الرئيسية / العلاقات الدولية / الجيوبوليتيك - جيوسياسية / الثوابت الجيوسياسية لبوتين تعود للنموذج الروسي القديم
الثوابت الجيوسياسية لبوتين تعود للنموذج الروسي القديم
الثوابت الجيوسياسية لبوتين تعود للنموذج الروسي القديم

الثوابت الجيوسياسية لبوتين تعود للنموذج الروسي القديم

الثوابت الجيوسياسية لبوتين تعود للنموذج الروسي القديم

 

اتسمت السياسة الخارجية الروسية لمدةِ خمسمئة عامٍ بالطموحات العالية التي تجاوزت قدرات البلاد، فبدءًا من عهد إيفان الرهيب في القرن السادس عشر، تمكنت روسيا من التوسع بمعدّل 50 ميلًا مربعًا يوميًا، ولمئات السنين، لتشغلَ في نهاية المطاف سُدسَ مساحة اليابسة على الأرض، وبحلولِ عام 1900، كانت رابع أو خامس أكبرَ قوةٍ صناعية في العالم، وأكبر منتجٍ زراعيّ في أوروبا، ولكن الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد لم يصل إلّا إلى 20 في المئة فقط من مثيله في المملكة المتحدة، و40 في المئة من مثيله في ألمانيا، وكان متوسط العمر في الإمبراطورية الروسية في بدايتها حوالى 30 عامًا أعلى من الهند البريطانية (23 عامًا)، ولكنه يماثل المعدّل ذاته في صين سلالة كينغ، وأقلُ بكثيرٍ من المملكة المتحدة (52 عامًا)، واليابان (51 عامًا)، وألمانيا (49 عامًا).

ظلَّت نسبةُ المتعلمين الروس في أوائل القرن العشرين أقل من 33 في المئة، وهي نسبةٌ أقل مما كانت في بريطانيا العظمى في القرن الثامن عشر، وهذه المقارناتُ كانت معروفةً جيدًا من جانب المؤسسة السياسية الروسية، بسبب سفر أعضائها إلى أوروبا في كثيرٍ من الأحيان، ومقارنة بلادهم بقادة العالم (شيءٌ ما صحيحٌ هذا اليوم).

يسجل التاريخ ثلاثَ لحظاتٍ عابرة من الهيمنة الروسية الجديرة بالذكر: الأولى؛ انتصار بطرس الأكبر على تشارلز الثاني عشر، وتراجع السويد في أوائل السبعينيات من القرن الثامن عشر، حيث رسّخ القوة الروسية على بحر البلطيق وفي أوروبا، والثانية؛ فوز ألكسندر الأول على نابليون منهك القوى في العقد الثاني من القرن التاسع عشر، الفوز الذي جعل روسيا بالنسبة إلى باريس وسيطًا في شؤون القوى العظمى، والثالثة؛ نصر ستالين على المقامر المهووس أدولف هتلر في أربعينيّات القرن العشرين نصرًا أكسب روسيا برلين، إمبراطوريةً تابعةً في أوروبا الشرقية، ودورًا محوريًا في تأليف نظام ما بعد الحرب العالمية.

لنضع تلك الإنجازات الكبرى جانبًا، فعلى الرغم من ذلك، كانت روسيا دائمًا قوةً عظمى، ولكنها ضعيفةً نسبيًا، فقد خسرت حرب القرم من 1853-1856، وهي الهزيمةُ التي أنهت توهجَ ما بعد نابليون، وأجبرت على تحريرٍ متأخر للأقنان، وخسرت في الحرب الروسية اليابانية بين عامي 1904 و1905، وهي الهزيمة الأولى لدولةٍ أوروبية من جانب إحدى الدول الآسيوية في العصر الحديث، كما خسرت في الحرب العالمية الأولى، وهي الهزيمةُ التي تسببت بانهيار النظام الإمبراطوري، وأخيرًا خسرت الحرب الباردة، وهي الهزيمةُ التي ساعدت في أسباب انهيار النظام الإمبراطوري في الاتحاد السوفياتي سابقًا.

لازمَ البلاد التخلّف النسبي طوالَ ذلك، ولا سيما في المجالات العسكرية والصناعية، وقد أدى إلى نوباتِ غضبٍ متكررة من النشاط الحكومي، تهدف إلى مساعدة البلاد في اللحاق بالركب، مع دورةٍ مألوفة من النمو الصناعي القسري، تقودها الدولة، وتليها حال من الركود، فقد افترض المحللّون معظمهم أنَّ هذا النمط قد انتهى إلى الأبد في التسعينيات من القرن العشرين، مع التخلّي عن الماركسية اللينينية، ووصول الانتخابات التنافسية والاقتصاد الرأسمالي المغامر، ولكن الدافع وراء الاستراتيجية الكبرى الروسية لم يتغيّر، حيث عاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على مدى العقد الماضي إلى اتجاهِ الاعتماد على الدولة، لإدارة الهوّة بين روسيا والغرب الأكثر قوةً.

فقدت روسيا بتفكك الاتحاد السوفياتي في عام 1991 حوالى مليوني ميلٍ مربع من الأراضي السيادية، بما يعادل الاتحاد الأوروبي بأكمله (1.7 مليون ميل مربع) أو الهند (1.3 مليون)، كما خسرت روسيا تقاسم ألمانيا التي كانت قد احتلتها في الحرب العالمية الثانية، وغيرها من الدول التابعة في أوروبا الشرقية (باتت جميعها الآن داخل التحالف العسكري الغربي) جنبًا إلى جنب مع بعض المناطق السابقة المتقدمة من الاتحاد السوفياتي من مثل دول البلطيق، وتتعاون ممتلكاتٌ سوفياتية سابقة أخرى، من مثل أذربيجان وجورجيا وأوكرانيا، بصورةٍ وثيقة مع الغرب بشأن المسائل الأمنية، وعلى الرغم من الضمّ القسريّ لـ شبه جزيرة القرم، والحرب في شرقي أوكرانيا، وبحكم الأمر الواقع في احتلال أبخازيا وأوسيتا الجنوبية، كان يتعين على روسيا أن تتخلّى عن ما يُسمّى روسيا الجديدة معظمها -روسيا كاترين العظمى- عن السهوب الجنوبية، والقوقاز، وبصرف النظر عن عددٍ قليل من القواعد العسكرية، فروسيا هي خارج آسيا الوسطى أيضًا.

ما تزالُ روسيا أكبرَ دولةٍ في العالم، إلا أنَّها أصغرُ بكثيرٍ مما كانت عليه، ومدى أراضي البلاد يقلُّ أهميةً عن أحوال قوةٍ عظمى في هذه الأيام أكثر من (الديناميّة) الاقتصادية والرأسمال البشري -وهي المجالات التي تراجعت فيها روسيا أيضًا- حيث بلغت ذروة الناتج المحلي الإجمالي الروسي بما يعادل الدولار في عام 2013 أكثر قليلا من تريليوني دولار، وانخفض الآن إلى حوالى 1.2 تريليون دولار، بسبب انخفاض أسعار النفط وأسعار صرف الروبل.

 

لنكن متأكّدين، فإنَّ الانكماش مقاسًا في تعادل القوة الشرائية، كان أقل إثارةً بكثير، ولكن من حيث المقارنة بما يعادل الدولار؛ لا يُعادلُ الاقتصاد الروسي إلّا 1.5 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي العالمي، ويشكل من 1 إلى15 في المئة من حجم الاقتصاد الأميركي، كما تُعاني روسيا أيضًا التمييز المشبوه بوصفها الدولةَ الأكثر تطويرًا للفساد في العالم، حيث وصلَ نظامها الاقتصادي الريعي في استخراج الموارد إلى طريقٍ مسدود.

في الوقت نفسه، أصبحت البيئة الجيوسياسية أكثر صعوبةً بمرور الوقت، مع استمرار التفوق العالمي للولايات المتحدة، والصعود (الدراماتيكي) للصين، وانتشار هموم الإسلام السياسي الراديكالي ومتاعبَه، حيث إنَّ 15 في المئة من 142 مليون مواطن روسي هم مسلمون، وبعض المناطق ذات الأغلبية المسلمة في البلاد تغلي من الاضطرابات والفوضى، وبما يخص النخب الروسية فتفترض أنَّ وضع بلادها، بما في ذلك بقاءهم على قيد الحياة؛ يتوقف على التلاؤم مع الغرب، حيث يجب أن تكون حدود المسار الحالي واضحةً.

ضروريات الدب

يملك الروس دائمًا شعورًا مستمرًا بأنَّهم يعيشون في بلدٍ ترعاه العناية الإلهية، وله مهمةٌ خاصة -وهو موقفٌ كثيرًا ما يشير إلى بيزنطة التي تدعي روسيا أنَّها وريثتها. في الحقيقة، أبدت أكثر القوى العظمى مشاعرَ مماثلة، حيث أعلنت كلّ من الصين والولايات المتحدة استثنائيةَ تكليفٍ سماوية، كما فعلت إنكلترا وفرنسا في أوقاتٍ كثيرة من تاريخهما، كما تلقت كلٌّ من ألمانيا واليابان قصفًا استثنائيًا وصولًا لسحقهما.

عبرت روسيا عن مرونة ملحوظة بصور مختلفة مع مرور الوقت (روما الثالثة، مملكة عموم السلاف، المقر العالمي للأممية الشيوعية)، وتنطوي نسخة اليوم على الأوراسية Eurasianism، وهي حركةٌ بدأت بين المهاجرين الروس في عام 1921، وينظر العالم إلى روسيا أنّها لا أوروبية ولا آسيوية، ولكنها انصهارٌ فريد بينهما.
وقد أسهم معنى أنَّ لها مهمةً خاصة في ندرةِ التحالفات الرسمية لروسيا، وعدم الرغبة في الانضمام إلى الهيئات الدولية، باستثناء أن تكون عضوًا استثنائيًا أو مهيمنًا، فهي تُقدّم للشعب الروسي والقادة كلَّ فخرٍ واعتزاز، لكنها تزيد أيضًا من الاستياء تجاه الغرب لأنَّه على ما يُظن لم يُقدّر جيدًا تميز روسيا وعظمتها، ومن ثمّ فقد أضاف اغترابًا نفسيًا إضافة إلى التباعد المؤسّسي الذي يقوده التخلف الاقتصادي النسبي، ونتيجة ذلك، فقد تأرجحت الحكومات الروسية عمومًا بين السعي إلى علاقاتٍ أوثق مع الغرب، والعزوف بغضبٍ عن ازدراءتٍ متخيلةٍ أو محسوسة، من دون قابلية على أن تسود بصورة دائمة.

على الرغم من ذلك، ثمة عاملٌ آخر شكَّل دور روسيا في العالم، وهو جغرافيا البلد الفريدة من نوعها، فليس لديها حدودٌ طبيعية، باستثناء المحيط الهادي والمحيط المتجمد الشمالي (وهذا الأخير أصبح الآن مساحةَ مُتنازع عليها أيضًا). فعلى الرغم من أنّها طوال تاريخها المليء بالتطورات المضطربة في كثيرٍ من الأحيان في شرق آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، فقد شعرت روسيا أنَّها عرضةٌ للهجوم بصورة دائمة، وكثيرًا ما أظهرت نوعًا من العدوانية الدفاعية، ومهما كانت الأسبابُ الأصلية وراء بداية التوسعية- كثير منها كان غير مخططٍ له- توصل عدد من الطبقة السياسية في البلاد إلى الظن -بمرور الوقت- أنَّه ليس هناك إلّا مزيد من التوسع الذي يُمكن أن يؤمّن عمليات الاستحواذ السابقة، وهكذا جرت العادة مؤكّدةً أنَّ الأمن الروسي جزئيًا يعني الزحف إلى الخارج، تحت اسم استباقِ هجومٍ خارجي.

يُنظَر اليوم أيضًا إلى البلدان الصغيرة على حدود روسيا بوصف الصديق المحتمل أقل من رأس جسرٍ محتمل للأعداء، وفي الواقع، تَعزّز هذا الشعور منذ الانهيار السوفياتي، لكن بخلاف ستالين، لا يعترف بوتين بوجود دولةٍ أوكرانية منفصلة عن الدولة الروسية، لكنه من جهة أخرى كما ستالين؛ يرى الدول الحدودية جميعها مستقلّة اسميًا، بما في ذلك أوكرانيا الآن، بوصفها سلاحًا في أيدي القوى الغربية وعازمةً على استخدامه ضدَّ روسيا.

الحافز الأخير للسياسة الخارجية الروسية هو السعيُ الدائم للبلاد إلى أن تكونَ دولةً قوية. في عالمٍ خطِر،ٍ مع قليلٍ من الدفاعات الطبيعية، يعمل التفكير، حيث الضامن الوحيد لأمن روسيا أن تكون دولةً قويةً مستعدةً، وقادرةً على التصرّف بعدوانيةٍ من أجل مصالحها الخاصة، كذلك إن الدولة القوية هي ضامنٌ للنظام الداخلي، وكانت النتيجة وجودَ اتجاهٍ ضمني لدى مؤرخ القرن التاسع عشر فاسيلي كلوتشيفسي الذي لخّص تاريخ ألفَ عامٍ لروسيا بسطرٍ واحد: ((سَمِنَتْ الدولة، ولكن الشعب ضَعُفَ)).

من المفارقات أيضًا، أن الجهود المبذولة لبناء دولةٍ قوية أدت إلى مؤسساتٍ مدمرة وحكمٍ شخصاني دائمًا، إذ أضعف بطرس الأكبر الباني الأساس للدولة القوية؛ المبادرة الفردية، وزاد من عدم الثقة الفطرية بين المسؤولين، ودعَّم نزعاتِ المحسوبية، فجلب تحديثه القسري الصناعاتِ الجديدة التي لا غنى عنها، ولكنَّ مشروعه من أجل إقامة دولةٍ قوية رسَّخ في الواقع نزوةً شخصية. تميز هذه المتلازمة عهود المستبدين من سلالة رومانوف ومن أتباع لينين، وخاصةً ستالين، وما تزال قائمةً حتى يومنا هذا. وتميل الشخصانيةُ الجامحة إلى جعل عمليةِ صنع القرار وفقَ الاستراتيجية الروسية الكبرى مبهمةً، ويُحتمل أن تكون متقلبةً، لأنها تنتهي بالخلط بين مصالح الدولة والمستقبل السياسي لشخصٍ واحد.

هل يجب أن يكون الماضي تمهيدًا؟

يظهر كلٌّ من الاستياء المعادي للغرب والوطنية الروسية واضحًا بصورة خاصة في شخصية بوتين وتجارب حياته، ولكن ما تزال تواجه حكومةً روسيةً مختلفةً، لا تديرها نماذج سابقة من أمن الدولة (KGB)، التحدي المتمثل في ضعف المواجهة مع الغرب، والرغبة في دورٍ خاص في العالم، يبقى تكيف السياسة الخارجية الروسية، وبعبارة أخرى؛ بقدر ما هو شرط أكثر مما هو خيار، ولكن إذا تمكنت النخب الروسية من أن تُعيد بطريقةٍ أو بأخرى تعريف قصدهم بالاستثنائية، ووضع منافستهم الخاسرة مع الغرب جانبًا، فإنهم يمكن أن يضعوا البلاد على مسار أقلَّ كلفةً، وأكثر وعدًا.

ظاهريًّا، يبدو هذا ما كان يحدث في التسعينيات، قبل تولّي بوتين سدة الحكم، حيث تشكلت في روسيا قصة ((طعنة في الظهر)) قوية حول كيفية رفض الغرب المتغطرس مبادرات روسيا خلال العقدين الماضيين، وليس العكس، ولكنَّ هذا الرأيَّ يقلل من الحيوية داخل روسيا.
استغلّت واشنطن بالتأكيد ضعفَ روسيا في عهد الرئيس الروسي بوريس يلتسين، وأكثر، ولكن ليس من الضروري أن تدعم جوانب السياسة الغربية كلها في العقود الأخيرة، لمعرفة موقف بوتين الأقل تطورًا، بوصفِه ردَّ فعلٍ على التحركات الخارجية، من المثال الأحدث لنمطٍ متكرر عميق مدفوعًا بعوامل داخلية. ما يمنع روسيا بعد الاتحاد السوفياتي من الانضمام إلى أوروبا بصفته بلدًا آخر فحسب، أو تشكيل شراكةٍ ((حتمية)) غير متكافئة مع الولايات المتحدة؛ كان الالتزام بكرامة القوة العظمى في البلاد، والإحساس بالمهمة الخاصة، حتى تلائم روسيا تطلعاتها مع قدراتها الفعلية، فإنه لا يمكن أن تصبح بلدا ((طبيعيًا))، بغضّ النظر عن ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد، أو المؤشّرات الكمية الأخرى.

دعونا نكن واضحين؛ روسيا حضارةٌ رائعة ذات عمق مهول، وهي ليست الملكية المطلقة (الموناركية) السابقة الوحيدة التي واجهت صعوباتٍ في تحقيق الاستقرار السياسي أو التي تحتفظ بعدم نزاهة دولية (فكّر في فرنسا، على سبيل المثال)، وروسيا هي محقةٌ في التفكير بأنَّ تسوية ما بعد الحرب الباردة كانت غيرَ متوازنةٍ، وغير عادلة أيضًا، ولكن ذلك لم يكن بسبب أيّ إذلالٍ متعمدٍ أو خيانة، إنه النتيجة الحتمية لانتصار الغرب الحاسم في التسابق مع الاتحاد السوفياتي، في تنافسٍ عالمي متعدد الأبعاد -سياسية واقتصادية وثقافية وتكنولوجية وعسكرية- حيث خسر الاتحاد السوفياتي في المجالات جميعها، واختار الكرملين ميخائيل غورباتشوف لأن يخرج برشاقة بدلًا من أن يجرَّ العالم برفقةِ روسيا، ولكن نهاية اللعبة الطوعية الاستثنائية لا تغير من طبيعة النتيجة أو أسبابها، وهو شيءٌ لم تقبل به روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي تمامًا.
لا يمكن للعالم الخارجي أن يُقحم مثل هذا الإدراك النفسي، أو ما يُطلق عليه الألمان Vergangenheitsbewältigung- ((التصالح مع الماضي))، ولكن ليس ثمة سبب في عدم إمكان حدوثه عضويًا بين الروس أنفسهم.

في نهاية المطاف، يمكن للبلد أن يعمل على اتباع شيءٍ من قبيل مسار فرنسا التي تحتفظ بمعنى دائمٍ من الاستثناء، على الرغم من صنعها السلام بعد خسارتها الإمبراطورية الخارجية ومهمتها الخاصة في العالم، معيدةً ضبط فكرة الوطنية، لتتناسب مع انخفاض دورها، وتنضم إلى القوى الأصغر مع البلدان الصغيرة في أوروبا على قدم المساواة.

إذا سيتم قبول روسيا المتحولة، ودمجها جيدًا بأوروبا، فهو مسألةٌ مفتوحة، ولكن ستحتاج بداية العملية إلى أن تكون القيادة الروسية قادرةً على الحصول على موافقة شعبها على التقشف الدائم، وتوافق على الشروع في إعادة الهيكلة الداخلية الشاقة، وينبغي أن يكون الأجنبيون متواضعين لأنهم يفكرون كم سيكون هذا التعديل موجعًا، ولا سيما من دون هزيمةٍ حربية ساخنة واحتلالٍ عسكري.

أخذ ذلك من فرنسا المتحدة عقودًا للتخلي عن معانيهم الخاصة الاستثنائية ومسؤوليتهم العالمية، وسيزعم بعضهم أن نُخبها( نخب فرنسا والمملكة المتحدة) ما زالت متمسّكة بهذه الميزة تمامًا، ولم تتخلّ عنها، ولكن كان لديهم ناتجٌ محلّي إجمالي مرتفع، وجامعاتٌ ذات تصنيف عال، وقوة مالية ولغات عالمية، بينما ليس لديّ روسيا أيُّ شيءٍ من ذلك، سوى أنها تمتلك حق النقض الدائم في مجلس الأمن، فضلًا عن امتلاكها واحدة من ترسانات يوم القيامة (إشارة إلى ترسانتها النووية) قبل كلِّ شيءٍ في العالم، وقدرات الحرب الألكترونية على مستوى العالم، إضافة إلى جغرافيتها الفريدة من نوعها، التي تعطيها نوعًا من الامتداد العالمي.

بعد؛ فإن روسيا دليلٌ حيّ على أنَّ القوة الصلبة تبقى هشةً من دون أبعادٍ أخرى للقوة العظمى، فمهما أصرَّت روسيا على أن يُعترف بها على قدمِ المساواة مع الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي أو حتى الصين، فلن يكون لها ذلك، حيث لا يظهر في المدى القريب ولا المتوسط احتمالُ أن تُصبحَ واحدةً من تلك الدول.

والآن من أجل شيء ما مختلف تمامًا:

ما هي خياراتُ روسيا الملموسة لإعادة الهيكلة والتوجه إلى النمط الأوروبي؟ على الرغم من أنه لديها تاريخٌ طويل جدًا من موقعها على المحيط الهادئ؛ لكنها أخفقت في أن تُصبح قوةً آسيوية، وما يمكن أن تدّعيه هو سيطرةٌ في منطقتها، فليس ثمة نظيرٌ لقواتها العسكرية التقليدية بين الدول الأخرى التي خلفت الاتحاد السوفياتي، وهذه الأخيرة (باستثناء دول البلطيق) تعتمد أيضًا اقتصاديًا على روسيا بدرجاتٍ متفاوتة، ولكن التفوق العسكري الإقليمي والنفوذ الاقتصادي في أوراسيا لا يمكن أن يضمنا حالةَ قوةٍ عظمى دائمة.

لقد فشل بوتين في جعل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ناجحًا، ولكن حتى لو انضمّ الأعضاء المحتملون جميعهم، وعملوا في آن معًا، فإن الإمكانات الاقتصادية مجتمعةً ما تزال صغيرة نسبيًا. روسيا سوقٌ كبيرة، ويمكن أن تكونَ جذّابةً، ولكن الدول المجاورة ترى المخاطر وكذلك المكافآت في التجارة الثنائية مع هذا البلد، فأستونيا وجورجيا وأوكرانيا على سبيل المثال، مستعدة عمومًا للتعامل التجاري مع روسيا شريطةَ أن يكون لديهم سندٌ أو دعمٌ في الغرب، والدول الأخرى التي تعتمد -أكثر منها- اقتصاديًا على روسيا، من مثل روسيا البيضاء وكازاخستان، ترى مخاطر في إطار الشراكة مع البلد الذي لا يفتقر إلى نموذج التنمية المستدامة، فحسب، ولكن أيضًا، في أعقاب ضمّها شبه جزيرة القرم، قد يكون لها مطامعَ إقليميةٍ تجاههم.

في الوقت نفسه، لم تُوَّلدَ ((شراكةٌ استراتيجية)) ذات ضجيج مع الصين، إلّا القليل من التمويل المتوقع، أو استثمار صيني للتعويض عن العقوبات الغربية، وفي الوقت كله، تبني الصين علنًا وبقوة أوراسيا الخاصة بها، من بحر الصين الجنوبي مرورًا بآسيا الداخلية إلى أوروبا، على حساب روسيا، وبالتعاون معها.

روسيا القوية اليوم هي في الواقع في حال انحدارٍ بنيوي، وإجراءات بوتين أسفرت عن غير قصد في جعل أوكرانيا أكثرَ تجانسًا عرقيًا من أي وقت مضى، وأكثر توجُّهًا نحو الغرب، فموسكو لديها علاقاتٌ متوترة مع ما يقرب من جيرانها كلهم، وحتى مع أكبر شركائها التجاريين، بما في ذلك آخرها تركيا، وحتى ألمانيا، نظيرتها الأكثر أهميةً في السياسة الخارجية، وواحدًا من الشركاء الاقتصاديين الأكثر أهمية، قد أيدَّوا كثيرًا فرض عقوباتٍ مكلفةٍ على الوضع الداخلي الروسي.

((يبدو أنَّ ما يُسمّى بـ (الفائزين) في الحرب الباردة عازمون على أن يمتلكوا كلَّ شيءٍ، ويعيدوا تشكيل العالمَ بصورةٍ يُمكن أن تخدمَ على نحوٍ أفضل مصالحهم وحدهم))، هذا ما حاضر بوتين به في تجمع فالداي السنوي للنقاش في تشرين الأول/ أكتوبر 2014، بعد أن ضمَّ القرم، ولكن ما يشكل تهديدًا وجوديًا لروسيا ليس نظام الناتو أو الغرب، ولكن روسيا نفسها.
ساعد بوتين في إنقاذ الدولة الروسية، ولكن وضعها مرةً أخرى على مسار الركود، واحتمال الفشل أيضًا، فقد أكّد الرئيس وزمرته مرارًا وتكرارًا على الضرورة الماسّة إلى تحديد أولويات التنمية الاقتصادية والبشرية، التي تتقلص إلى إعادة هيكلةٍ داخلية بعيدة المدى، لازمة لتحقيق ذلك بدلًا من صبّ الموارد في التحديث العسكريّ، فما تحتاجه روسيا حقًا حتى تُنافسَ بفاعليةٍ، وتؤّمنَ مكانًا ثابتًا في النظام الدولي هو الشفافية والكفاءة، وحكومة تخضع للمساءلة، وخدمةٌ مدنية حقيقية، وبرلمان حقيقيّ، وقضاءٌ مهنيّ ونزيه، ووسائلُ إعلامٍ حرة ومهنية وقويّة، وحملةٌ غيرُ سياسيّة على الفساد.

كيفية تجنب اصطياد الدب

تواصل القيادة الروسية الحالية تحميل البلاد أعباءَ السياسة الخارجية المشاكسة والمستقلة التي تتجاوز قدرة البلاد، والتي أنتجت بعض النتائج الإيجابية، فالموقع البارز الموقّت الذي توفره سياسةٌ ماكرة وقاسية في الحرب الأهلية السورية يجب ألّا يخفي المأزق الاستراتيجي المتكرر بشدة، وهو مأزقٌ يندمج فيه ضعفُ روسيا وعظمتها لإنتاج مستبدٍ يحاول أن يقفز إلى الأمام من خلال مركزة السلطة، ما يؤدي الى تفاقم معضلة استراتيجية جدًا من المفترض أن تُحل.

ما الآثار المترتبة لهذه السياسة على السياسة الغربية؟ كيف يجب على واشنطن إدارة العلاقات مع دولةٍ نووية، وقدرة فضائية ألكترونية تسعى لاستعادة هيمنتها المفقودة، وإن كانت من نموذج أقلّ من الوحدة الأوروبية الضعيفة، وتجعل البلاد (على علاقة) بما قد يأتي؟

في هذا السياق، من المفيد أن ندرك أنَّه لم تكن هناك فعلًا مرحلة من العلاقات الطيبة الدائمة بين روسيا والولايات المتحدة. (تكشف وثائق رُفعت عنها السرية أنَّه حتى تحالف الحرب العالمية الثانية كان محفوفًا بعدم ثقةٍ أعمق، وأنَّه كان نتيجة تقاطع مصالح أكبر، ما كان مفهومًا بصورة عامة). لم يكن هذا بسبب سوء الفهم، وسوء الاتصال، أو ضررًا بالمشاعر، وإنما نتيجة لتباينٍ في القيم الأساسية وفي مصالح الدولة، وفق ما حددها كل بلد. بالنسبة لروسيا، القيمة العليا هي الدولة. وبالنسبة إلى الولايات المتحدة، هي الحرية الفردية والملكية الخاصة وحقوق الإنسان التي تنطلق عادة في معارضة الدولة، لذلك يجب أن تبقى التوقعات قيد الاختبار، وبالقدر نفسه من الأهمية، لا ينبغي للولايات المتحدة أن تبالغ في التهديد الروسي، وأن تقلل من مزاياها الكثيرة.

روسيا اليوم ليست قوةً ثورية تهدد بقلب النظام الدولي، فموسكو تعمل داخل مدرسةِ القوى العظمى المألوفة في العلاقات الدولية، دولةٌ تعطي الأولوية للمناورة على الأخلاق، وتفترض حتميةَ الصراع، وسيادة القوة الصلبة والسخرية من دوافع الآخرين، ولدى روسيا في أماكن معينة وحول قضايا معينة؛ القدرة على إحباط مصالح الولايات المتحدة، ولكن لا تقترب ولو من بعيدٍ إلى حجم التهديد الذي كان يشكله الاتحاد السوفياتي، لذلك ليس هناك حاجةٌ للردّ عليها بحربٍ باردة جديدة.

يتلخّص التحدي الحقيقي اليوم في رغبة موسكو في اعتراف الغرب بنفوذ روسيا في الفضاء السوفياتي السابق (باستثناء دول البلطيق). هذا هو الثمن للوصول إلى تسوية مع بوتين من يدافع عن مثل هذه التسوية لا يعترف دائمًا بصراحة. كانت نقطة الخلاف التي حالت دون تعاونٍ دائم بعد 11/99، وما تزال، وهي تنازل لا ينبغي للغرب أن يمنحه أبدًا. ومع ذلك، فالغرب ليس قادرًا حقًا على حماية السلامة الإقليمية للدول داخل مجال موسكو المرغوب، ولن يجدي التحايل، ولذلك ما الذي ينبغي القيام به؟
يستدعي بعضهم جورج كينان[1] ويدعو إلى إحياء سياسة الاحتواء، بحجةِ أنَّ الضغط الخارجي سَيُبقي روسيا بعيدًا حتى تحرير نظامها السلطوي أو انهياره، وبالتأكيد، فإنَّ كثيرًا من أفكار كينان تظل وثيقة الصلة، مثل تأكيده في ((البرقية الطويلة)) التي أرسلها من موسكو قبل 70 عامًا حول انعدام الأمن العميق الذي قاد السلوك السوفياتي[2]. إنَّ تبني هذا التفكير الآن يتطلب المحافظة على العقوبات أو تكثيفها ردًّا على الانتهاكات الروسية للقانون الدولي، وحشد التحالفات الغربية سياسيًا، ورفع مستوى الاستعداد العسكري لحلف الناتو، ولكن الاحتواء الجديد يمكن أن يُصبح فخًا، يعيد رفع روسيا لوضع القوة العظمى المنافسة، وهو ما تسعى روسيا إليه، وساعدت لأجله في إحداث المواجهة الحالية.

مرةً أخرى، تصميم المريض هو المفتاح، وليس من الواضح كم من الوقت يمكن أن تلعب روسيا دورها ضعيفةً في مواجهة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ومخيفةً جيرانها، ومستعديةً شركاءها التجاريين الأكثر أهمية، ومدمرةً مناخ الأعمال الخاصة بها، ومسهمة بنزف المواهب. في مرحلةٍ ما، سيتم إبعاد جس النبض لنوع من التقارب، كما سينتهي التعب من العقوبات في نهاية المطاف تمامًا، وخلق إمكان لنوع من الصفقة. ذاك ما يقال، فمن الممكن أيضا أنَّ المواجهة الحالية قد لا تنتهي في أيّ وقتٍ قريب، لأن السعي الروسي للنفوذ في المجال الأوراسي هو مسألة هويةٍ وطنية، وليس عرضةً سهلةً لحسابات التكاليف والمنافع المادية.

ستكون للمقدرة على اللعب أن تقيم خطًا ثابتًا عند الضرورة بمثل رفض الاعتراف بمجال روسي متميز حتى عندما تكون موسكو قادرةً على فرض مجالٍ عسكري، في حين إنّ عرض المفاوضات من موقع قوة فحسب، وتجنّب انزلاق التعثر إلى مواجهات لا لزوم لها، يأتيان بنتائجَ عكسية أخرى في أغلب الأحوال.

في يومٍ من الأيام، قد يتصالح قادة روسيا مع الحدود الصارخة للوقوف في وجه الغرب ويسعون للهيمنة على أوراسيا، وحتى ذلك الحين، لن تظل روسيا إلّا حملة هادفة ضرورية أخرى، إلى أن يتحقق النصر. لكن إدارتها هي المشكلة.

([1]) جورج كينان (1904-2005) هو مخطط السياسات الاستراتيجية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، وصاحب نظرية سياسة الاحتواء الأميركية المعروفة، المترجم

([2]) وهي برقية أرسلها جورج كينان في 22 شباط/ فبراير 1946، عندما كان سفيرًا في موسكو، وتحدث فيها عن الحرب الباردة، المترجم.

عن admin

شاهد أيضاً

"سلام ترام" .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين “سلام ترام” قصة …