائدي للتشكيل الاستعماري الغربي الذي حول الطبيعة والبشر إلى مادة استعمالية، وعمليات الإبادة التي قام بها الإنسان الابيض في الأميركتين وعمليات الاسترقاق في أفريقيا، سوف نجد أن النازية ظاهرة متواترة، وكذلك الحال الصهيونية فهي تعبير عن المادية الإمبريالية التي تحول العالم والبشر لمادة استعمالية توظفهم لصالح صاحب القوة.

 

8- ثمن التقدم:

يلاحظ أن عائد التقدم محسوس ويمكن قياسه إما ثمنه فهو غير محسوس ويصعب قياسه، كما يلاحظ تداخل ثمرة التقدم مع ثمنه مثل تداخل ثمن التقاليد مع ثمرتها.  وعندما نتحدث عن ثمن التقدم نشير إلى الظواهر الاجتماعية السلبية كالمخدرات والإباحية وتآكل الأسرة وتراجع التواصل بين الناس لانتشار التقنية وتنامي الامراض النفسية وتزايد معدلات الجريمة وانتشار فلسفات العدمية والعنف والقوة والصراع (الداروينية الاجتماعية والنيتشوية) وتزايد الإنفاق الحكومي على التسليح.

عملية حساب التكلفة المادية والمعنوية لهذة الظواهر السلبية (ثمن التقدم) مع تحويل المعنوي إلى مادي تعد عملية صعبة، ويطرح الدكتور المسيري مفهوم التخلف الكوني في مقابل التقدم العلمي الصناعي، فمنذ عصر النهضة والإنسان الغربي يتحدث الثمرات التي يجنيها الإنسان من وراء التقدم الصناعي، ولكننا نعرف الآن أن هذا التقدم الصناعي يؤثر بشكل مدمر على البيئة والغلاف الجوي وهو مايسميه بالتخلف الكوني. ولنا أن نلاحظ أن التقدم الصناعي يفيد الغرب وحده بينما التخلف الكوني فيؤثر علينا جميعا. ولذا لابد أن تتناول حسابات ثمن التقدم، الظواهر البيئية كتآكل طبقة الأوزون وتلوث البحار والتصحر الناتج عن قطع الغابات وتلوث الهواء.

ثمة إحصائية تذهب للقول أنه لو تم حساب التكاليف الحقيقية لأي مشروع صناعي، أي حساب المكسب المادي مخصوما منه الخسارة الكونية والإنسانية لظهر أن المشروع خاسر. ومن حسن الطالع بدأت تظهر في الغرب جماعات مثل الخضر تتحدي المفهوم المادي للتقدم وتبدي اهتماما بقيم غير مادية وإدخال مؤشرات كيفية مثل التنمية المستدامة.

عن admin

شاهد أيضاً

"سلام ترام" .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين “سلام ترام” قصة …