الرئيسية / النظم السياسية / السياسة المقارنة / التنمية الإنسانية وتحول الدولة وسياسة الدولة التنموية “مترجم”
التنمية الإنسانية وتحول الدولة وسياسة الدولة التنموية "مترجم"
التنمية الإنسانية وتحول الدولة وسياسة الدولة التنموية "مترجم"

التنمية الإنسانية وتحول الدولة وسياسة الدولة التنموية “مترجم”

التنمية الإنسانية وتحول الدولة وسياسة الدولة التنموية “مترجم”

Human Development, State transformation, and the Politics of the Developmental State.

Peter Evans and Patrick Heller([1])

التنمية الإنسانية وتحول الدولة وسياسة الدولة التنموية

يتناول الفصل مفهوم الدولة التنموية وأهم السمات والخصائص المرتبطة بالمفهوم وتعريفه، بالاضافة الي عرض نماذج للدولة التنموية وهي (كوريا الجنوبية، تايوان، البرازيل، افريقيا الجنوبية، الهند والصين).

 

تشير الفكرة الرئيسية الى ضرورة أن يتحول الجدل من مجرد الاهتمام بالجذور التاريخية لمفهوم الدولة التنموية الي العناصر الأكثر أهمية في التعريف، بحيث لا ينحصر الاهتمام بالتركيز على تراكم رأس المال والاستراتيجيات الصناعية الاّسيوية في سيتينيات القرن الماضي (حيث تركز الليبرالية الجديدة علي “قوى السوق” باعتبارها العامل الأهم في حدوث النمو والرفاهية)، بل يجب التركيز علي عامل أساسى مهم ساهم بشكل رئيسي في نجاح نموذج الدولة التنموية وهو التنمية الانسانية وهذا يستدعي مراجعة العلاقة بين الدولة والمجتمع وفق هذا النموذج، فلم تعد الدولة التنموية تقوم علي شبكات العلاقات بالنخبة الراسمالية الصناعية فحسب بل اصبحت هناك ضرورة لاقامة شبكات علاقات موسعة ومتنوعة تضم قطاعات واسعة من المجتمع المدني.

 

  • نظرية التنمية والدولة التنموية:

تبدو هنا أهمية دراسة “الدولة التنموية” كمفهوم نظري وليس من خلال التركيز عليه كنموذج من نماذج معينة في حقبة زمنية بعينها، بل التركيز على عوامل ومحددات يمكن دراستها بشكل نظري، وهكذا فانه يمكن  دراسة التنمية بالتركيز علي المخرجات التي تمثل تلك التنمية والمدخلات اللازمة لانتاج تلك المخرجات.

تؤكد نظرية التنمية والدولة التنموية – وفق هذه التحليلات – علي:

* الدور المحوري للقدرات الانسانية (لزيادة الانتاجية والنمو الاقتصادي)

*التنمية الإنسانية

أدي هذا لتغيير فهم نظرية التنمية، فالدولة تلعب دورا محوريا فى عملية التنمية وفق هذا الفهم “المستحدث” للتنمية، لكن يختلف عن دور الدولة في الفهم التقليدي لنظرية التنمية. كان امارتيا سن Amartia Sen قد ركز علي توسيع وتعزيز القدرات الإنسانية كهدف للتنمية وكوسيلة لتحقيق نمو اقتصادي وذلك عكس الفهم التقليدي لنظرية التنمية بأن تراكم رأس المال من شأنه أن يؤدي للنمو وان التنمية الانسانية تأتى كنتيجة للنمو الاقتصادي، بل أصبح هناك من العلماء من يرى ان تطور رأس المال البشري هو من شأنه أن يؤدي للتنمية وان الاهتمام بالتنمية الانسانية وتعزيزها يمكن الدول من تحقيق تنمية مستدامة.

 

  • اعادة صياغة مفهوم “الدولة التنموية”:

إعادة صياغة تعريف الدولة التنموية بمعني التركيز علي التنمية الإنسانية والقدرات الإنسانية، وهنا يلاحظ أن الدول تواجه مشكلات عديدة ومن نوع آخر مختلف عما سبق:

*علي الدولة توفير خدمات ذات نوعية وجودة عالية مثل التعليم، الرعاية الصحية.. ويتطلب هذا جهدا كبيرا ونوعيا من الدولة ومن تدخلها.

*علي الدولة وضع استراتيجيات تعتمد تقديم تلك الخدمات بكفاءة وفعالية كبيرة وعالية الجودة.

وهناك متطلبات يجب أن تتوافر حتي تستطيع الدولة الوفاء بالتزامتها وتقديم خمات عامة ذات نوعية:

* توافر بنية تحتية ملائمة (تتبناها السلطة) للوصول بالأفضل إلى المجتمع، مع جعل الأفراد والجماعات والمجتمع يطيعون هذه السلطة بشكل أرادي أو طوعي دون قهر.

*ضرورة وجود بنايات وهياكل أدارية أكثر كفاءة وفعالية.

*ضرورة أن تتسم علاقات الدولة-المجتمع بقدر كبير من المشاركة والتعاون والتشاور بين كل أطراف عملية صنع القرار.

*توافر معلومات دقيقة وقنوات التغذية العكسية feedback channels حتي تتمكن الدولة من إجراء أي تصحيح للسياسات واستثمار للموارد العامة بشكل يتسم بالكفاءة والفعالية والمرونة.

*توافر اّليات للشراكة والتشاور فعالة، تضم كل قطاعات المجتمع لانتاج سياسات عامة كفء وفعالة، على ان تتوافر بشكل دائم  قنوات للتغذية العكسية للمجتمع المدني لتحسين نوعية الخدمات وتوصيل تلك الخدمات خاصة  تلك المتعلقة بالتعليم والتخطيط على المسويات  المحلية.

هكذا وحتى تستطيع الدولة انتاج سياسات عامة كفء وخدمات ذات نوعية عالية، يجب أن تتوافر فى هذه الدولة أربعة مكونات أساسية تتضمن:

– أجهزة بيروقراطية عامة متماسكة، تتوافر لديها مقومات التخصص والكفاءة.

– “قدرة” الدولة علي تحقيق اهداف جماعية (وليس اهداف النخبة وحدها).

– مجموعة علاقات تفاعلية قوية تربط أجهزة الدولة بالقطاعات الأساسية فى المجتمع، بمعنى المجتمع المدني فى شكله الواسع، إداريا وسياسيا، وهذا ما يمكن تسميته بالترابط والتماسك embeddedness  وبحيث يتم التركيز علي قطاعات عريضة من المجتمع المدني، وليس فقط التركيز علي النخب الصناعية به.

– فعالية الدولة (وهي مشكلة سياسية ومحورها العلاقات بين الدولة والمجتمع).

وبايجاز يتطلب “تحول الدولة” التركيز علي المجتمع المدني بدلا من التركيز علي النخب ومصالحها،فضلا عن تكامل فاعلية الدولة وقدرتها وأجهزتها .

  • سياسة الدولة التنموية:

هكذا فان التركيز هنا ينصب علي المجتمع المدني كمحور أساسي للدولة التنموية، لكن هناك غموض حول ما هي العناصر والفئات المكونة للمجتمع المدني سواء كانت هذه العناصر والفئات تشكل طبقة عاملة، أو طبقة برجوازية…، لكن يظل المجتمع المدني هو قلب السياسة الديمقراطية، فوجود مجتمع مدني قوي بجانب حكم القانون مهم لانه يكون الشرعية التي علي أساسها يمكن لمجموعات المجتمع المدني المطالبة بحقوقها. ومبدأ حكم القانون من شأنه أن يدعم هذا ، بالاضافة الي عوامل أخرى فى مقدمتها : السماح بحرية التجمع وحرية التنظيم والتجمع.

وتشير الدراسة الى ان غياب منافسة انتخابية حرة ونزيهة ومجتمع مدني قوي يراقب اداء الدولة، يخلق بيئة ينتج عنها سياسات تتسم بالزبائنية clientalism.

  

  • نماذج التحولات في الدولة والتنمية:
  • كوريا الجنوبية وتايوان:

تشكل الدولتان نموذجا للدولة التنموية، والدولتان استطاعتا تقديم نماذج تحول صناعي واقتصادي ناجحة وذلك عبر دمج وتفاعل فى العلاقة بين أجهزة بيروقراطية تتميز بالفعالية والكفاءة والتماسك، وتعزيز علاقات قوية بالنخب الصناعية، لكن يجب عدم تجاهل عنصر – في غاية الأهمية – استثمار رأس المال البشري، لقد استثمرت كوريا وتايوان رأس المال البشري واستطاعت النجاح وتحقيق النمو الاقتصادي بالتركيز علي تحسين مستويات التعليم والاستثمار في التعليم.

تحولت الدولتان للديمقراطية في الثمانينات وبدأتا في تطبيق “حماية اجتماعية”([2]) ، فتم علي سبيل المثال تقديم تأمين صحي شامل لكل المواطنين في 1986 فى تايوان وعام 1987 كوريا.

واتسمت الثلاثين عاما الماضية بأنها فترة شهدت خلالها الدولتان تحولات اجتماعية وسياسية عدة، استطاعت كوريا وتايوان الحفاظ علي مستويات منخفضة من عدم المساواة، وشهد مجال التعليم والصحة تطورات وتحسينات ملحوظة، وقد نتج هذا عن إمكانية مقارنة كوريا الجنوبية بدول الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة الامريكية، وهناك دور وتدخل واضح للدولة في توسيع القدرات الإنسانية، والإمكانيات المتاحة للمزيد من النمو،  وتعزيزها.

تشير تجربة الدولتين الى ان هناك علاقة بين نشأة وتطور الديمقراطية والمنافسة الانتخابية والاستثمار المتزايد من الدولة في القدرات الانسانية.

مع تطور المنافسة الانتخابية والديمقراطية نجد ان المجتمع المدني قد أخذ  يشارك بشكل ملحوظ ولعب دورا متزايدا ومهما وصاحب ذلك المزيد من  التحول الديمقراطي والحراك السياسي. حققت البلدان اداءاُ  اسثنائياً في توسيع وتعزيز القدرات الانسانية، جنبا الى جنب والنجاحات الصناعية الكبري.

 

  • البرازيل وجمهورية جنوب افريقيا:

تشكل البرازيل وجمهورية جنوب افريقيا  بلداناَ نامية كبري ذات دخل متوسط ، وقد اتخذت كل منهما مسارا مختلفا عن الاخري، لقد حدث تحول ديمقراطي علي مدار الثلاث عقود الماضية في البلدين وكان التحدي الاكبر هو محاولة التغلب علي ارث من مستويات مرتفعة من عدم المساواة الاقتصادية وفجوة بين الطبقات الاجتماعية، وكان هدف الحكام المنتخبين ديمقراطيا منذ عقد التسعينات فى القرن الماضى ، هو التغلب علي هذا الموروث من المظالم التوزيعية والطبقية ، واقامة نوع من العدالة ،  وتوسيع القدرات الانسانية ، والحد من مؤشرات  عدم المساواة.

استطاعت البرازيل تغيير حياة عشرات الملايين من مواطنيها عبر برنامج او خطة “التحول النقدي المشروط” “Bolsa Familia”[3] الذي نجح في تحسين الظروف المعيشية لملايين من الأسر الفقيرة في جميع ارجاء البرازيل، بالاضافة الي توافر التعليم والرعاية الصحية لقطاعات أوسع من الشعب، واصبح النموذج البرازيلي  نموذجا للسياسة الاجتماعية الفعالة.

لم تنجح جنوب افريقيا في تحقيق نتائج مماثلة أو مشابهة ، مثل البرازيل، فرغم الاستثمار في الصحة والتعليم، نجد على سبيل المثال ، ان هناك تدني كبير في معدل الوفيات بين الرضع في البرازيل تصل الي نحو النصف في الفترة من 1996 الي 2006، بينما زادت في جنوب افريقيا في نفس الفترة، كذلك في البرازيل زادت نسبة انضمام الفتيات للمدارس من 83% الي 95% في الفترة من 1991 الي 2004، بينما في جنوب افريقيا قد انخفضت من 92% الي 88% في نفس الفترة.

حاربت البرازيل عدم المساواة وقد اثمرت عن نتائج ترجمت علي ارض الواقع، فنجد ان البرازيل اصبحت تحتل مرتبة متقدمة علي معادل جيني للمساواة([4])، تهدف السياسات التي طبقتها البرازيل اعادة توزيع الدخل، تقديم رعاية صحية وتعليم وتوافر المياه وخدمات الصرف الصحي لجميع المواطنين، في المقابل، وعلى العكس من البرازيل، نجد ان معدلات عدم المساواة قد ارتفعت بشكل ملحوظ في جنوب افريقيا.

السؤال الذى يفرض نفسه هنا: لماذا نجحت البرازيل وفشلت جنوب افريقيا في التنمية؟ لايعتمد النجاح او الفشل علي وجود جهاز بيروقراطي كفء، بل ان الأمر يتعلق بالعلاقات بين المجتمع السياسي (الدولة والاحزاب السياسية) والمجتمع المدني. يوجد مجتمع مدني نشط في الدولتين، لكن في جنوب افريقيا تتسم منظمات المجتمع المدني (التي نتجت من الصراع ضد التمييز العنصري) بانها بعيدة عن المجتمع السياسي، وذلك بعد ان تم انتخاب حزب سياسي اصبح هو الحزب المهيمنANC([5])  علي الساحة السياسية ، لكنه أراد الهيمنة ايضا علي منظمات المجتمع المدني، وتم اعاقة الديمقراطية الجديدة عندما قام هذا الحزب- من دون مشاورة أو توافق مع الأحزاب والقوى الأخرى – بتطبيق اصلاحات ليبرالية جديدة ، وتبنى استراتيجيات لها طابع تكنوقراطى ، كوسيلة لتوصيل الخدمات، وقد كان من شأن سياسات الانفتاح التي رافقت هذا التحول ، أنها أدت إلى اضطرابات اجتماعية وأمنية متكررة.

وبايجاز فان المجتمع المدني لا يشارك في العملية السياسية في جنوب افريقيا، مع ملاحظة تكرار و تزايد ملحوظ في عدد المظاهرات -العنيفة احيانا- للمطالبة بتوفير وتوصيل الخدمات.

أما في البرازيل ، فان المجتمع المدني  يلعب دورا مهما، حيث يشارك في وضع السياسات مع الدولة،  كذلك فلقد تم مأسسة العديد من الهياكل التشاركية وقنوات المشاركة،  وتقوية الحكومات المحلية الديمقراطية ، ولعل النجاح في ذلك يرجع الي التطور المشترك للاحزاب السياسية والمجتمع المدني، جنبا الى جنب ، والحقيقة أن مشاركة المجتمع المدني في وضع السياسات العامة مع الدولة، إنما ترجع الي جهود ودعم المنظمات غير الحكومية النشطة والحركات الاجتماعية.

يرجع الفضل في توسيع الرفاهية والوضع الاجتماعي للبرازيل إلي الدور الذى يلعبه حزب يسمي “PT”)[6]( لانه  أصبح يمثل العامل الوسيط الذي يربط الدولة بالمجتمع المني، وذلك لأن جذور هذا الحزب في تمتد عميقاَ عبر المجتمع المدني.

وفق التوقعات، سوف يستمر الأداء الاقتصادي والسياسي لجنوب افريقيا في الانخفاض لو لم تتبع سياسات تهدف الاصلاح واعادة تشكيل دولة الرفاهية ودمج فئات كبيرة من الشعب في العملية السياسية، بالاضافة الي ضرورة تغيير الهيمنة السياسية للتحالفات القائمة للكيانات الوطنية والنخبة السياسية  والرأسمالية الصناعية. لقد اعتمدت جنوب افريقيا علي ما سمي “التمكين الاقتصادي الاسود Black Economic Empowerment ” وعلي خلق علاقات قوية مع النخب الرأسمالية ،  ولكنها فشلت في ادماج المجتمع المدني وفي توسيع القدرات الانسانية، وفى دفع الدولة للمزيد من التنمية.

 

  • الهند والصين:

بدت الصين والهند عقب الحرب العالمية الثانية وكأنهما نماذج مناقضة contrast لنموذج النمور الاّسيوية، تملك الدولة في حالة الهند القدرات البيروقراطية لاحداث تنمية ونمو، ولكن كانت هناك معوقات تواجه الهند منها أن النظام يقوم علي سياسة الزبائنية وتحالف متنوع غير منسجم لأطراف تعمد الى  انتزاع الموارد العامة بطريقة عشوائية.

نجحت الصين في تقديم نموذج اشتراكي استطاع القيام باستثمارات واسعة في التعليم والصحة، ولم تكن توجد طبقة رأسمالية للتحالف معها، وتقدم الصين بذلك نموذجا ناجحا ،  وتتجه لتصبح من أقوي اقتصاديات العالم ، وتليها الهند، كونت الصين شريحة عريضة من المتعلمين ولديها معدلات عمر مرتفعة حققت من خلالها الأساس المكون للمنافسة الاقتصادية في العقدين الاخيرين من القرن العشرين. لقد استثمرت الصين رأس المال البشري وترتب على ذلك معدلات نمو عالية واداء قوي، لكن يري البعض انها لم تحقق ذات النتيجة فيما يخص توسيع القدرات، ولكن يمكن ان نرجع ذلك لطبيعة الصين نفسها حيث تترسخ السلطوية فيها، فقد تأسست الدولة الصينية علي هياكل سلطوية، واستطاع حزب واحد ذو قاعدة شعبية عريضة ودرجة عالية من الالتزام ان يصل الي القري وكل طبقات الشعب وتوصيل الخدمات.

يري البعض ان نمو الصين واداءها فيما يخص توسيع وتعزيز القدرات البشرية لمجتمعها،  يشهد تباطؤاً، ويرجع ذلك الي تبني الصين اقتراب قوى السوق market-oriented approach وهذا أدي لبطء وعدم ادخال تحسينات في كيفية توفير الخدمات والاحتياجات للمواطنين، لقد شهدت الصين تدني وانخفاض مستويات الفقر في التسعينات لكن يلاحظ ان سبب انخفاض مستويات الفقر يرجع الي النمو الزراعي ويرتبط باستثمار الصين بشكل اساسي في القطاعات الاجتماعية وفي البنية التحتية، واستطاعت الصين خفض نسب الفقر قبل تطور النمو الاقتصادي بها والتجارة الخارجية.

استطاعت الصين وهي دولة فقيرة توفير الرعاية الصحية بجودة عالية ولكن لا يبدو ان الوضع الحالي  يشبه ما حدث فى الماضي، وفى الحقيقة تواجه الصين مشاكل أبرزها الفروق الشاسعة في الدخل وعدم المساواة في الدخول بالاضافة الي تراجع وانسحاب الحماية الاجتماعية السابقة.

استطاعت الصين عندما كانت تتبني نظام “شيوعي – رأسمالي” “Communist-capitalist” خفض مستويات عدم المساواة بشكل ملحوظ، ورفع مستويات الحماية الاجتماعية بالاضافة إلي انسحاب الدولة من دورها التقليدي كالدولة الراعية التي توفر الرفاهية لمواطنيها، وذلك بالسماح لمجموعة من الشركات الاجنبية والنخب الرأسمالية المحلية الخاصة باكتساب نفوذ عبر المشاركة في الحزب والدولة علي المستويات المحلية والقومية، في المناطق المنتعشة اقتصاديا، وتوقفت الصناعات المملوكة للدولة عن توفير مزايا اجتماعية للعاملين بها، وتمت عملية خصخصة للأراضي في المناطق الريفية وهذا كله قوض أساس دولة الرفاهية المحلية، وأصبحت قطاعات الصحة، التعليم، الاسكان معتمدة بشكل كبير علي السوق بعد انسحاب دولة الحزب party-state.

السؤال الان : هل يمكن ان تسير الصين علي خطي كوريا الجنوبية وتايوان وتتحول للديمقراطية وتحقق نسب عالية من توسيع القدرات البشرية لمجتمعها ؟

يعتمد النجاح علي عامل الانسجام والترابط مع المجتمع، إن قانون العمل لعام 2008 في الصين وتزايد ملحوظ في تسامح الدولة تجاه الاضرابات وجهود كبيرة لاعادة احياء الجهود العامة لتوفير الرعاية الصحية وزيادة نسبة التفقات في ميزانية الدولة للنفقات الاجتماعية والتعليمية تؤكد علي المزيد من توسيع القدرات. لكن من الصعب القول أو التوقع بسيناريو مشابه لكوريا وتايوان وذلك لأن هناك اتجاه يزيد من نسب عدم المساواة ويرجع لتخصيص الأراضي الزراعية وذلك ليمتلكها أصحاب ومطوروا الأراضى فى المنطق الحضرية urban land developers بالاضافة الي عدم تسامح الدولة مع اي مطالب للمجتمع المدني وهذا يحول دون التحول ، ويعوقه الى حد بعيد.

اما الهند، فنجد انه علي الرغم من توافر الظروف الديمقراطية، الا ان هناك ضعف في قدرة الدولة علي ترجمة وتحويل النمو فى اتجاه تعزيز وتوسيع القدرات البشرية لمجتمعها، وقد فشلت الهند في ترجمة النمو المتسارع في شكل توفير الاحتياجات الاجتماعية خلال العقدين المنصرمين. لقد تبنت الهند سياسات تهدف الي توسيع وتعزيز القدرات، لكن تحقيق هذه السياسات يتم من خلال روابط وعلاقات من أعلى الى أسفل، من خلال أواصر للعلاقات السياسية – البيروقراطية، وبشكل لا ينم عن كفاءة عالية.

لقد احتلت الهند تاريخيا مرتبة متدنية في معامل جيني  للمساواة ، لكنها قد تعدت الصين، ونجد ان هناك فصل بين النمو المتسارع وتوسيع القدرات، فعلي الرغم من زيادة النفقة علي التعليم الا ان الهند تعاني من مشاكل مزمنة في نسب تغيب المعلمين عن العمل، الفشل والتسرب الدراسي- على سبيل المثال فقد تم اجراء تقييم لطلاب الصف الخامس ووجدوا ان مستوي القراءة لديهم أقل من مستوي الصف الثاني – وبالنسبة الى التمييز الطبقي ، تحتل الهند مرتبة عالية جدا في التمييز الطبقي في التعليم، وعدم تكافؤ الفرص في مجال التعليم (والهند تحتل مراكز اسوأ من كل دول امريكا الليتينية و الدول الافريقية) فأبناء الطبقات الاعلي في الهند لديهم فرص احسن وافضل للتعليم تميزهم مقارنة مع غيرهم من الطبقات.

أصبح  هناك  فشل كامل في توصيل أبسط الاحتياجات والخدمات: الصحة والطعام، يوضح تقييم تم اجراءه في 2006 ان 48% من الاطفال ممن لم يتعدوا الخمس أعوام يعانون من التقزم (والهند ، فى هذا الصدد ، أصبح لديها أعلي مستوي لسوء التغذية في العالم) وهي حالة تعبر عن أوضاع صحية لها عواقب صحية خطيرة علي المدي الطويل، بالاضافة الي تراجع مستويات استهلاك السعرات الحرارية علي مدار العقدين المنصرمين.

تتمتع الدولة بقدرة عالية وباستقلالية عن المصالح الخاصة particularistic interests خاصة في  مجال الاقتصاد الكلي ، لكن تقل قدرة الدولة كلما تفاعلت واندمجت مع المجتمع خاصة علي مستوى الولايات subnational وكذلك الحوكمة على المستويات المحلية، ان القضية هنا قضية سياسية ( وتتعلق بمنظومة تسلسل السيادة  فى الدولة chain of sovereignty) اكثر منها تتعلق بمنظومة تسلسل الأوامر الادارية أو التنظيمية  (سلسلة الأمر chain of command) . ان المصالح والقيم المرتبطة بالمستويات المحلية ومستوى الولايات subnational مترسخة في الدولة عبر التمثيل الحزبي ،لكن التمثيل الحزبي في الهند مشتت ومجزأ ومرتبط بمصالح وقيم خاصة أكثر وهذا يقلل من دور الدولة لتصبح مجرد أداة أو “ماكينة رعوية”، ان سياسات الحزب تؤثر في كيفية تعامل واندماج الدولة مع المجتمع، وهنا تم اقصاء او استبعاد المجتمع المدني.

يبدو أن الدولة الهندية ليس لديها سوى آليات واجهزة محدودة المرونة والاستجابية ، كما لا تتوفر لديها اية اّليات فعالة  للتغذية الاسترجاعية feedback ولا يوجد اي منتجين مشاركين بجانب الدولة co-producers.  قد يكون ممكنا ان تنفذ الدولة الهندية ، وتتبنى السياسات علي مستوي الاقتصاد الكلي ، وبعض المشاريع الكبري، لكنها لا تستطيع جعل المعلمين يعملون ويدرسون او الممرضين يؤدون العمل المناط بهم او تجعل المجالس المحلية شفافة فيما يتعلق بميزانيتها….

يمكن ربط التقدم في التنمية الاجتماعية في البلدان الجنوبية (كيرالا وتاميل نادو[7]) بالانماط التاريخية للحراك الاجتماعي فيهما، بالاضافة الي ان الحركات المناهضة للتميز الطبقي افرزت تكوينات سياسية شاملة وقوية وسمتمرة تقوي جهة الطلب الديناميكي لدي المجتمع المدني وشكلت سياسة حزبية توزيعية اكثر تنافسية.

في الصين ، خلال فترة ما قبل سيطرة قوى السوق أمكن للدولة تحقيق الترابط والتماسك  من خلال هياكل سلطوية في المجتمع، وهذا النوع من الترابط embeddedness قد سهل من توسيع القدرات البشرية للمجتمع الصينى بشكل سريع ، وهيأ الصين للنمو الاقتصادي الدراماتيكي، ويرجع البعض هذا النمو الاقتصادي الجبار الى وجود حكومات محلية قوية ، وتنموية الى كبير، وان هنذا الترابط أصبح  مؤسسيا ، لكن كان هناك تأثير واضح لغياب آليات الضبط والمراقبة الديمقراطية democratic checks والتى تعد ضرورية لضبط دور الحزب وتوجهات قوى السوق.

فشلت الهند في الاستفادة من النمو المقسم ، وواجهت مشكلة ارتفاع معددلات عدم المساواة (في الدخول) وبمفردات القدرات الانسانية. تعتمد الدولة علي تحالف حكم صغير جدا، والدولة مهتمة اكثر بتراكم رأس المال، ويمكن ان يفسر هذا التوزيع الغير متكافئ لثمار النمو. هناك تأثير كبير ومتزايد لمصالح الشركات علي السياسات العامة في الهند وعلي المؤسسات السياسية، ولكن لا  توجه أولوية الى  تبنى سياسات للصالح المحرومين والمهمشين، بينما في البرازيل ،مثلا، تخصص الدولة اكثر من نصف ميزانية الانفاق العام للرعاية الصحية حتي توفر الرعاية الصحية لكل المواطنين، فان  الهند تخصص أقل من ربع الميزانية للصحة، كما ان في الهند تأثير كبير للشركات الخاصة للتأمين الصحي ومع تزايد هذا التأثير وتدنى حصة الرعاية الصحية من انفاق الدولة، لا يبدو ان هناك أي مستقبل لبناء نظام رعاية صحية ذو جودة عالية وعام لكل المواطنين  قريبا.

المشكلة في نموذج الهند ليس في قدرة الدولة ، وانما في علاقة المجتمع والدولة، فالعلاقة تعيقها الاّليات السياسية القائمة ، بالاضافة الي غياب أي منظمات مجتمع مدني تقوم بدور المراقبة وتستطيع مسائلة ومحاسبة البيروقراطيين والسياسيين، وعدم وجود قطاع يقوم بعملية  بلورة وصياغة  المطالب، وتحقيقها لتوفير وتلبية الاحتياجات والخدمات العامة، كل هذا يوضح ويفسر التوقعات بان توسيع القدرات في الهند سيظل في حدود ضيقة.

الهند والصين نماذج دول فشلت في ترجمة النمو بشكل واضح الي توسيع القدرات البشرية  لمجتمعها، في الصين نجد ان السلطوية مترسخة لكنها في تراجع وانسحاب لكن دون ان يحل مكانها ديمقراطيا مجتمع مدني يقوم بدور المساءلة، اما الهند فهي دولة عرضة للمساءلة والمحاسبة لكنها ليست مترابطة embedded، وفشلت في تطوير وتنمية حتي أبسط القدرات ، ويتصل مدي مساءلة الدولة والاستجابية للمرؤوسين في الصين والهند بالعلاقات القوية بالنخب الاقتصادية، ولرأس المال سلطة سياسية متزايدة من شأنها ان تعمل علي اضعاف مشاركة وادماج المجتمع المدني­­­­ المحرك الرئيسي لتوسيع القدرات والتنمية الانسانية والذي يعتمد عليه الانتاج الفعال وتوصيل الخدمات وتلبية الاحتياجات الجماعية.

 

الخلاصة:

لقد حدث تحول في النظريات التقليدية للتنمية والدولة التنموية، تحول التركيز من تراكم رأس المال الي توسيع القدرات الانسانية كوسيلة رئيسية للتنمية، لو ارادت الدولة التنموية ان تلعب دورا فعالا فعليها تعزيز التنمية من خلال توسيع القدرات والمفتاح هنا هو علاقة الدولة بالمجتمع، تلعب الدولة دورا مهما في تنظيم العلاقة بين اقتصاد رأسمالي وتنمية تقوم علي توسيع القدرات، ولأن السوق لا يقدم خدمات عامة كافية تلعب دورا مهما في ضمان ترجمة او تحويل النمو الي توسيع للقدرات، فان تعزيز وتوسيع القدرات والاستثمار الاجتماعي من شأنه أن يؤدي الي النمو.

يشترط تعزيز القدرات في الاقتصاديات الرأسمالية العالمية المعاصرة ان يكون هناك ترابــط واسع broad-based embeddedness، ويشترط هذا الترابط وجود علاقات بالمجموعات في المجتمع من كل الفئات والجماعات ، ووجود قنوات اتصال عديدة بين هذه المجموعات والدولة ، وذلك يعنى توطيد علاقة الدولة – المجتمع وتعزيز التعاون والتنسيق والشراكة والانتاج المشترك وليس  الهيمنة او الاكراه او التبعية.

هناك مصدرين للاختلاف في طبيعة الترابط :

الاول: يعتمد علي مدي اندماج الدولة مع المجتمع، ممكن ان ترتبط الدولة بمجموعة مختارة من المجموعات او ان يكون لديها مجموعة من الفاعلين الاجتماعيين والمصالح، هناك تفسير للدولة الاشتراكية الديمقراطية بأن مصدر الترسيخ هو في تكوين طبقة عاملة، وهناك نظرية أخري تؤكد علي اهمية التركيز علي الظروف التي هيأت المجتمع المدني لانتاج سياسة تضامنية solidaristic politics،

الثاني:  يتعلق بكيفية وطريقة الاندماج او الارتباط ، والذي قد يتخذ :

  1. اما شكلا سلطويا وهذا يحد من فعالية الدولة التنموية لندرة المعلومات المتوفرة ولأن التعاون غير مجدي ومحبط،
  2. او شكلا ديمقراطيا حيث تتفاوض الدولة علي شروط التدخل مع المجتمع المدني، والملاحظ هنا ان الدول الديمقراطية أنجح بكثير من تلك السلطوية في بناء علاقات تاّزرية – تعاونية مع المجتمع.

 

إن وجود المؤسسات التمثيلية لا يضمن نتائج تنموية عبر اندماج الدولة مع المجتمع، ذلك أنه من الضرورى وجود نظام حزبي تنافسي لمواجهة مشكلات تغلب وهيمنة النخبة، ولكن حتي في أمثلة مثل الهند ووجود تماسك ونظام انتخابي تنافسي فشلت الاّليات التمثيلية في ضمان مساءلة الحكومة أمام مواطنيها.

 

حققت البرازيل وكوريا وتايوان الترابط الديمقراطي، فقد مزجت الدولة توسيع القدرات مع إصلاحات اقتراب قوى السوق، ونجحت في بناء دينامية اقتصادية مواتية، وساعدت الديمقراطية في تطوير دعم سياسي لتوسيع الخدمات الاجتماعية.

والواقع أنه يوجد مجتمع مدني قوي ونشيط في كوريا وتايوان، ويتسم المجتمع المدني في كوريا بتحالف ضد السلطوية وحراك للطبقة العاملة، وهذا قد دفع التحول الديمقراطي وعززه في كوريا. ان المنافسة الانتخابية وتطورها قد أدت لتوسيع المجال السياسي الذي يمكن المجتمع المدني من الاندماج مع الدولة، فقد لعب المجتمع المدني في هذه الدول دورا مهما في تعزيز الاصلاحات الاجتماعية في البلدين.

في جنوب افريقيا ما تزال آثار ومظاهر تجربة الصراع الطويل ضد التمييز العنصري واضحة ، وقد ورثت جنوب افريقيا مجتمعا مدنيا قويا ومنظما، وكان الخطاب المهيمن هو المتعلق بالحقوق وتمتعت الجماعات التابعة للمجتمع المدنى بقدرة كبيرة للفعل الاجتماعي.

كان من الممكن ان تتخذ افريقيا الجنوبية نفس نهج البرازيل، لولا هيمنة حزب واحد وعزله الدولة عن المجتمع المدني والجماعات التابعة له، سلطة الدولة اتجهت لنوع من الحداثة العالية (وسياسات انفتاح اثبتت فشلها) في ظل غياب اّليات التغذية الاسترجاعية وغياب سلطة ديمقراطية تعويضية، وهذا كله أدي لسياسات فاشلة وكوارث من ناحية السياسات العامة مثل رفض ادارة مبيكي Mbeki التعامل مع وباء الايدز واتجاه السياسات العامة في جنوب افريقيا الي تراكم رأس المال علي حساب توسيع القدرات.

تؤكد حالتي الصين والهند علي أهمية استقلالية الدولة في علاقتها باجندات النخب الرأسمالية.

* يتضح من جميع النماذج المذكورة ان السياسة مهمة وان هناك أهمية كبيرة للقدرة التكنوقراطية والتنظيمية لانجاح الدولة التنموية، لكن لو لم يتم ادماج واشراك المجتمع المدني لن تكون هناك فائدة او نتائج  مثمرة  لتلك القدرات. يجب التأكيد علي ان الدولة ليست الفاعل الوحيد في عملية التنمية وتوسيع القدرات ولا يمكن ان تعتمد علي تحالفات مع النخبة، يجب ان يلعب المجتمع المدني دورا مهما حتي تستطيع الدولة التنموية من توسيع القدرات والعمل على تلبية الاحتياجات للمواطنين، يجب ايضا ان تطور الدولة نفسها باستمرار حتي تستطيع مواجهة التحديات المتجددة التي تفرضها عملية التنمية عليها.

 

[1]) هذا الفصل جزء من كتيب:

Stephen Leibfried (et. al.). The Oxford Handbook of Transformations of the State (forthcoming). Online Publication Date: September 2014

[2] ) المقصود بالحماية الاجتماعية: انها سياسات تتخذها الدولة لمحاربة الفقر ولأتاحة العدالة الاجتماعية وتعزيز التنمية الشاملة، وهذا يتم عبر المشاركة بين الحكومة والمواطنين.

[3] ) يمكن معرفة المزيد عن هذا البرنامج علي موقع البنك الدولي، حيث ذكر :

“ان البرنامج البرازيلي الاجتماعي الرائد “بولسا فاميليا” واحدًا من أكبر البرامج من نوعه على مستوى العالم لانه استطاع تحسين الظروف المعيشية لثمانية مليون أسرة فقيرة في جميع أرجاء البرازيل في خلال عامين فقط. ويسعى البرنامج- مثله في ذلك مثل برامج “التحويل النقدي المشروط” الأخرى في المنطقة – إلى الإسهام في:

أ‌. تخفيف وطأة الفقر وعدم المساواة التي تسود حاليًا من خلال توفير مستوى أدنى من الدخل للأسر الفقيرة،
ب‌. ووقف توارث الفقر بين الأجيال باشتراط منح هذه التحويلات في حالة الالتزام بالأهداف الرئيسة للتنمية البشرية، مثل المواظبة على الدراسة والاستشارات الصحية.

http://web.worldbank.org/WBSITE/EXTERNAL/COUNTRIES/LACEXT/EXTLACREGTOPHEANUTPOP/0,,contentMDK:20761755~menuPK:832815~pagePK:2865114~piPK:2865167~theSitePK:832775,00.html

[4])  Gini Coefficient

[5] ) يسمي هذا الحزب المؤتمر الوطني الافريقي  African National Congress

[6] ) حزب العمال Workers’ Party

[7]) Kerala and Tamil Nadu

عن admin

شاهد أيضاً

"سلام ترام" .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين “سلام ترام” قصة …