الرئيسية / النظم السياسية / السياسة المقارنة / الدولة الاستباقية ودولة الثكنات.. كيف تتغير الأدوار الأمنية للدول الديموقراطية
الدولة الاستباقية ودولة الثكنات.. كيف تتغير الأدوار الأمنية للدول الديموقراطية
الدولة الاستباقية ودولة الثكنات.. كيف تتغير الأدوار الأمنية للدول الديموقراطية

الدولة الاستباقية ودولة الثكنات.. كيف تتغير الأدوار الأمنية للدول الديموقراطية

تغير الأدوار الأمنية للدول الديموقراطية

 

عرض مقال ” البنية المتغيرة لدولة الأمن القومي”

The Changing Architecture of the National Security State

Andreas Busch

The Oxford Handbook of Transformations of the State (Forthcoming)

Edited by Stephan Leibfried, Evelyne Huber, Matthew Lange, Jonah D. Levy, and John D. Stephens

 

التعريف بالمؤلف:

البروفيسور أندريه بوش أستاذ علوم سياسية ألماني الجنسية تلقى تعليمه في جامعات ميونيخ وهيدلبرج وأوكسفورد ووحصل على درجة الدكتوراه عام 1994 ، وعمل في جامعات هيدلبرج وأوكسفورد وجتونجن كأستاذ للسياسات المقارنة والاقتصاد السياسي،  وتشمل اهتماماته قضايا الاقتصاد السياسي والسياسات العامة والمؤسسات والترتيبات الدستورية. ويأتي الفصل محل العرض كجزء من دراسة تسعى لتحليل التحولات الأساسية التي طرأت على الدولة في مختلف أبعادها ومؤسساتها وأدوارها سواء في العالم المتقدم أو النامي وفي النظم الديموقراطية والانتقالية وغير الديموقراطية. ويركز الفصل المعروض على التحولات في الأدوار الأمنية للدول الديموقراطية بشكل أساسي.

 

موضوع البحث وعناصره الأساسية:

يكشف بحث التغيرات في الأدوار والوظائف الأمنية للدولة عن اختلاف طبيعة هذا التغير عن الاتجاه العام لتراجع دور الدولة في المجالات المختلفة أو تقلصه في إطار تفويض السلطات والصلاحيات لفاعلين آخرين. فعلى العكس، تكشف المؤشرات المختلفة –العددية والتشريعية والمالية- عن توسع الأدوار الأمنية للدولة أو دولة الأمن القومي بشكل واضح عبر الزمن.

وتركز الدراسة بشكل خاص على التغير في مفهوم دولة الأمن القومي بمعنى فهم التغير في طبيعة وأدوار المؤسسات الموجودة في أي دولة للنهوض بالسياسة الأمنية على المستوى الداخلي في مواجهة القاطنين داخل حدود الدولة ولصالحهم في الوقت ذاته (وذلك دون إنكار الطابع التحليلي للفصل بين الأمن الداخلي والخارجي وتعدد مظاهر الارتباط بينهما لاسيما مع التطورات الاتصالية والتكنولوجية المقللة لأهمية الحدود والقدرة على السيطرة عليها).

وقد تناولت الدراسة في هذا السياق عدة أفكار ومفاهيم أساسية، هي مفهوم دولة الثكنات، ثم دولة الأمن الاستباقي، وتحليل أهم ابعاد التغير في دولة الأمن القومي في الدول الديموقراطية، وفرص التعاون الدولي في هذا السياق . حيث يرى أن بعض التحليلات المبكرة خلال فترة الحرب العالمية الثانية كانت تذهب غلى تزايد التهديدات من شانه تحويل جميع الدول (بما فيها النظم الديموقراطية) إلى أشكال سلطوية أمنية من دول الثكنات. ورغم أن ذلك لم يحدث، إلا أن أحداث 11 سبتمبر 2001 عززت صورة أخرى للدول الأمنية هي دول الامن الوقائي (حيث زيادة الصلاحيات الأمنية للدولة بحجة السعي لمنع أي تهديد إرهابي استباقيا قبل حدوثه قدر الإمكان)، وهو ما صاحبته تغيرات هيكلية ومؤسسية وتقنية في الأدوار الأمنية للدول. ويناقش الباحث بعد ذلك عوامل التباين بين الدول والنظم الديموقراطية فيما يتصل بتوسع الأبعاد الأمنية، مع توضيح مدى قابلية هذا التوسع للانتقال بين الدول. وفيما يلي توضيح لبعض التفاصيل الخاصة بهذه العناصر:

 

أولا: مفهوم الدولة الحامية أو دولة الثكنات garrison state

طرح هارولد لاسويل مفهوم “دولة الحماية أو الثكنات garrison state” منذ عام 1937 متأثرا بعمليات التعبئة وتصاعد المخاطر المصاحبة لبدايات الحرب العالمية الثانية، حيث أكد عبر المفهوم عن تأثيرات التهديدات الخارجية على البنى الداخلية للنظام السياسي والدولة، حيث قام المفهوم على أن تزايد التهديدات الخارجية الصادرة عن النظم الشمولية والديكتاتوريات سيؤدي تدريجيا إلى تزايد مكانة النخب الأمنية Security elites في مواجهة التهديدات الدائمة، ولتي تتحول إلى جزء من ثقافة المجتمع ككل socialization of danger مع زيادة الحاجة إلى توحيد المجتمع وتعبئة الموارد في مواجهة هذه التهديدات وهو ما يؤدي إلى هياكل أكثر مركزية وسلطوية وديكتاتورية بما يشبه عالم جورج أورويل في روايته 1948 (التي تأثرت فعليا بتحليلات لاسويل).

ووفقا للاسويل، فإن تأخر ظهور النزعات السلطوية في الدول الديموقراطية يرجع بالأساس إلى التطورات التكنولوجية التي أدت إلى إمكانية الاستمرار في التوسع في توفير السلع الاستهلاكية للمواطنين وتوفير احتياجاتهم دون الحاجة لإدخال تغييرات جذرية لتعبئة الموارد، وإن كان لاسويل قد توقع صعوبة الحفاظ على هذه الصيغ في المستقبل، والاضطرار إلى التحول إلى صيغة دولة الثكنات.

وقد أضاف آخرون تفسيرات إضافية لعدم تحقق تصور لاسويل حتى السبعينيات ، حيث أشار  رايموند أرون Raymond Aron في سبعينيات القرن العشرين إلى دور “خبراء التساوم bargaining expert ” في من المحامين والإداريين والسياسيين في الحفاظ على مواقعهم القيادية وعدم تنازلهم عنها لصالح الخبراء الأمنيين في الديموقراطيات الغربية والدول الصناعية المتقدمة، بما أدى إلى زوال المخاوف التي صاحبت فترة الحرب العالمية الثانية في تصاعد أدوار النخب الأمنية أو عسكرة التفاعلات السياسية. وأضاف آرون فريدبرج Aaron Friedberg تفسيرات أخرى بعد نهاية الحرب الباردة لعدم تحول الولايات المتحدة تحديدا إلى دولة ثكنات في صراعها مع الاتحاد السوفيتي السابق، حيث ركز على أهمية ما أسماه بـ”الضغوط المضادة أو التعويضية countervailing pressures ”  التي تحد من تأثيرات تزايد النزعات الأمنية، وتحديدا الضغوط المتجذرة في الثقافة الأمريكية ضد توسع أدوار الدولة سواء اقتصاديا أو أمنيا وعسكريا والرابة على حجم الإنفاق الأمني، وهو ما أدى وفقا لآرون  إلى تجنب التوسع الاقتصادي الزائف المفضى إلى استنزاف الموارد من جهة، والحد من تطوير مجتمع تغلب عليه النزعة الأمنية أو معسكر militarized society ، وهي الأسباب الأساسية التي ساهمت في انهيار الاتحاد السوفيتي كنموذج لدولة الثكنات.

 

ثانيا: الدولة الأمنية الاستباقية أو المانعة Preemptive /preventive state

رغم أن الواقع الدولي -خلال الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة وما بعدها- لم يشهد تحقق تنبؤات لاسويل بخصوص دولة الثكنات ، إلا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 افرزت مجموعة من التطورات في استجابات الدول الديموقراطية على نحو يدفع للتساؤل حول إمكانية إعادة طرح مفهوم دولة الثكنات أو مفاهيم أخرى ربما تكون أضيق نطاقا وأقل حدة وإن كانت تؤشر بدورها لتوسع الأدوار الامنية للدول. وفي هذا الإطار، يبرز مفهوم “دولة الأمن الاستباقي أو الوقائي”  حيث نصبح إزاء نموذج جديد للدول “الديموقراطية” يتحول فيه جميع المواطنين والأفراد والجماعات داخل الدولة إلى مصادر كامنة للخطر بما في ذلك من يلتزمون منهم بالقواعد والقوانين (باعتبار أنهذا الالتزام نفسه قد يكون شكلا من أشكال التحايل أو التقية تمهيدا للقيام بتهديدات أمنية لاحقة). ويعني ذلك توسيع نطاق تدخل الدولة ورقابتها على أنشطة المواطنين مع تراجع حقوق وحريات هؤلاء المواطنين والمجال الخاص المحجوز لكل مواطن، دون أن يقتصر ذلك على الحالات التي تتوافر فيها قرائن أو شواهد جدية تدعو للشك في وجود تهديد حال يبرر تدخل الدولة ومؤسساتها الأمنية. وقد تجلت مؤشرات متعددة لهذا المفهوم لعل أبرزها زيادة نزعات التجسس على المواطنين وخصوصياتهم في النظم الديموقراطية ذاتها انطلاقا من ضرورات الحفاظ على الأمن القومي، وهو ما سلط الضوء عليه بعض الأزمات والفضائح. إلا أن التحليل يكشف عن أبعاد أكثر تعقيدا وعمقا للتغيرات في خصائص دول الأمن القومي في النظم الديموقراطية.

 

ثالثا: التغيرات الأساسية التالية لأحداث 11 سبتمبر وأبعاد توسع دول الأمن القومي في الدول الديموقراطية:

1-تغيرات هيكلية: زيادة تداخل الحدود بين المحلي والخارجي:

رغم تنفيذ عمليات 11 سبتمبر بطائرات داخل حدود الدولة إلا أنه تم التعامل مع التهديد باعتباره خارجيا بشكل أساسيا نتيجة جنسية مرتكبيه وربطه بأفغانستان. لا يمنع ذلك أن الطبيعة الجديدة لهذه التهديدات كشفت صعوبة الاعتماد على الآليات التقليدية في مواجهة التهديدات الخارجية من جيوش وطائرات وسفن وغيرها، وإثارة الانتباه إلى إمكانية تسلل الأعداء إلى داخل الدولة أو وجودهم داخلها بالفعل ، وهو ما أدي إلى توسع في إجراءات متابعة تدفق البشر والسلع إلى داخل الدول، وزيادة في تطوير النظم المصممة بالأساس لمواجهة تدفق الهجرة غير الشرعية كي تصبح صالحة للتعامل مع احتمالات تسلل الإرهابيين أو متابعة العناصر الإرهابية المحتملة.

وواكب ذلك عمليات لتصنيف الدول والوافدين منها في قوائم حسب درجة خطورتهم وزيادة كبيرة في عدد الأفراد العاملين في قطاعات مراقبة الحدود والتكنولوجيا والمخصصات المتاحة لهم، وهو ما استهدف تحسين الأمن الاستباقي وتقليل التهديدات المحتملة من جهة مع السعي لتقليل التأثيرات السلبية لهذه الإجراءات على تدفق التدفقات الاقتصادية والبشرية بين الدول عامة (والمتقدمة خاصة) من جهة ثانية.

ولم يحل ذلك دون انعكاس جانب من هذه الإجراءات سلبيا على العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة وكندا مثلا في الأشهر التالية مباشرة لأحداث سبتمبر حيث أدى تشديد إجراءات الرقابة والتفتيش الحدودية إلى عرقلة حركة التجارة والانتقال بين البلدين، وهو ما أثر سلبا على العديد من القطاعات الاقتصادية، وعكس التأثيرات السلبية لدولة الأمن القومي على العلاقات الخارجية في أبعادها المختلفة بما فيها الاقتصادية.

 

2-تغيرات تنظيمية: زيادة تركيز و دمج amalgamation المؤسسات الأمنية تكوينا وأدوارا:

حيث أدى الطابع الجديد للتهديدات والتداخل بين الأبعاد المحلية والخارجية إلى زيادة التداخل بين المؤسسات والأدوار بين الأجهزة الشرطية (المسؤولة عن تنفيذ القانون) والعسكرية (المسؤولة عن الحماية ضد التهديدات الخارجية) وأجهزة الاستخبارات وجمع المعلومات والعمليات السرية (المسؤولة داخليا عن حفظ النظام الدستوري للدولة).

ويثير هذا التداخل مشكلات سواء فيما يتعلق بمدى فاعليته (لاسيما مع مشكلات التنسيق والتعاون بين هذه الأجهزة والمؤسسات) أو بتأثيراته على حقوق وحريات المواطنين، إذ أن الفصل بين عمل هذه الأجهزة استهدف في الأصل ضمن غاياته التمييز بين المجالين الداخلي (حيث يفترض أن تسود درجات اعلى من النظام والقانون) والخارجي (حيث يفترض أن تزداد درجة وطبيعة التحديات التي تواجهها الدولة في ظل سياق أكثر فوضوية وتحررا من القيود القانونية الداخلية واعتبارات الحفاظ على الحقوق والحربات).

ومن ثم فإن هذا التداخل من شأنه خلق تهديدات أكبر للحقوق والحريات الداخلية للمواطنين، في إطار توسع دور الدولة الأمني واحتمالات تجاوز مؤسساتها الأمنية للقواعد القانونية أو حتى إعادة صياغة هذه القواعد على نحو يعلي الاعتبارات الأمنية على ما عداها. ويمتد هذا التغير في طبيعة الأدوار إلى القطاع الخاص ذاته، وهو ما يظهر في ازدهار نشاط الشركات الخاصة العاملة في مجال الأمن عامة والتي تؤسس ما يعرف باقتصاد الأمن Security economy، ومن ضمنها الشركات العاملة في تقنيات التتبع والتجسس Surveillance-industrial complex التي تقدر عائداتها السنوية بما يتجاوز المائة مليار دولار وفقا لتقديرات عام 2004.

 

3-تغيرات تقنية: زيادة الاعتماد على تكنولوجيا المعلومات:

رغم أن ثورة المعلومات والاتصالات -والتي يمثل الانترنت أحد أبعادها الأساسية- أثارت العديد من التحذيرات والمخاوف حول تراجع دور الدولة وسلطتها في مواجهة انتشار القوة وصولاً إلى حد الفوضى بين الأفراد والجماعات، إلا أن الواقع شهد توظيفا لذات الثورة المعلوماتية وتقنياتها من أجل إنشاء العديد من قواعد البيانات التفصيلية عن المجرمين الفعليين والمحتملين والمواطنين عامة وأنماط سلوكياتهم في مختلف المجالات، مع الربط بين قواعد البيانات المختلفة وإتاحتها لمؤسسات الدولة المتعددة، لاسيما في الدول المتقدمة. أي أن ثورة المعلومات قدمت المزيد من الآليات لتوفير المعلومات للأجهزة الأمنية والاستخباراتية بما يشكل انتهاكا لحريات المواطنين من جهة، مع التشكيك في فاعلية هذه الآليات من جهة ثانية في ظل الضغوط المتولدة عن الوفرة الزائدة للمعلومات information overload وصعوبات تحليلها.

 

الخلاصة: يكشف الجمع بين هذه الأبعاد أن التغيرات في هياكل وتنظيمات وتقنيات دول الأمن القومي تأخذ في غالبيتها صور للتوسع والتمدد في الأدوار الأمنية على حساب حقوق المواطنين وحرياتهم، دون أن تصاحب ذلك بالضرورة زيادات موازية في الفاعلية في تحقيق الأمن بالدرجة المطلوبة أو المكافئة للتكاليف المقابلة ماديا ومعنويا.

 

رابعا: نتائج التحليل المقارن-محددات توسع دول الأمن القومي في النظم الديموقراطية:

يكشف التحليل المقارن لتجارب الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا في أعقاب أحداث سبتمبر 2001  عن وجود اتجاه عام لتوسع دول الأمن القومي نتيجة التطورات التقنية والهيكلية، واستغلال المؤسسات والأجهزة الأمنية نافذة الفرص التي توفرها التحديات الجديدة من أجل الدفع نحو توسيع أدوارها وسلطاتها وصلاحياتها وموازناتها، وإدخال التعديلات التشريعية والقانونية الملائمة لهذه الأغراض. لكن تظل هناك اختلافات وتباينات في درجة هذا التوسع ونطاقه ومدى تقييده لحقوق المواطنين وحرياتهم الأساسية بين الدول الديموقراطية ذاتها، وهو ما يمكن إرجاعه بشكل أساسي إلى عاملين أساسيين:

العامل الأول الاعتبارات المؤسسية فيما يتعلق بطبيعة الدولة ومدى مركزيتها من جهة، وأدوار المؤسسات القضائية والدستورية فيها من جهة ثانية.

حيث تكون احتمالات توسع دول الأمن القومي دون معارضة أو مقاومة كبيرة أعلى في الدول الموحدة أو الأكثر مركزية، مقارنة بدرجات أعلى من المقاومة والممانعة في الدول الأكثر لامركزية والدول الفيدرالية إذ يفرض تقاسم السلطات جغرافيا وإقليميا عائقا إضافيا أمام الحكومات الفيدرالية في توسيع صلاحياتها الأمنية. كذلك فإن قوة ووضوح الدساتير المكتوبة وقوة المحاكم الدستورية يوفر حماية أكبر لحقوق المواطنين في مواجهة توسع دول الامن القومي ( وهو ما يجعل مواطني الولايات المتحدة في وضع أفضل نسبيا من مواطني بريطانيا على سبيل المثال)

العامل الثاني هو الاعتبارات والخبرات التاريخية لاسيما فيما يتعلق بالخبرات والترتيبات المؤسسية السابقة للتعامل مع قضايا الإرهاب وتهديد الأمن القومي.

إذ أن التوسعات الجديدة في الأدوار الأمنية للدول عادة ما تبنى على الخبرات السابقة في مواجهة الإرهاب وتمثل امتدادا لها بشكل أو آخر حتى في حالات اختلاف طبيعة التهديدات الأمنية الجديدة. ويمكن اعتبار هذه العوامل بدورها شكلا من أشكال التفسيرات المؤسسية التاريخية إذ تتأثر المؤسسات الجديدة بالمسارات التاريخية والقائمة فعلا فيما يعرف بـ”تبيعة المسارات path dependencies”.

 

خامسا: فرص التعاون الدولي وقيوده: -إمكانية انتقال نماذج دول الأمن القومي:

يشير الكاتب إلى أنه على الرغم من أهمية التعاون الدولي لمواجهة التهديدات الأمنية المتزايدة وطابعها المتغير، إلا أن الواقع الفعلي يشهد العديد من المعوقات التي تواجه هذا التعاون بما يجعل الدول أكثر اعتمادا على سياساتها الذاتية في مواجهة الإرهاب والتهديدات الأمنية، وذلك مقارنة بمجالات أخرى اقتصادية وسياسية شهدت درجات أعلى من نقل صلاحيات الدول إلى مستويات فوق قومية. ولا تقتصر هذه المعوقات على المستويات الأكثر حسما في التعاون العملياتي العسكري المباشر لمواجهة الإرهاب والتهديدات الأمنية، وإنما تمتد إلى المستويات الأولى والأساسية الخاصة بتبادل المعلومات ذاتها؛ إذ يؤدي اختلاف مواقف الدول وسياساتها في تصنيف مصادر الأخطار والجماعات الإرهابية من جهة وفي تعريفها لحقوق المواطنين وضرورة حماية خصوصياتهم وحرياتهم من جهة ثانية إلى تباينات في مواقف الدول حول إمكانيات التعاون المعلوماتي.

وهو ما يظهره الكاتب بالإشارة إلى المعارضة الأوروبية للمساعي الأمريكية لزيادة الرقابة على المسافرين والاشتراطات الأمريكية المقترحة في هذا الصدد لتزويد جوازات السفر على مستوى العلام بشرائح الكترونية تتضمن بيانات تفصيلية وشخصية عن المسافرين لتقليل المخاطر الإرهابية، فضلا عن الجهود الامريكية لزيادة الرقابة على عمليات التحويل المالية عبر العالم.

ويبرز الكاتب أن تغير المواقف الأوروبية مؤخرا نحو الاستجابة للمطالب والاشتراطات الأمريكية يتفق مع النزعة المتزايدة لتوسع دول الأمن القومي على حساب الحقوق والحريات وتحت مظلة ضرورات حماية هذه الحقوق ذاتها وفي مقدمتها الحق في الأمن.

بعبارة أخرى، يرى الكاتب أن الاختلافات بين تجارب الدول ومؤسساتها وخبراتها التاريخية قد تعوق الانتقال المباشر لنماذج ومؤسسات الأمن القومي بين بعضها البعض، لكن ذلك لا يمنع إمكانيات التلاقي على المدى المتوسط أو الطويل بما

 

التقييم والنقاش:

-ركز الكاتب بصورة أساسية على مفهوم دولة الامن القومي وتوسع الأدوار الأمنية للدولة في النظم الديموقراطية، وهو أمر مبرر بالنظر إلى ارتباط القسم الواردة فيه الدراسة بتحولات الدول الديموقراطية. وقد أعطى تحليل الكاتب صورة إجمالية ومقارنة مهمة لبعض مؤشرات تزايد أدوار المؤسسات الأمنية في مختلف النظم وعدم اقتصار هذه الظاهرة على الدول غير الديموقراطية. لا يمنع ذلك أن توسيع نطاق التحليل ليشمل الدول غير الديموقراطية يمكن أن يفسح المجال لمدى أوسع من الاستنتاجات حول أنماط دول الأمن القومي ومحدداتها وآليات عملها.

-مفهوم دولة الأمن القومي national security state رغم صلاحيته نظريا للتطبيق على مختلف الدول النظم باعتبار أن الوظيفة الأمنية والحفاظ على الأمن القومي وحمايته في مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية يمثل قاسما مشتركا بين مختلف دول العالم، بل مقوما أساسيا من مقومات تعريف الدولة ذاتها، إلا أن هذا المفهوم يظل أكثر قابلية للتطبيق على النظم الديموقراطية مقارنة بمفاهيم السلطوية العسكرية أو الحكم العسكري الأكثر ارتباطا بنظم الحكم غير الديموقراطية. حيث لا يقتصر توسع أنشطة المؤسسات الأمنية على المجالات الأمنية ذاتها، وإنما يمتد ليشمل محاولات السيطرة  والتدخل على كافة مجالات وقضايا التفاعل في الدولة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. مع دعم هذا التوسع في أدوار المؤسسة العسكرية وسيطرتها من نخب الأعمال والدولة في إطار ما يعرف أحيانا بالاستبداد البيروقراطي.

 

موضوعات مقترحة للبحث والتفكير:

تبرز الدراسة جانيا من تعقيد موضوع العلاقات المدنية العسكرية وتجاوزه نطاق انتقاد تدخل المؤسسة العسكرية وزيادة أدوارها وآليات الرقابة والسيطرة المدنية عليها، واعتبار ذلك مؤشرا أساسي للتحول الديموقراطي، إذ يظل هناك مجال لبحث موضوعات أخرى بالتوازي مع ذلك:

-ما يحدث في الدول الأقل الديموقراطية من زيادة أدوار المؤسسات الأمنية لا يرتبط فقط بعدم ديموقراطيتها وإنما يتصل أيضا بتوجه عام لزيادة أدوار المؤسسات الأمنية في مواجهة تزايد التهديدات والتحديات الأمنية. وهو ما يثير إشكاليات عامة حول:

-كيفية الموازنة بين الحرية والأمن: السياسات الشرطية والأمنية في الدول المختلفة الديموقراطية وغير الديموقراطية ومدى نجاحها في تحقيق هذه المعادلة؟ كيف تستطيع الدول الديموقراطية مواجهة التهديدات الأمنية دون التضحية باعتبارات الحقوق والحريات أي الحفاظ على مدنيتها وتجنب عسكرة الدولة إن جاز التعبير؟ أم أن جميع الدول تتحول إلى دول حمائية أمنية بدرجات مختلفة على حساب الحقوق والحريات في مواجهة تزايد التهديدات الأمنية؟

-هل جميع أشكال تدخل المؤسسة العسكرية المباشر في الحياة السياسية بالضرورة معوقة للديموقراطية والتحول الديموقراطية أم أن هناك حالات يمكن لتدخل المؤسسات العسكرية/الأمنية أن يكون ديموقراطيا؟ هل تدخل المؤسسات العسكرية للإطاحة بنظم غير ديموقراطية يمكن أن يفسح المجال للديموقراطية؟؟ هل يمكن أن تنشأ ديموقراطية في ظل سيطرة المؤسسات العسكرية الأمنية والقضايا الأمنية وإضفاء الطابع الأمني على التفاعلات والقضايا؟؟؟ وما هي شروط ومحددات ذلك؟

-ما هو نطاق “عسكرة” أو إضفاء الطابع الأمني على القضايا: ويثير ذلك التساؤل حول مدى إمكانية الحديث عن تعدد النظم السياسية داخل الدولة الواحدة بحسب القضايا أو التوزيع الجغرافي: بعض الدراسات مثلا تتحدث أن تركيا ساد بها نظام أكبر للحكم العسكري لفترات طويلة في مناطق التوتر جنوب شرق البلاد، في مقابل نظام أقرب للديموقراطية الهجينة في المناطق الأخرى. هل تقدم مثل هذه المعالجة توصيفا أفضل للنظم السياسية ومشكلاتها في بعض الدول؟

-ماهي محددات وآليات زيادة عسكرة militarization القضايا والتفاعلات أو تسييسها politicization أو إخراجها من المجال السياسي أو دور الدولة إلى مستوى التفاعلات غير الرسمية أو المجال العام depoliticization أو  تحويلها لقضايا ذات طابع اقتصادي economization غير ذلك من مستويات التحويل (وهل يسري ذلك على مختلف القضايا سواء قضايا المياه أو التحول الديموقراطي أو المعارضة السياسية، أو التهديدات الأمنية التقليدية العسكرية الخارجية أو الإرهابية الداخلية، أو قضايا التنوع الثقافي والإثني.. وغيرها)؟

أحد الموضوعات المتفرعة من ذلك تحليل مثلا علاقة الانتخابات بالعنف: متى تكون الانتخابات آلية للتسوية السلمية للصراعات وكسر دوائر العنف القائمة أو المحتملة (أي تسييس التفاعلات ذات الطابع الأمني From bullets to ballots)، ومتى يحدث العكس بحيث تكون الانتخابات في حد ذاتها بابا أو مدخلا لزيادة حدة الاحتقانات في المجتمع على نحو يرفع احتمالات العنف أو يزيد نطاقها (بما يؤدي لإضفاء طابع أمني على التفاعلات السياسية أو أمننة التفاعلات السياسية في المجتمع إن جاز التعبير From ballots to bullets)ـ؟

وبنفس المنطق، كموضوع مقترح آخر، يمكن التساؤل حول  محددات نجاح بعض الدول في توظيف المداخل الاقتصادية لمعالجة الصراعات في بعض الحالات بحيث يتم إضفاء طابع اقتصادي أو تقني على قضايا  الصراع الأمني/السياسي/ الوجودي سواء داخليا أو خارجيا، ومتى يحدث العكس بحيث تخفق الدولة في نزع الطابع الأمني /السياسي/ الهوياتي عن الصراعات بل وتتأثر العلاقات الاقتصادية القائمة سلبا بمثل هذه الأبعاد الصراعية؟ـ

-إذا كانت الأدوار الأمنية تشكل قاسما مشتركا بين جميع الدول فإن ذلك لا يمنع حالات تبدو فيها الدول عاجزة فعليا عن أداء هذه الأدوار مع تزايد التهديدات ضد احتكار الدولة الحق المشروع في استخدام القوة سواء على أجزاء من إقليمها أو إقليمها كله: ويثير ذلك التساؤل حول متى تخفق الدول في النهوض بأدوارها الأمنية وما هي الصور التي يأخذها هذا الإخفاق ومدى قابليتها للتصنيف في أنماط؟ وما هي تفسيرات أو محددات نجاح الدولة أو إخفاقها في النهوض بأدوارها الأمنية؟  وهل يعد هذا الإخفاق شرطا ضروريا أو كافيا في حد ذاته لتصنيف الدولة باعتبارها دولة هشة أو فاشلة؟  ما هي المعالجات المقترحة في هذه الحالات؟

عن admin

شاهد أيضاً

"سلام ترام" .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين “سلام ترام” قصة …