Site icon arabprf.com

المجتمع المدني بين القيمية والعلمية: محاولة لتقييم حالة المفهوم

مفهوم المجتمع المدنى

مفهوم المجتمع المدنى

 

قبل الحديث عن مفاهيم للمجتمع المدني “علمية وفلسفية” تجدر الإشارة في البداية إلى عدد من الملاحظات:

        أولا- أن مفهوم المجتمع المدني من المفاهيم المراوغة، بمعنى تعدد معانيه، ومقاصدها، إلى جانب فلسفاته وأطره الفكرية.

        ثانيًا- من الصعب التمييز بين المفهوم العلمي والفلسفي للمفهوم، كون مفهوم المجتمع المدني يحمل بعدًا قيميًا من الأساس.

        ثالثًا- يرجع الاختلاف في تعريف مفهوم المجتمع المدني ليس إلى اختلاف الكتاب والمفكرين وحسب، ولكن أيضًا إلى الرؤية أو النموذج المعرفي الكلي الذي يقوم بتعريف المفهوم أو بمعنى آخر باختلاف المدرسة الفكرية بين غربية وإسلامية -مثلًا-.

رابعًا- تداخل مفهوم المجتمع المدني مع مفاهيم أخرى، كالحركات الاجتماعية، والقوى الوسيطة، والمنظمات غير الحكومية، والمجتمع الأهلي.

وعلى كلٍ فما سيأتي – في هذه الورقة – هو محاولة للتعريف بهذا المفهوم من جانبه القيمي – الفلسفي، والعلمي -التجريبي، ووضع المفهوم في ميزان معايير الجودة وتقيمه تبعًا لها، مع إشارات سريعة إلى أوجه الخلاف بين المدارس الفكرية المختلفة.

المجتمع المدني لغويًا:

هو مركب تركيب لفظي من كلمتين، المجتمع وهي مشتقة -اسم مفعول- من الفعل (اجتمع)، وتعني موضع الاجتماع، أو أي فئة من الناس تشكل مجموعة تعتمد على بعضها.[i] أما الشق الثاني “المدني”, فقد تعددت تعريفاته في القواميس العربية، بين منسوب إلى المدينة فهو مدني، وعكس العسكري، أو مدينة بمعنى الجانب المادي للحضارة[ii], والآخرين استخدموه على أنه نقيض الديني[iii]. ويمكن الإشارة هنا أن القاموس الأجنبي قد استخدم المجتمع المدني للإشارة للمجتمع المحتضر الذي لا سلطة للعسكر أو الكنيسة فيه، وهو ما يمكن تلمس اختلاف ابتداءً بين الفكر العربي والإسلامي خاصة إذا كان الأخير يعتبر المدني المضاد للقبلي[iv].

المجتمع المدني اصطلاحا:

وهنا يمكن طرح تعريفًا إجرائيًا للمجتمع المدني من خلال المؤشرات التالية:[v]

 

المفهوم الفلسفي:[vi]

يمكن الإشارة بصدد المفهوم الفلسفي للمجتمع المدني إلى ذلك الجدل الدائر حول معنى مدني نفسها وإلى تاريخ نشأة المجتمع المدني بين الخبرة الغربية والخبرة الإسلامية، نشأت المجتمعات المدنية الغربية من واقع صراع بين الدين والدولة، قامت على إثرها فكرة أساسية مفادها “أن المدني هو نقيض الديني” وأن الفصل بينهما أمرًا لا مفر منه، بخلاف الخبرة الإسلامية في المجتمع المدني أو “الأهلي” الذي لم تكن أصلًا مشكلة الدين وعلاقته بالحياة العامة مشكلته بل شكلت المرجعية والهدف من العمل الأهلي.

إلى جانب اختلاف ظروف النشأة فالغرب قام المجتمع المدني لمواجهة الدولة أو الحد من سلطاته فأصبح المدني نقيض الدولي أو بتعارض مع توسع الدولة، في حين أن الإسلامي لم يكن هذا المعنى مطروحًا فقد كانت مساحة التعاون أكبر وأوسع وقام المجتمع بدور أكبر في التعليم وإكمال دور الدولة.

إذًا فالمفهوم الغربي للمجتمع المدني (الفلسفي يقوم على ركيزتين):

أما عن المجتمع المدني في الإسلامي في جانبه الفلسفي يقوم على:

 

أو يمكن وضع مفهوم فلسفي آخر:

“هو مجموعة التنظيمات التطوعية المستقلة ذاتيًا، التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة، وهي غير ربحية، تسعي لتحقيق منافع أو مصالح للمجتمع ككل أو بعض فئاته وأفراده، ملتزمة بمعايير الاحترام والتراضي، والإدارة السياسية للاختلافات والتسامح وقبول الآخر”[vii].

معايير صياغة مفهوم المجتمع المدني: (خصائص المجتمع المدني):[viii]

ثمة جدال حول معايير أو خصائص المجتمع المدني، أو بخاصة حول المفاهيم التي عليها يقوم المجتمع المدني، وهنا سنتناول المعايير الأساسية والفرعية، على اعتبار أن البعد الفلسفي- القمي قد تم تناوله مسبقًا.

أولًا- المعايير الأساسية للمجتمع المدني:

وتقترب هذه المعايير بدرجة أو بأخرى إلى التعريف الإجرائي للمجتمع المدني، لكنها أكثر شمولًا وتركيزًا.

ثانيًا- المعايير الثانوية:

 

 

المفهوم العملي:

يمكن بصدد مفهوم عملي أن نقول:

“هي تلك المؤسسات ذات الأهداف المحددة والتي تسعى من خلال الأدوات المختلفة لتحقيقها، من خلال كسب الدعم والتأييد، وهي في النهاية تنتمي بدرجة أو بأخرى لعالم السياسة سواء في ارتباطها بقوى الداخل السياسية أو أجندات الخارج الدولية، وأن حرية عملها تتوقف على قدر الحريات العامة والسياسية المتوفرة في المنطقة التي تعمل فيها”.

 

مفهوم المجتمع المدني في ميزان الجودة المفاهيمية:

ثمة عدة معايير من خلالها يمكن الحكم على مدى جودة المفاهيم ووضوح صياغته وعلى أساسها سنحاكم مفهوم المجتمع المدني.

يُعد المفهوم من أكثر المفاهيم ألفة وتداولًا بين الباحثين والممارسين على السواء للتعبير عن تلك المؤسسات التي تشغل الحيز بين الدولة والعائلة وإن اختلفوا في مضامينه الفلسفية والفكرية.

اكتسب المفهوم قدر كبير من المنطقة بفعل تراكم مستخدمه، وتراكم المعاني، والمفاهيم المرتبطة به، وبقدر حوزته لاهتمام متزايد من قبل الباحثين والمفكرين والكتاب والممارسين من الثقافات والمجتمعات المختلفة.

قد لا تكون درجة إحكام مفهوم المجتمع المدني كبيرة بفعل تشابك حدوده مع مفاهيم أخرى، فلا أحد يستطيع الجزم بأن المجتمع المدني يتوقف عند مؤسسات ما أو مهام ما، فكل مستخدم له يوسعه ويضيقه حسب هدفه وزاوية نظره للمفهوم، إلا أنه مع ذلك أمكن وضع تعريفات شبه معبرة عن مضامين المفهوم وإن كانت لا تدعي الشمول.

 

إلى حد ما بلغ مفهوم المجتمع المدني درجة من التماسك الداخلي بحيث أصبح ثمة معايير ومفاهيم أساسية دار عليها شبه اتفاق بالنسبة لارتباطها بالمجتمع المدني، غير أنه لا زالت إشكاليات أخرى عالقة تتعلق بالمعايير الثانوية والأساسية للمفهوم، وأن ترتبيها يتوقف بشكل أساسي على خلفيات الباحثين العقائدية، وطبيعة المجتمعات التي تحوي بداخلها المجتمع المدني. إلا أنه ما من شك أن ثمة صلة ما تجمع المعايير الثانوية والأساسية ببعضها، وإن كان الخلاف أمر حتمي بين الباحثين.

 

وهذه من الصعب الحكم عليها فالمجتمع المدني من المفاهيم كثيرة وكثيفة الاحتكاك بمفاهيم أخرى، بعضها تاريخي وبعضها ملامس لمجالات عمل المنظمات المجتمعية المختلفة، على سبيل المثال لا الحصر، المجتمع الأهلي، القطاع الثالث، المنظمات غير الحكومية، الحركات الاجتماعية، ..إلخ. كل ذلك جعل من وضع أُطر عامة للمفهوم أمر يصعب على الباحث تحقيقه.

 

فمثلًا مفهوم الحركات الاجتماعية، يتفق مع مفهوم المجتمع المدني في كل الخصائص تقريبًا ربما فيما عدا الاستمرارية فالبعض يرى أن الحركات الاجتماعية لا تكون مستمرة بالشكل الذي يتحقق في منظمات المجتمع المدني، هو أمر هو الآخر محل جدل ونقاش.

 

تزداد نسبة الاستفادة النظرية من المفهوم بكونه يتخطى مجرد التعريف بمؤسسات المجتمع المدني وأدوارها الفعلية والمتوقعة، إلى مفاهيم واقترابات أخرى حول طبيعة العلاقة بين المجتمع الدولة، ومسؤولية الفرد في المجتمع، وعلاقته بغيره، ومفهوم الخير العام، وانتشاره في المجتمع.

 

كل هذه المعطيات السالفة إن دلت على شيء إنما تدل على عمق مفهوم المجتمع المدني، وتشابكاته النظرية، والواقعية، وبالتالي فإن طرح فكرة التماسك بشقيه الداخلي والخارجي مع مفهوم كالمجتمع المدني أمر يصعب التعاطي معه، وإن كان في النهاية لا يمكن طرح أي نظرية للمجتمع المدني بمعزل عن بيئة بعينها، فيمكن القول إنه لا يمكن صوغ نظرية عامة للمجتمع المدني تتماشى مع كل المجتمعات.

 

معوقات إيجاد مفهوم جامع للمجتمع المدني:

تُعزى صعوبة الوصول لمفاهيم جامعة مانعة في العلوم السياسية خاصة والاجتماعية عامة -بما فيها مفهوم المجتمع المدني- إلى عدة اعتبارات، أولها: يتعلق بطبيعة العلوم الاجتماعية نفسها وتطورها، وثانيها يتعلق بالخليفات التاريخية ولراء المفاهيم, وثالثها يتمحور حول الأطر الفلسفية والقيمية لكل مفهوم, ويمكن تفصيل ذلك فيما يخص مفهوم المجتمع المدني على النحو التالي:

 

خاتمة:

تشير المحاولة السابقة لإعادة بناء مفهوم المجتمع المدني، إلى عدة أمور من أهمها مدى التنازع والإشكاليات التي يثرها ذلك المفهوم، وهي تدل أيضًا على مدى حيوية المفهوم، وارتباطاته المتعددة، وهو ما انعكس في النهاية على مدى جودة المفهوم (من حيث تماسكه الداخلي والخارجي). وكما سبق لا تكفي ورقات معدودة لإعادة صياغة وبناء مفهوم على قدر كبير من الأهمية ويستدعي حوله كثير من الجدالات والنقاشات، وهو أمر بدى وكأنه حقيقة محتومة عبد الحديث عن مفهوم المجتمع

[i] معجم لسان العرب على الرابط التالي:

https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/

[ii] بشأن بعض المعاني حول “المدني” يكم الرجوع إلى:

https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D9%85%D8%AF%D9%86%D9%8A

[iii] سيف الدنين عبد الفتاح, محاضرة المجتمع المدني من رؤية إسلامية, مركز الدراسات المعرفية, الثلاثاء 8-2-2005,ص 8.

[iv] ليلى عبد الوهاب, محاضرات في: منظمات المجتمع المدني, كلية الأداب, جامعة بنها, ص ص7-8.

[v] تم الرجوع في التعريف الإجرائي إلى إسهام كلٍ من:

سيف الدنين عبد الفتاح, محاضرة المجتمع المدني من رؤية إسلامية, مرجع سابق, ص ص 10 – 15.

ليلى عبد الوهاب, محاضرات في: منظمات المجتمع المدني, كلية الأداب, جامعة بنها, ص ص 11 -12.

[vi] يرجع في تفاصيل هذا الشأن إلى:

هشام جعفر, في مفهوم المجتمع المدني: خلاصة خبرة بحثية, في: سيف الدين عبدالفتاح, نادية مصطفى, دورة المناهجية الإسلامية في العلوم الاجتماعية (حقل العلوم السياسية نموذجًا). ص ص 292 – 319.

[vii] الموسوعة العربية للمجتمع المدني، تحرير: أماني قنديل، مكتبة الأسرة، 2008، ص 64.

[viii] لمزيد من التفصيل بصدد معايير بناء المفهوم يُرجع إلى:

أحمد شكر الصبيحي، مستقبل المجتمع المدني في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى, 2000، ص ص 24-25، 32 -37.

Exit mobile version