Site icon arabprf.com

المقاربة النسوية للعلاقات الدولية

المقاربة النسوية للعلاقات الدولية

Feminist Approach to International Relations المقاربة النسوية للعلاقات الدولية

المقاربة النسوية للعلاقات الدولية

أ:عديلة محمد الطاهر

أستاذ مساعد أ ، جامعة المسيلة (الجزائر)

ملخص:

مثلت النسوية في فترة الثمانينيات من القرن العشرين إحدى أهم الإسهامات النظرية المميزة في حقل العلاقات الدولية، حيث عملت على إبراز كيف أن الحقل يعاني درجة كبيرة من الهيمنة والمركزية الذكورية، وبالتالي تهميش وإقصاء النساء ووجهات نظرهن على المستوى الفكري والنظري لينضاف إلى ما تعانيه النساء على المستوى العملي.

وباعتماد النسويين على مفهوم “الجندر” فإنهم يقدمون أداة تحليلية متميزة ومفيدة، برهنوا باستخدامها كيف أن الكثير من المفاهيم الأساسية (مثل الدولة والسيادة والقوة والعقلانية…إلخ) التي بنيت عليها النظريات السائدة وفي مقدمتها الواقعية تنحاز وتعكس بشكل فاضح القيم والصفات الذكورية، مما جعلها تقدم معرفة مجتزأة وغير حيادية.

وعليه تحاول هذه الورقة البحثية الإستفاضة أكثر في المشروع النسوي الذي قٌدم لفهم/ وإعادة هيكلة العلاقات الدولية، نظرية وممارسة.

Abstract :

This article try to show, as detailed phase, a Theoritical Contribution of Feminist Approaches of International Relations, where accounts that the Academic Field of international relations is under Domination by Androcentrism, which exclude views of women, through many concepts as State, Power, Security, Rationalism,… which holds pure manhood attributes.

The aim of Feminists is analyzing and reconstructing a Theoritical Field of International Relations according as concept of Gender, who is very useful tool.

تمكنت المقاربة النسوية في نهاية القرن العشرين من احتلال مكانة متميزة ضمن المقاربات النظرية البديلة في العلاقات الدولية، إذ راهنت على تحرير عملية التنظير في الحقل مما يٌعرف بهيمنة أو سطوة المركزية الذكورية للإتجاه السائد، وذلك بتقويض الأسس الفلسفية، الإبستمولوجية والمنهجية التي قام عليها من جهة، وإعادة هيكلة نظرية العلاقات الدولية والعملية التنظيرية ككل بالاستناد إلى مفهوم “الجندر” من جهة أخرى. إن استخدام الجندر كأداة تحليلية، كما يجادل النسويون، سيمكننا من رؤية العالم بطريقة مختلفة تماما عن السابق، كما أنه يكشف درجة التحيز الذكوري الموجود في المعارف والعلوم، وبالتالي يفتح نافذة أمام النساء لإثبات وجودهن فكرا وممارسة.

من خلال هذه الورقة البحثية سنحاول تسليط الضوء على هذه المقاربة المتميزة في الحقل النظري للعلاقات الدولية، وذلك بالتركيز على العناصر التالية:

– تمهيد.

– الجندر: أساس المشروع النسوي في العلاقات الدولية.

– تنوع المقاربات النظرية للنسوية.

– التحدي النسوي للمفاهيم الواقعية.

– مآزق وانتقادات الفكر النسوي.

1- تمهيد

اقتحمت المقاربات النسوية1 المجال الأكاديمي للعلاقات الدولية في نهاية الثمانينيات، في الوقت الذي كانت تدور فيه رحى النقاش الثالث، أو في بداية ما سماه جوزيف لبيد Joseph Lapid بـ “عصر ما بعد الحداثة”، وأغلبها تموقع في الجانب ما بعد الحداثي أو التأمليمن هذا النقاش2.

بالنسبة لمجال بحث النسويين في العلاقات الدولية فإنه يبدأ من فحص واستقصاء مكانة النساء في العالم ووضعهن، وتحليل ومعرفة سبب كيف أن علم السياسة، والعلاقات الدولية بصفة خاصة، قد أهملا الإهتمام بحياة النساء3، فقد جادل بيتمانPettman أن “حقل العلاقات الدولية هو من أكثر الفروع الدراسية ذكورية”4، مما حذا بـ سينثيا اينلوي Cynthia Enloe إلى أن تتساءل: أين هن النساء5؟.

إذن، يسعى النسويون – من خلال وضع الخبرات والتجارب والنشاطات والأفكار… المتعلقة بالنساء في بؤرة الإهتمام والدراسة – إلى توسيع التحليل النقدي وعملية التنظير لتشمل مفاهيم مثل العرق والطبقة والجندر والجنوسة Sexualities والهويات، وكذا الإعتراف بأن البنى والهياكل الإجتماعية الخاضعة لمحدد “الجندر” توجد على مستويات مختلفة، بدءا من المستوى المحلي إلى الوطني إلى الدولي6. فالنظرية عندهم لا تقف عند حدود تفسير الوضع القائم أو ما هو موجود، وإنما تتجاوزه إلى إعادة تكوين وبناء الواقع، ومن هذه الزاوية فهم ابستمولوجيا تكوينيون، سعوا مع علماء آخرين من المقاربات النقدية الأخرى إلى تحدي الأسس العلمية للحقل والمتمثلة في الإبستمولوجيا الوضعية7.

وكتوجه عام، أراد النسويون لفت الإنتباه إلى القصور والإقصاء الموجود والمقصود في معظم الدراسات والأبحاث التي عنيت بالشؤون الدولية، حيث تجنبت هذه الدراسات التفكير حول مسألة التقسيم رجل/امرأة وما ينجر عنها من إعادة النظر في كيفية دراسة السياسة الدولية، وموضوعها، ومناهجها،…إلخ، بل بالعكس أدمجت كلا من المرأة والرجل في تصنيفات تضفي الطابع الذكوري على أية دراسة في العلاقات الدولية، وقد تجلت مظاهر ذلك حسب النسويين في8:

$11- إختصارهم (جمعهم) في مسميات كـ رجال الدولة وليس نساء الدولة، صناع القرار وليس صانعات القرار، المحاربين، اللاجئين، سجناء الحرب… وكلها صفات أو تصنيفات ذكورية لا تبرز إطلاقا الجنس الأنثوي.

$12- القبول – وببساطة- في التحاليل العلمية الإفتراض المشترك القائل بأن النساء موجودات داخل حلقة أو دائرة مغلقة ومعزولة من الحياة الداخلية (الوطنية) أثناء مباشرتهن نشاطات لا علاقة لها بميادين تخص العلاقات الدولية كالحرب، صنع القرار أثناء الأزمات، تكوين المنظمات الدولية، التجارة الدولية…إلخ.

$13- الرجوع إلى التجريدات (الدولة مثلا) التي تخفي هوية ذكرية (تنافسية، عقلانية، أنانية، مالكة للقوة).

يمكن القول باختصار أن المقاربات النسوية في تحليل وفهم العلاقات الدولية قد ركزت على فكرة توسيع المعرفة في حقل نظرية العلاقات الدولية لتشمل تجارب وخبرات ووجهات نظر النساء.

2- الجندر: أساس المشروع النسوي في العلاقات الدولية

يقول بيترسون Peterson أنه لمعرفة كيف تشكل المقاربات النسوية طيفا واسعا من المواقف السياسية والتحليلية فإنه يتوجب علينا معرفة ثلاثة مشاريع معرفية نسوية متداخلة في العلاقات الدولية ظهرت بشكل متعاقب.

فمن خلال الفروع العلمية المختلفة تمثل المشروع النسوي الأول في محاولة عرض درجات وتأثيرات الإنحياز الذكوري9، فحقل العلاقات الدولية من حيث الممارسة العلمية والمهنية هيمن عليه الذكور في العالم الغربي الأنجلو-أوروبي، فلا نكاد نجد اسما أنثويا يذكر ضمن الرواد وأهم المفكرين المسهمين في نشأة وتطور العلاقات الدولية، سواء كحقل معرفي فكري أو كحقل علمي أكاديمي، ومن البديهي حسب المفكرين النسويين أن هذا الغياب لا يرجع لكون النساء قاصرات وعاجزات عن تقديم الإضافة وإثبات قدراتهن في هذا المجال، وإنما يرجع للإحتكار الذكوري والإقصاء الممارس ضد النساء. ومن حيث المنتوج الفكري والعلمي فقد اصطبغ بصبغة ذكورية خالصة تعكسها مفاهيم مثل السيادة، الأمن القومي والقوة العسكرية. إنه حقل، كما يقول بيترسون، ركز على نشاطات المجال العام (سياسات القوة، السياسة الخارجية، الحرب) المعرفة بالصفة الذكورية والمهيمن عليها من طرف الرجال.

الخطوة الثانية في المشروع كانت محاولة تصحيح الإقصاء المنظم للنساء وإهمال معاني الأنوثة من طرف المركزية الذكورية Androcentrism ، وذلك بإضافة النساء إلى الأطر المعرفية الموجودة10، فالتركيز على حياة النساء ونشاطات المجال الخاص يتضمن مصادر ومواضيع جديدة، ولقد رأينا سابقا كيف أن قسما مهما من النسويين حاولوا ودعوا إلى تحدي المقاربات والأطر المعرفية السائدة (العقلانية كمثال) من داخلها لا بنبذها وطرحها. يجادل بيترسون أن أغلب الأعمال النسوية تتطابق مع المشروع الثاني حينما تساءلت: أين هن النساء؟ في سياق مواضيع الإتجاه السائد في العلاقات الدولية11.

الخطوة الثالثة تمثلت في إعادة هيكلة وبناء النظرية، وهنا يصبح التمييز بين الجنس (Sex) والجندر (Gender) حاسما، فعلى عكس الرؤية الإمبريقية/الوضعية للجنس كمعطى بيولوجي طبيعي ثنائي (ذكر/أنثى) فإن الجندر هو بناء إجتماعي طارئ من الناحية التاريخية، والذي تنقسم على أساسه الهويات، السلوكات، والتوقعات كذكورية وأنثوية12، فالجندر كبناء تاريخي ليس معطى طبيعيا، إنه ليس خاصية للأفراد، ولكن خاصية بنيوية- مؤسساتية للحياة الإجتماعية، بالنتيجة كل الحياة الإجتماعية مجندرة(gendered).

يقول مارتن غريفيثس Martin Griffiths أنه حتى الثمانينيات من القرن العشرين وعلى الرغم من الإنجازات التي حققتها مفاهيم الأنوثة في العلوم الاجتماعية الأخرى، إلا أن دور الجندر في نظرية العلاقات الدولية وتطبيقاتها بقي مجهولا بالكامل13، فقد كان الزخم الأول من الإنتقادات التي وجهها النسويون لحقل العلاقات الدولية، الذي اعتبروه يعاني من عمى الجندر، موجها لتحدي التشوهات الأساسية في مادة العلاقات الدولية وإلقاء الضوء على الطرق التي تستبعد فيها النساء من التحليلات الخاصة بالدولة والإقتصاد السياسي الدولي والأمن العالمي.

تقوم فلسفة الجندر على فكرة أن التقسيمات والأدوار المنوطة بالرجل والمرأة، وكذلك الفروق بينهما، وحتى التصورات والأفكار المتعلقة بنظرة الذكر لنفسه وللأنثى، ونظـرة الأنثى لنفسها وللذكر… إلخ، كل ذلك هو من صنع المجتمع وثقافتـه وأفكاره السائـدة، أي أن كل ذلـك مصطنـع وبالتالي يمكن تغييره وإلغاؤه تماما14. فتقليديا نظر للرجل على أنه قوي، عنيف، بالإضافة إلى أنه عقلاني، أما المرأة فهي سلبية، حنون، وعاطفية، لكن النسويون يعترضون على هذا التصنيف وإلحاق الصفات كمعطى طبيعيا، وإنما ينظرون إليهما (الذكورة والأنوثة) كبناءات إجتماعية15.

استعمل النسويون التحليل “الجندري” لكشف التحيز الموجود في المفاهيم الأساسية في العلاقات الدولية مثل القوة والأمن، واعتبروا أن هذا التحيز لم يحدد فقط تطبيقاته النظرية، وإنما كانت له نتائج محددة على صعيد ممارسة العلاقات الدولية16.

لقد ركزوا بدرجة أقل على “الجنس” كمتغير إمبريقي، وبدرجة أكبر على “الجندر” كنمط تحليلي، فأهمية الجندر تكمن في تزويدنا بمعرفة كيف نفكر بالإضافة إلى كيف نتصرف. في المحصلة، التحول من المشروع الثاني إلى المشروع الثالث – أي التحول من الجنس إلى الجندر – يتضمن التحول من “الإضافة” إمبريقيا إلى “إعادة التفكير” تحليليا17.

إن إعادة بناء نظرية العلاقات الدولية انطلاقا من مفهوم الجندر اقتضت من النسويين – حسب بيترسون – الإرتكاز على النقاط التالية:

1- النظر إلى الجندر كوسيلة بنيوية وتحليلية يعني أن الإدعاءات حول الأنوثة هي بالضرورة ادعاءات حول الذكورة، لأنهما بناءين اجتماعيين مترابطين. فدراسة الرجال والنشاطات الذكورية تتطلب دراسة النساء والنشاطات الأنثوية، وبهذا المعنى فإن المقاربات النسوية للعلاقات الدولية لا تخبرنا فقط بعض الأشياء عن النساء، وإنما تغير نظرتنا ومعرفتنا عن الرجال. وهنا تصبح المقاربات النسوية مركزية لا هامشية بالنسبة لنظرية العلاقات الدولية18.

$12- النظر إلى الجندر كوسيلة بنيوية وتحليلية يعني أن الجندر يتخلل عالمنا التصوري والتواصلي والذي له بالضرورة انعكاسات سياسية، لأن الجندر يتميز بالهيراركية والترابط، فالميل إلى تعزيز وتقوية الصفات الذكورية حتما سيكون على حساب الصفات الأنثوية19.

$13- النظر إلى الجندر كوسيلة بنيوية وتحليلية يعني أن طرق التفكير وحتى بعض النظريات الخاصة يمكن أن توصف بالإنحياز الذكوري (مثل موضوعي، عقلاني، واقعي، كمي، صارم، شكلي، علمي…)، وعليه فإن التحدي الأساسي لكي تكون النظريات ذات فعالية ومصداقية في التفسير يجب أن تأخذ بجدية مسألة كيف عززت الطرق الذكورية في التفكير والمعرفة20.

إذن يخلص النسويون إلى أن منظري العلاقات الدولية هم بحاجة ماسة إلى استخدام “عدسات الجندر” من أجل إعادة التفكير حول دراسة وتنظير العلاقات الدولية.

3- تنوع المقاربات النظرية للنسوية

يقول مارتن غريفيثس أن المفاهيم النسوية مثلت في نهاية القرن العشرين حقلا من الأبحاث في دراسات العلاقات الدولية اتسم بالغنى والتعقيد والتناقض في كثير من الأحيان21، ولذا فهي لا تقدم رؤية واحدة منسجمة حول العالم (Coherent World View) بل هي متعددة الأبعاد22، وبتعبير غريفيثس هي مظلة تضم مدى واسعا من نظرية نقدية هدفها دراسة الجندر في العلاقات الدولية.

ورغم الإقرار بتنوع المفاهيم والمقاربات المشكلة للفكر النسوي، إلا أنه لا يوجد اتفاق حول تصنيفها أو عددها أو حتى تسمياتها. فهناك من يرى وجود نسوية ليبرالية، وأخرى جذرية، وأخرى ماركسية، وما بعد ماركسية، وما بعد حداثية23، …إلخ، وهناك من صنفها إلى نسوية ماركسية، ونسوية ليبرالية، واشتراكية، وراديكالية. وأضاف إليها آخرون النسوية البيئية، السوداء، الثقافية، الوجودية24. سبايك بيترسون Spike Peterson قسمها إلى: ليبرالية، ماركسية، راديكالية، وما بعد كولونيالية25. وبدورها قدمت سيلفستر Sylvester تصنيفا مهما للمقاربات النسوية للعلاقات الدولية، مستفيدة من عمل Sandra Harding المتعلق بالتمييز بين مختلف الاتجاهات النسوية في نظرتها للمجتمع لفحص العلاقات الدولية، تمثل هذا التصنيف في: النسوية التجريبية، وجهة النظر النسوية، النسوية ما بعد الحداثية26. من جهته جاكوي ترو JacquiTrue ميز بين ثلاثة أشكـال أو أصناف من الفكر النسوي حول العلاقات الدولية27:

$11-النسوية التجريبية: تركز على النساء و/أو استغلال “الجندر” كبعد تجريبي في العلاقات الدولية.

$12-النسوية التحليلية: وتستعمل “الجندر” كنمط أو صنف نظري لكشف التحيز الجنسي (الذكوري) الموجود في مفاهيم العلاقات الدولية، وتوضيح وتفسير السمات الجوهرية للعلاقات الدولية.

$13-النسوية المعيارية: وهي انعكاس لعملية التنظير كجزء من الأجندة المعيارية للتغير السياسي والإجتماعي.

بينما أنور محمد فرج قدم تصنيفا مختلفا عما سبق، إذ يرى بوجود ثلاثة تيارات بحثية نسوية أساسية في العلاقات الدولية في الوقت الحاضر، تتمثل في28:

$11-مراجعة القصص التي تحدثت حول حقل العلاقات الدولية.

$12-إعادة النظر في الحكايات الكبرى التي سردت حول الحرب والسلم.

$13-التركيز على إعادة تقييم دور ومكانة المرأة والتنمية في النظام الدولي ومكوناته.

ونختم بالتصنيف الذي قدمه كل من ستيف سميث وباتريسيا أوينسSteve Smith and Patricia Owens حيث قسماها إلى خمس مقاربات أساسية: النسوية الليبرالية، النسوية الماركسية/الإشتراكية، وجهة النظر النسوية، النسوية ما بعد الحداثية، النسوية ما بعد الكولونيالية29.

سنعتمد هذا التصنيف في تفصيل ما تضمنته كل مقاربة من المقاربات النسوية المختلفة، لأنه الأشمل ولأنه يجمع تقاطعات التصنيفات السابقة.

3-1- النسوية الليبرالية Liberal Feminism

مثلت أولى الإسهامات النظرية النسوية في حقل العلاقات الدولية، ظهرت في الثمانينيات من القـرن العشرين، وتعـرف كذلك بالنسوية التجريبية. هـي محاولة مـن جانـب النسويين الليبراليين للمطالبة بصوت النساء المخفي حينما طرحن وبشكل قوي السؤال: أين هي مكانة النساء في السياسة العالمية؟30 وكذا عرض الأدوار المختلفة التي لعبنها في النشاط الإقتصادي للقوى الإقتصادية في العالم وفي التفاعلات بين الدول بصفة عامة، إنها ببساطة تٌعنى بإبراز دور النساء وإثبات قدراتهن وأهميتهن في مجالات متعددة31.

يقدم أنصار هذا الإتجاه مفهوما ومعنى للليبرالية يختلف عن معناها العام في الفكر الفلسفي الغربي الليبرالي، فمضمونها في إطار النسوية ينطلق من مفهوم أن الوحدات الأساسية في المجتمع هي الأفـراد، وهؤلاء الأفراد متمايزون بيولوجيا إلى رجال ونسـاء، وبالتالي يملكون حقوقا متساوية. وبناء عليه فإن النسويين الليبراليين يسوقون واحدة من أقوى الحجج في وجوب أن تكون كل الحقوق مضمونة للنساء بدرجة متساوية مع الرجال32. وهنا نستطيع رؤية كيف أن الدولة قد جٌندرت gendered من خلال بعض المفاهيم مثل حقوق التصويت، وحق الملكية الخاصة…إلخ.

النسويون الليبراليون كذلك ينظرون إلى الطرق التي أبعدت بها المرأة وأقصيت من القوة ومن لعب دورها كاملا في النشاط السياسي، ويفحصون مسألة كيف قٌيّدت النساء بشكل كبير جدا في عمل بعض الأشياء المهمة التي لها تأثير على الحياة السياسية ككل، وكيف تم تجاهل وإهمال كل ذلك.

في هذا السياق تقول سينثيا اينلوي أنه إذا انطلقنا ببساطة من طرح السؤال: أين هن النساء؟ فإننا سنكون قادرين على رؤية حضورهن وأهميتهن بالنسبة للسياسة العالمية، بالإضافة إلى الطرق التي تم إقصاؤهن بها منها بذريعة اعتبار ذلك نتيجة حتمية لأدوارهن البيولوجية والطبيعية. ولئن لعبت النساء أدوارا مركزية سواء العمل بأجور زهيدة في المعامل، أو عاهرات في القواعد العسكرية، أو كزوجات للدبلوماسيين، فإن الصورة الإتفاقية التي طبعتها النظرية الدولية التقليدية قضت بتجاهل هذه المساهمات، وحتى وإن اعترفت بها فإنها تشير إليها على أنها أقل أهمية من نشاطات وأفعال رجال الدولة33.

من الناحية الإبستمولوجية والمنهجية لا يعارض النسويون الليبراليون توظيف مبادئ “العلم” الوضعية ومناهجه التجريبية في إستكشاف والتحقق من النشاطات المختلفة لكل من الرجال والنساء في ميدان العلاقات الدولية34. إنهم يحاولون تحدي الدراسات والنظريات التقليدية باستخدام الأطر المعرفية والمنهجية ذاتها لإثبات قدرات النساء في تقديم فهم أفضل للسياسة الدولية.

في الحقيقة لقد تعرض هذا الإتجاه لكثير من النقد من داخل النسوية نفسها، فالعديد من التيارات النسوية الأخرى رفضت المفاهيم التي قدمتها النسوية الليبرالية القائمة على اعتبار السياسة كنشاط عام له علاقة بالأحزاب السياسية وجماعات الضغط والبرلمانات، وقصر أهدافها على تمكين المرأة من الحقوق السياسية والمدنية التي كافحت من أجلها الأجيال النسوية الأولى، وبالتالي فإن النسويين الليبراليين حصروا همهم في كيفية زيادة أعداد النساء في مواقع السلطة العامة35.

3-2- النسوية الماركسية/الإشتراكية Marxist/Socialist Femenism

هي المنافس المباشر للإتجاه السابق، تركز على الدور الكبير والحاسم الذي تلعبه القوى المادية، خاصة الإقتصادية منها في تحديد شكل حياة النساء، هذه المقاربة تأخذ أحيانا مسمى النسوية المادية .Materialist Femenism

بالنسبة للنسويين الماركسيين فإن سبب لا مساواة المرأة أو النساء مع الرجال يوجد في طبيعة النظام الرأسمالي، ولتحقيق معاملة متساوية للمرأة فإنه لا بد من المضي قدما في طريق إسقاط والقضاء على الرأسمالية. أما النسويون الإشتراكيون فإنهم يشيرون إلى أن اضطهاد وظلم المرأة قد حصل في المجتمعات ما قبل الرأسمالية واستمر حتى في المجتمعات الإشتراكية أيضا، وبذلك فإنهم لا يرجعون الوضع المأساوي الذي عاشته النساء إلى مساوئ النظام الرأسمالي فقط، بالرغم من تحمله نسبة كبيرة في ذلك، وإنما يضيفون سببا ماديا ساهم بشكل مؤثر في تحديد وضع اللامساواة الذي تعيشه المرأة، ألا وهو النظام البطريريكي (الأبوي)36. إذن، إذا كانت الرأسمالية مصدر الإضطهاد الأول بالنسبة للنسويين الماركسيين، فإن النسويين الإشتراكيين يرونه في الرأسمالية والأبوية معا.

قدم النسويون الماركسيون والإشتراكيون معا نظرية معيارية للسياسة العالمية، ركزت على استهداف النماذج التي يقود بواسطتها النظام الرأسمالي العالمي والنظام الأبوي النساء إلى وضع تكن فيه غير متساويات مع الرجال37.

وهذا التوجه النظري في الحقيقة يتقاطع إلى حد بعيد مع توجه النسوية ما بعد الكولونيالية، إذ يقدمان استبصارا خاصا ينطلق من طبيعة العالم الإقتصادي وتأثيراته المتباينة على وضع النساء، لكن النسوية ما بعد الكولونيالية تنتقد النسوية الماركسية/الإشتراكية في افتراضها أو تسليمها بتشابه النظام الأبوي في كافة أنحاء العالم وعبر مرور الزمن، بدلا من رؤية كيف أن النظام الأبوي نفسه يفترض بشكل خاطئ التجربة العالمية للهيمنة الذكورية، وكيف أنه يحجب نقاط التقاطع للظلم والإضطهاد اللذين تعرض لهما الرجال والنساء على حد سواء بسبب اللون مثلا38.

وبالمقابل يرفض الكثير من النسويين الإشتراكيين النظريات الإجتماعية لما بعد الحداثة رفضا كاملا، لأنها في اعتقادهم تعمل ضد تحقيق الإشتراكية وإزالة الهيمنة الذكورية، بل إن بعضهم يجادل بأن ما بعد الحداثة تنكر علينا حتى إمكانية تحليل الأسباب البنيوية للتفاوت الطبقي واللامساواة بين الجنسين، لذلك لا يمكن الأخذ بها لإنجاز المشروع النسوي الماركسي. إنها في حقيقة الحال تسعى إلى تقويض أساس هذين المشروعين39.

3-3- وجهة النظر النسوية Stand-Point Femenism

ينطلق أصحاب هذا الإتجاه من محاولة تفكيك النصوص الأساسية المحددة في دراسة العلاقات الدولية، وكشف الإنحيازات الجندرية الموجودة في مجموع النقاشات التي سادت في الحقل منذ قيامه في1919. ويجادلون بأن خبرة النساء على هامش الحياة السياسية تمكنهن من إنشاء منظورات خاصة بهن حول المسائل الإجتماعية، والتي تقدم استبصارات مهمة لفهم السياسة العالمية40.

إذن يدعون إلى بناء المعرفة بالإرتكاز على الظروف المادية لتجارب النساء التي تعطي صورة أكثر اكتمالا عن العالم، طالما أن من عانوا الإضطهاد والتمييز غالبا ما يفهمون بشكل أفضل من مٌضطهِديهم مصادر اضطهادهم، وعليه فالنساء بإمكانهن تقديم تصورات مختلفة ومتنوعة وأكثر دقة حول كيفية عمل وسير العالم والقواعد التي تحكمه41، ومن ثم إمكانية بناء نماذج تحليلية ونظرية قادرة على إعطاء تفسير أو فهم بديل لمسائل العلاقات الدولية.

وإذا كانت الدراسات النسوية التجريبية قدر ركزت على استعراض دور النساء في العلاقات الدولية، فإن الدراسات والأبحاث المنطلقة من وجهة النظر النسوية تحاول لفت الإنتباه إلى الطرق التي تكون فيها الدراسات الدولية التقليدية بحد ذاتها موجهة جندريا42.

وجهة النظر النسوية، على خلاف الإتجاهات النسوية السابقة، لا تنطلق في رؤيتها وتحليلها من الوضع العام للمرأة وكيفيات تغييره، وإنما تربط تبعية النساء كطبقة خاصة أو كفئة من المجتمع بتأثير من جنسهن أكثر من مقامهن أو مرتبتهن الإقتصادية، وعليه فإن وضعهن العام المعرّف بتبعيتهن بسبب الجنس هو ما يجعلهن يمتلكن وجهة نظر (Stand-point) خاصة بهن في مجال السياسة العالمية43. وهذا الإستبصار طور فيما بعد ليعتبر كذلك كيف أن المعرفة والمفاهيم وأنماط السياسة العالمية قد استندت على معيار السلوك الذكوري والخبرة الذكورية، ولذلك فهي لا تمثل معيارا عالميا أو شاملا، بل معيارا أو موقفا Standard عالي الخصوصية.

لذا فهم يجادلون بأن النظر إلى السياسة العالمية من خلال وجهة نظر النساء سيغير جذريا فهمنا للعالم.

3-4- النسوية ما بعد الحداثية Post-Modern Femenism

يقول عنها روبرت كيوهين أنها مصطلح من الصعب تعريفه، كما أنها تغطي مجالا واسعا من الإتجاهات المنضوية تحتها، لكن بالنسبة لـ سيلفستر و هاردينغ Sylvester and Harding فإن جوهرها مشترك، ويدعوا إلى مقاومة مفهوم أو تصور “الرواية الصحيحة الوحيدة” أو “المنظور العالمي” مثل الذي يقدمه الرجل الأبيض44.

النسويون ما بعد الحداثيون استلهموا واستفادوا كثيرا من أعمال ما بعد البنيويين، خاصة في تحليل مفهوم الجندر، حيث انتقدوا التمييز بين الجنس والجندر الذي وجدته النظريات السابقة مفيدا في التفكير حول أدوار/حياة الرجال والنساء في السياسة العالمية، وفي تحليل المفاهيم المٌجَنِدرة للسياسة العالمية في حد ذاتها45. إن رفضهم التقسيم ” ذكر/أنثى” و” رجل/امرأة ” استند إلى اعتقادهم بكونه مصطنعا ويهدف بشكل مقصود إلى تكريس علاقات غير متكافئة، وبالتالي الحفاظ على فهم أو تصور ذكوري للعالم46.

ورغم تسليمهم بأن الجندر هو بناء اجتماعي، والجنس هو معطى طبيعيا، فإنهم مع ذلك، كما جادل عدد من مفكريهم، يؤكدون بأن فهمنا للجنس وللفروقات البيولوجية يتأثر بشدة بفهمنا للجندر، وعليه فإن الجنس مبني اجتماعيا كذلك كما الجندر. في هذا الشأن تجادل هيلين كينسيللا Helen M. Kinsella بأنه من الصعب جدا الدفاع عن فرضية أسبقية الجنس عن الجندر، ففهم الجنس والإختلاف الجنسي مثلا يعتمد بصورة كبيرة حول ما نعنيه بالإختلاف: كثنائي، كتكامل، أو كمعطى في الطبيعة، وعليه فإن تحديد ما نقصده بالإختلاف الجنسي يرتبط بعلاقات القوة والسياسة التي تنتج، تٌمَاِيز، وتضبط هذه المفاهيم للجندر والجنس47. إن هذا لا يعني أن أجسامنا البيولوجية أو محددات الجنس ليس لها أهمية، ولكن بالأحرى، كما تقترح كينسيللا، فإن فهم هذه العملية يقود إلى أسئلة متعلقة بكيفية اشتغال الجنس مع الجندر لخلق واقع تتحقق من خلاله عملية جنسنة الأشخاص Sexualized كأهداف للمعرفة ومواضيع للقوة، فالجندر ليس كشيء معطى أو متجذر في الجنس، بل يحدث وينتج عن العلاقات الإجتماعية.

من الناحية الإبستمولوجية والمنهجية يرفض النسويون ما بعد الحداثيون التوجه الوضعي- التجريبي لكل من النسويتين الليبرالية والماركسية، ويتبنون بالمقابل توجها ضد الوضعية وضد التجريبية48. يمكن الحديث هنا عن محاولة جين إلشتاين Jean B. Elshtain من خلال “إعادة تأويلها” للحقل الفلسفي للفكرة القائلة بأن النساء مخلوقات غير عمومية unpublic ، فكان سفرها عبر الفكر السياسي بداية من أفلاطون، أرسطو، مكيافيلي، روسو، هيغل، ماركس… قد قادها إلى اكتشاف مكائد “الحدود” في المعرفة البشرية لموضوع “السياسي”49، ومن ثم رفضت إلشتاين جملة وتفصيلا فكرة التمييز والتقسيم والحدود التي رٌسِمت لما هو سياسي.

3-5- النسوية ما بعد الكولونيالية Post-Colonial Femenism يشتغل النسويون ما بعد الكولونياليين على التقاطع بين مفاهيم الطبقة، الجنس، والجندر على مستوى السياسة العالمية، وخصوصا تأثير الأحداث العبروطنية والتقسيم غير المتساوي للعمل في الإقتصاد السياسي العالمي.

ينطلق مفكرو هذا الإتجاه النسوي من نقد النسويين الليبراليين، الذين حصروا وقصروا مطالبتهم في أن يكون للرجال والنساء حقوق متساوية في الغرب ذي الأنظمة السياسية الديمقراطية، وتجاهلوا في المقابل وضع النساء المزري في العالم الجنوبي بسبب تبعات النظام الرأسمالي العالمي، نظام كان النسويون الليبراليون بطيئون جدا في تحديه بطريقة منظمة. بكلمات أخرى مخاوف ومصالح النسويين في الغرب ونظرائهم في باقي العالم ليست نفسها، وبالتالي لا يمكن تحقيق أهداف متباينة بطرق متماثلة50.

إذن، هم يدعون إلى ضرورة الإنتباه إلى أن مشكلة النساء في الدول التي خضعت للإستعمار هي جزء من المشكلة العامة التي تعانيها مجتمعات هذه الدول رجالا ونساء، وبالتالي فالهدف الأساسي هو التحرر من تبعات الإستعمار وفق نظرة شمولية تدمج النساء إلى جنب الرجال في عملية التحرر هذه. ولا يتوانى النسويون ما بعد الكولونياليين في نقد المثقفين الأكاديميين الغربيين، ذوي الإمتيازات سواء كانوا رجالا أو نساء، الذين يدعون أنهم قادرين على التكلم والدفاع عن المضطهدين، بينما هم في الحقيقة لا يفعلون ذلك، وبالتالي فهم يسهمون بشكل من الأشكال في الإمبريالية الثقافية، لتضاف إلى أشكال الإمبريالية الأخرى التي تعاني منها نساء الجنوب.

وتمثل في هذا الصدد غاياتري سبيفاك Gayatri Spivak أكثر علماء النسوية ما بعد الكولونيالية المؤثرين، حيث جمعت بين الماركسية والنسوية والتفكيكية لتفسير الإمبريالية ماضيا وحاضرا، والصراع المستمر من أجل التحرر من الإستعمار51.

يمكن القول إجمالا أن النسوية بمختلف توجهاتها قد قدمت أعمالا مختلفة ومتنوعة فيما يتعلق بالعلاقات الدولية، ولكنها تتفق فيما بينها حول الفكرة الأساسية التي مفادها أن الجندر يلعب دورا مهما في فهم كيفية سير العلاقات الدولية، وبشكل خاص القضايا المتعلقة بالحرب والأمن الدولي. جونس أدام Jones Adam يحدد ثلاثة خصائص أساسية للمقاربات النسوية مع إعترافه أن بعض النسويين قد لا يقبلون كل هذه الخصائص، وهي52:

$11- من ناحية موضوع التحليل، كل المقاربات النسوية تركز على النساء كفواعل تاريخية وسياسية.

$12- من ناحية كيف يديرون تحليلاتهم، فإن كل النسويين يتقاسمون الأساس الإبستمولوجي بالرجوع إلى خبرة النساء.

$13-من ناحية وجهة نظرهم المعيارية، كل النسويين يؤكدون أن النساء وصفة “مؤنث” قد شكلت تاريخيا مجموعات ووجهات نظر فقيرة، غير ممثلة، وغير معترف بها، وعليه فإن هناك حتمية للتغيير نحو أكبر قدر ممكن من المساواة مع الرجال.

من جهتها تيكنر حددت أربعة أهداف منهجية توجه أغلب البحوث النسوية، تتمثل في53:

$11- البحث النسوي يطرح أسئلة نسوية.

$12- يعمل على أن يكون أقل تحيزا وأكثر عالمية من البحث التقليدي.

$13- الأسئلة المتعلقة بـ الإنعكاسية Reflexivity وذاتية الباحث تحتل مركز الإهتمام.

$14- إلتزام نحو المعرفة كعملية تحرر وانعتاق.

إذن، تتشابه وتتقارب مطالب النسويين بشكل عام، من حيث هي مطالب حقوقية إنسانية، لكن لكل تيار أو توجه فكر وإيديولوجية معينة.

4- التحدي النسوي للمفاهيم الواقعية

حاول النسويون تحدي المفاهيم والأفكار التي قدمتها الواقعية باعتبارها تمثل الإتجاه السائد في العلاقات الدولية، وعملوا على تفكيكها وكشف جوانب التحيز الذكوري فيها، معتمدين على الجندر كأداة مهمة ومفيدة في التحليل. وتوجهوا بنقدهم إلى مفاهيم مثل الدولة والقوة والأمن، بصفتها تمثل جوهر السياسة الدولية عند الواقعيين.

فـ آن تيكنر تبرر اهتمامها بدراسة الدولة لأنها تمثل الوحدة الأساسية للتحليل في العلاقات الدولية، والأمن لأنه المسألة الجوهرية في التخصص أو الحقل54، ولأجل تصحيح الصورة التي قدمها الواقعيون حول هذين المفهومين فإنها قامت بإعادة وصف المبادئ الموضوعية الستة للسياسة الدولية المقدمة من طرف هانز مورغانتو مع صبغها بصبغة أنثوية55.

ومن جهته جاكوي ترو يقول أن النسوية باختصار هي: مجموعة معقدة أو مركبة من الفهوم حول كيف تشتغل القوة؟ كيف يتم شرعنة وتبرير القوة؟ وكيف تدوم وتستمر هذه القوة؟56. وعليه فالنسويون يفحصون أشكال القوة التي تم بناؤها والتعبير عنها في مجال اٌصطلح عليه تقليديا بـ “المجال الخاص” أو “الفضاءات الخاصة” (داخل البيوت، بين العائلات، بين الأفراد والأصدقاء، …) بالإضافة إلى أشكال القوة التي تم التعبير عنها كذلك بما اٌصطلح عليه “المجال العام” أو “الفضاءات العامة” (الإنتخابات، المحاكم، المدارس، مؤسسات التلفزيون، البنوك، القواعد العسكرية،…)، وذلك لمعرفة العلاقات السببية بين القوة وأشكالها في المجالين الخاص والعام، ولمعرفة كيف يتم جندرتها عبر مستوياتها المختلفة من الدولة إلى النظام الدولي.

ومن بين القضايا التي ناقشها النسويون قضية الأمن التي هي قضية مركزية بالنسبة للفكر الواقعي، فهم يرون أنه يجب إدراج الأبعاد الأخرى من غير العسكرية بما فيها الخبرات النسائية في تحليل مضمون الأمن، وذلك من أجل بناء تعريف موسع وشامل له57. إذن فالنقطة التي يختلف فيها النسويون عن الواقعيين هي في التركيز على فكرة المضمون المتعدد الأبعاد للأمن ليشمل الأبعاد الإقتصادية والثقافية والسياسية إضافة إلى البعد العسكري.

وعموما فقد قام ادام جونس بتحديد أربعة مسائل انتقد فيها النسويون الواقعية، وهي58:

$11- الثنائيات المتعارضة (بين الرجال والنساء كمفاهيم وبناءات إجتماعية).

$12- الإفتراض الواقعي حول الدولة (الدولة ككيان ذكوري).

$13- نموذج الفاعل العقلاني.

$14- المفاهيم الواقعية حول القوة والأمن.

لكن ما يضيفه جونس أن النسويين لم ينفردوا بهذه المواضيع في انتقادهم للواقعية، وإنما ما هو مميز بالنسبة للتوجه النسوي هو إدماج متغير الجندر واستكشاف تأثيره على النساء وعلى المجتمع ككل.

من جهتهما حصر كل من خوانتا الياس و بيتر ساتش Juanta Elias and Peter Sutch عناصر التحدي والنقد النسوي للمفاهيم التي تقوم عليها الواقعية فيما يلي:

$11-انتقد النسويون التركيز الشديد على مفاهيم العنف، العدوان، والمنافسة من طرف الفكر الواقعي، فكتاب مثل هانز مورغانتو ارتكزوا في فهمهم للواقعية على بعض الإدعاءات حول الطبيعة البشرية (أنانية، تنافسية، عنيفة)، لكن النسويين تحدوا هذه الفكرة متسائلين: من هو الإنسان الذي هو نموذج لهذا السلوك؟59.

$12-يتحدى النسويون الطرق التي فٌهمت بها الدولة تقليديا من طرف أغلب نظريات العلاقات الدولية وعلى رأسها الواقعية، فالإتجاه السائد يفترض أن السياسة الدولية هي نتاج ما تقوم به الدول ذات السيادة فيما بينها. لكن كما يشير Jill Steans فإن مثل هذا الشكل البسيط للسياسة الدولية يتعارض مع العديد من الأسس التي قدمتها الإستبصارات النسوية، فالميل التقليدي للواقعية في التركيز البحت على العلاقات بين الدول يحجب المدى الذي تحدث به الأشياء داخل الدولة، وبالتالي يجعل من دراسة علاقات الجندر في الواقع المحلي منفصلة وغير ذات أهمية في دراسة الواقع الدولي60. ومع ذلك أشار النسويون إلى أن المفاهيم المقدمة حول الدولة على أساس أنها محايدة جندريا تخفي في الحقيقة كيف أن الدولة عملت على مأسسة لا مساواة الجندر Gender Inequality من خلال هياكلها القانونية والبيروقراطية وممارساتها السياسية. وأكثر من ذلك، فإن تشكيل الدولة الحديثة “ذات السيادة” في السياسة الدولية يرتبط بأفكار الأمة The Nation كوحدة سياسية مستقلة، وكما يشير عدد من العلماء أمثال Yuval, Davisand Anthias فإن القومية هي إيديولوجيا على درجة عالية من “الجندرة”، ظهرت في القرن التاسع عشر، وتضمنت عددا من الإفتراضات حول الدور المناسب لكل من الرجل والمرأة في المجتمع. ولقد عبر بيترسون عن الإقصاء الذي تعرضت له المرأة سواء في بناء الدولة أو في بناء الأمة بالقول: “إنه ببساطة ليس من الممكن تفسير قوة الدولة بدون تفسير الإقصاء المنظم للمرأة منها”61.

$13-هناك انتقادات وجهت خصيصا للواقعية الجديدة التي اختارت مناهج وضعية، فعلى غرار ما بعد الحداثيين يرى العديد من النسويين أن التفسيرات المقدمة حول العلاقات الدولية لا يمكن أن تتم بطريقة موضوعية وخالية من القيم62. فالمعرفة حسب النسويين هي بناء اجتماعي تخضع لتأثير عامل الجندر، وبالتالي لا يمكن أن تكون حيادية بأي شكل من الأشكال، والأمر نفسه بالنسبة للمناهج المستخدمة في الوصول إلى المعرفة.

$14-أثار النسويون مخاوف حول مستوى التجريد في نظريات العلاقات الدولية مثلما تفعله الواقعية الجديدة، فالمقاربات الوضعية في العلاقات الدولية ولّدت تخصصا تمحور حول إعلاء القيم “العلمية” الموضوعية، بدلا من الإهتمام بالطرق التي تؤثر بها السياسة الدولية على الحياة اليومية للناس63. وهذا النقد يشبه النقد الذي وجهته ما بعد السلوكية للسلوكية حينما اتهمتها بفصل العلم وعزله عن المجتمع أو ما سمي بفكرة “العلم البحت Pure Science”.

إذن حاولت النسوية كشف الإنحيازات الذكورية في المفاهيم التي قدمها الواقعيون، وتبيان أنها لا تخبرنا بصـدق عما يحدث ويجري فـي السياسة الدولية، وذلك لأنها تحجب – بطريقة منظمة وممنهجة – حقيقة أن هناك قطاعا كبيرا من المجتمع – يلعب دورا مهما في التفاعلات السياسية باختلاف مستوياتها وأشكالها – هٌمش وأٌقصي اسمه النساء.

5- مآزق وانتقادات الفكر النسوي

من بين الإنتقادات التي وجهت للمقاربات النسوية أن ما يفرقهم أكثر مما يجمعهم، أي عدم قدرة النسويين على تقديم تصور منسجم وموحد حول العلاقات الدولية أنطولوجيا، ابستمولوجيا، ومنهجيا، فلا هم يقدمون توصيفا محددا لواقع وطبيعة العلاقات الدولية وفواعلها وسير العمليات فيها، ونستطيع هنا الأخذ بمثال الإختلاف بين النسويين الليبراليين والنسويين الإشتراكيين، ولا هم يتفقون ابستمولوجيا ومنهجيا حينما نرى أن النسوية التجريبية تتبنى الوضعية كإطار فلسفي ومنهجي للبحث، في مقابل تبني النسويين الما بعد حداثيين لما بعد الوضعية إطارا فلسفيا ومنهجيا للبحث. إذن أولى المشكلات التي يعانيها التيار النسوي هو هذا التمزق الفكري والمنهجي.

إن إلتزام جميع النسويين بنوع من الأخلاقية المرتكزة على إعادة بناء المجتمع من جميع جوانبه المادية والمعنوية وفق أسس من المساواة بين الرجال والنساء لهو في نظر العديد من الباحثين أشبه بما تدعوا إليه المثالية64. فوفق هؤلاء لا يمكن القفز على حقائق الواقع والتاريخ التي تثبت أن التمييز والفروقات هي ضرب من ضروب الطبيعة والإنسان على حد سواء.

حسب سوزان كارول و ليندا زيريللي هناك مشكلة مستمرة أمام الباحثين النسويين تتمثل في كيفية تطوير نماذج نظرية وامبريقية بديلة تضع بعين الإعتبار خبرات النساء ووجهات نظرهن، على أن تتجنب في الوقت نفسه كلا من إعادة إنتاج الإختلافات بين الجنسين لصالح النساء من جهة، وطمس التنوع الإجتماعي بين النساء65. فالمأزق الذي يتهدد النسويين هو إمكانية الخروج والتحرّر من المركزية الذكورية للوقوع في مركزية أنثوية، وكذا الوقوع في خطأ اعتبار النساء كفئة أوضاعها ومطالبها وتصوراتها وطموحاتها وأهدافها ووسائل تحقيق ذلك متماثلة وموحدة.

في السياق نفسه تتحدث هند مصطفى عن خطر مقاربة قضايا المرأة من بوابة الصراع بينها وبين الرجل، فلربما تأخذ نتائج هذا الصراع مداها فتكون إحلالية أو انعزالية، وهو ما تروج له بعض أوساط الفكر النسوي الراديكالية، من دعوتها إلى خلق مجتمعات قاصرة على النساء بغية التخلص من القهر الذكوري66.

في الأخير يمكن القول أنه يصدق على المقاربات النسوية النقد الموجه للمقاربات النقدية ككل بأن ما يجمعهم يتمثل فقط في رفض الإتجاه السائد في العلاقات الدولية.

الهوامش:

يعارض العديد من الكتاب جمع إسهامات المفكرين النسويين ووجهات نظر النساء في مجال السياسة والعلاقات الدولية تحت مسمى “النظرية النسوية”، لأنها لا تضم خطا فكريا منسجما وموحدا، وإنما هي في الحقيقة مجموعة من الرؤى والإفتراضات الفلسفية والمنهجية والإبستمولوجية المتعلقة بدراسة السياسة الدولية من وجهة نظر النساء، على قدر كبير من التوافق من جهة، وعلى قدر كبير من الإختلاف في الوقت نفسه من جهة أخرى. فالتوافق هو بخصوص دراسة مسألة إقصاء النساء- فكرا وممارسة- من مجال مهم لعبن فيه دورا كبيرا ألا وهو مجال النشاط السياسي على المستوى الدولي، وضرورة تغيير هذا الواقع بما يتيح منح المرأة المكانة التي تستحق. والإختلاف كان حول طرق وأساليب هذا التغيير.

2 J. Ann Tickner, “Feminism Meets International Relation: some methodological issues” in Brooke A. Ackerlyand Maria Stern and Jacqui true (eds.) Feminist Methodologies for International Relations(Cambridge University Press, 2006), p 19.

3 Karven J. Vogel, “Feminist International Relation ” in John T. Ishiyama and Marijke Breuning (eds.) 21st Century Political Science: A Reference Handbook (California: Sage Publications, 2011), p 345.

4 Juanta Elias and Peter Sutch, International Relations: The Basics (New York: Routledge, 2007), p 122.

5 Idem.

6 Karven J. Vogel, op. cit. p 345.

7 J. Ann Tickner, op. cit. p 19.

8 عمار حجـار، السياسة المتوسطية الجديدة للإتحـاد الأوروبي: إستراتيجية جديـدة لإحتواء جهـوي شامـل. رسالة ماجيستير غير منشورة، جامعة باتنة، 2002، ص31.

9V. Spike Peterson, “Feminist Theories Within, Invisible To, and Beyond IR” Brown Journal of World Affairs,Volume X, Issue 2 (2004) p 37.

10 Idem.

11 Ibid, p 38.

12Ibid, p 39.

13 مارتن غريفيثس و تيري أوكلاهان، المفاهيم الأساسية في العلاقات الدولية. مركز الخليج للأبحاث، الإمارات العربية المتحدة، 2008،ص 422.

14 بسام جرّار، النوع الإجتماعي. على الرابط :

<www.islamnoon.com/Motafrkat/gender.htm>

15Juanta Elias and Peter Sutch,op. cit. p 123.

16JacquiTrue, “Feminism” in ScottBurchill et al (eds.) Theories of International Relations (Palgrave Macmillan, 2005), p225.

17V. Spike Peterson, op. cit. p 40.

18Idem.

19Idem.

20 Ibid, p 40.

21 مارتن غريفيثس و تيري أوكلاهان، مرجع سابق، ص 423.

22JacquiTrue, op. cit. p 225.

23مارتن غريفيثس و تيري أوكلاهان، مرجع سابق، ص 423.

24مية الرحبي، الموجات النسوية في الفكر النسوي الغربي. على الرابط:

>< http://civicegypt.org/?p=27463

25V. Spike Peterson, op. cit. p 37.

26Robert O. Keohane, “International Relations Theory: Contributions of a Feminist Standpoint,” Millennium -Journal of International StudiesVol. 18 no. 2 (1989). P245.

27JacquiTrue, op. cit. p 214.

28 أنور محمد فرج، مرجع سابق، ص 465.

29Steve Smith and Patricia Owens, “Alternative Approaches to International theory” in John Baylis and Steve Smith (eds.) The Globalization of World Politics: An Introduction to International Relations (UK: OxfordUniversity Press, 2nded, 2001), pp 281-284.

30Ibid, p 281.

31 مارتن غريفيثس و تيري أوكلاهان، مرجع سابق، ص 422.

32Steve Smith and Patricia Owens, op. cit. p 281.

33Idem.

34عمار حجار، مرجع سابق، ص30.

35هند مصطفى، النسوية وعلم السياسة من منظور مغاير، على الرابط:

<http://www.aswic.org/ReviewsCriticismDetails.aspx?Id=4>

36Steve Smith and Patricia Owens, op. cit. p 281.

37Ibid, p 282.

38Idem.

39أنور محمد فرج، نظرية الواقعية في العلاقات الدولية: دراسة نقدية مقارنة في ضوء النظريات المعاصرة (السليمانية: مركز كردستان للدراسات الإستراتيجية، 2007)، ص 462.

40Robert O. Keohane, op. cit. p 245.

41عمار حجار، مرجع سابق، ص30.

42مارتن غريفيثس و تيري أوكلاهان، مرجع سابق، ص 423.

43Steve Smith and Patricia Owens, op. cit. p 282.

44Robert O. Keohane, op. cit. p 245.

45Steve Smith and Patricia Owens, op. cit. p 282.

46عمار حجار، مرجع سابق، ص31.

47Steve Smith and Patricia Owens, op. cit. p .283

48 عمار حجار، مرجع سابق، ص32.

49حيث تم ربط المجال السياسي في الفكر التقليدي (الذكوري) بفكرة الحيز العام أو الفضاء العام ، والذي تم فيه إقصاء النساء وحصرهن فيما يعرف بالحيز الخاص أو الفضاءات الخاصة.

50Steve Smith and Patricia Owens, op. cit. p 284.

51Idem.

52Cynthia Weber, International RelationsTheory :A critical introduction (New York, Routledge, Thirdedition, 2010).p 87.

53J. Ann Tickner, op. cit. pp 22-29.

54J. Ann Tickner, op. cit. p 20.

55 Steve Smith and Patricia Owens, op. cit. p 284.

56JacquiTrue, op. cit. p 228.

57 مصباح عامر، نظرية العلاقات الدولية: الحوارات النظرية الكبرى. دار الكتاب الحديث، القاهرة، 2009، ص 199.

58Cynthia Weber, op. cit. p 89.

59Juanta Elias and Peter Sutch,op. cit. p 123.

60Ibid, p 124.

61Idem.

62Idem.

63Ibid, p 125.

64 مارتن غريفيتش و تيري أوكلاهان، مرجع سابق، ص 423.

65سوزان ج كارول و ليندا م ج زيريللي،” التحديات النسوية أمام العلوم السياسية “ في: ميرفت حاتم، محرّر، نحو دراسة النوع في العلوم السياسية، ترجمةشهرت العالم ( القاهرة: مؤسسة المرأة والذاكرة، ط 1، 2010)، ص 41.

66هند مصطفى، مرجع سابق.

Exit mobile version