الرئيسية / العلاقات الدولية / التفاعلات الدولية / “استعادة اليابان”.. تحولات العقيدة العسكرية اليابانية بين قيود الدستور وتهديدات الأمن القومي
"استعادة اليابان".. تحولات العقيدة العسكرية اليابانية بين قيود الدستور وتهديدات الأمن القومي
"استعادة اليابان".. تحولات العقيدة العسكرية اليابانية بين قيود الدستور وتهديدات الأمن القومي

“استعادة اليابان”.. تحولات العقيدة العسكرية اليابانية بين قيود الدستور وتهديدات الأمن القومي

“استعادة اليابان”.. تحولات العقيدة العسكرية اليابانية بين قيود الدستور وتهديدات الأمن القومي

إسلام المنسي

تنص المادة (9) من الدستور الياباني على: “يتطلع الشعب الياباني بصدق وإخلاص إلى السلام العالمي القائم على أسس من العدل والنظام، ويتخلى إلى الأبد عن الحرب كحق سيادي للدولة وعن القيام بأية أعمال عدوان أو تهديد بواسطة العنف كوسيلة لحل النزاعات الدولية، ومن أجل تحقيق الغاية من هذا البند، لا يتم امتلاك قوات برية أو بحرية أو جوية أو غيرها من القوات العسكرية، ولا تعترف الدولة بحقها في خوض الحروب”.

مثلت هذه المادة حتى اليوم قيدا على القدرات العسكرية اليابانية، ففي الوقت الذي تمتلك فيه اليابان أحدث التكنولوجيا لكنها تظل في المجال العسكري، محدودة بحدود دستورية تقيد من حركتها.

فبعد هزيمة طوكيو في الحرب العالمية الثانية واستسلامها، أجبر الجنرال الأمريكي ماك آرثر اليابانيين على تضمين الدستور الذي صدر عام ١٩٤٧، المادة التي تنص على تخلى البلاد إلى الأبد عن الحق في حل الخلافات الدولية بالوسائل العسكرية وتتخلى عن استحداث قوات عسكرية برية وبحرية وجوية. هذه المادة ما تزال سارية المفعول حتى الان، وتمثل عقدة، تحاول الحكومات اليابانية في الآونة الأخيرة التخلص منها بسبب ارتفاع التوترات الإقليمية، فهي تواجه صعوبة في تحقيق التوازن بين تعزيز إمكاناتها الدفاعية واستمرار تحفظها في مسائل السياسة الأمنية.

ومع ذلك، تحايلت اليابان على النص الدستوري بموافقة الحليف الأميركي، فعندما بدأت الحرب الكورية في عام 1950 شاركت اليابان بنشاط في هذه الحرب، داعمة للولايات المتحدة، وفي عام 1954 تشكلت ما تسمى قوات “الدفاع الذاتي”، رغم أن اليابان لم تتعرض لأي هجوم من زمن الملك المغولي قوبلاي خان في عام ١٢٧٠، كما أنها تحت حماية الولايات المتحدة الأمريكية.

في عام ٢٠٠٦ أقر مشروع قانون يمنح قوات الدفاع الذاتية اليابانية قانونيا منزلة وزارة الحربية تتبع لها قوات برية وجوية وبحرية، وبالرغم من أن الدستور يقضي بأن يكون على رأس المؤسسة العسكرية في اليابان شخص مدني لكن قادة الأركان يعينون دائما من العسكريين.

 

ثقافة العسكرة:

هناك قوى في اليابان تعول على أن هذا البلد سيعيد الاعتبار لنفسه من وجهة النظر العسكرية، ومعبد “ياسوكوني” في طوكيو هو معبد الديانة “الشنتوية”، وتعلق فيه لوحات تذكارية تحمل أسماء كبار مجرمي الحرب العالمية الثانية من اليابانيين، مما يدلل على أن اليابانيين على المستوى الفكري لا يحتسبون هؤلاء الأشخاص مجرمين، بل يعتبرونهم أبطالاً، رغم أنهم أشخاص اتهموا في أثناء محاكمة طوكيو بارتكاب جرائم ضد الإنسانية إبان الحرب العالمية الثانية. ويوجد ضمن اراضي المعبد متحف “يوسوكان” حيث تعرض مواد رموز العسكرية اليابانية من غواصات صغيرة وطائرات مقاتلة وحتى خرائط ورسوم الخطط الحربية اليابانية المتعلقة بغزو بلدان شرق آسيا المجاورة.

أصبحت زيارة معبد ياسوكوني في طوكيو طقسًا راسخا للسياسيين المحافظين كجزء من أجندة السياسة الأمنية رغم ما تثيره من انتقادات إقليمية لاسيما من الصين.

منذ تولي شينزو آبي، رئيس الوزراء الحالي، منصبه في 26 ديسمبر 2012، وهو يرفع شعار “استعادة اليابان القوية” اقتصادياً وعسكرياً. فمن أجل تنفيذ هذا الشعار على أرض الواقع، وبمجرد وصوله إلى السلطة، قرر إنشاء مؤسسة جديدة لتعزيز الأمن القومي، على غرار مجلس الأمن القومي الأمريكي، ثم رفع الميزانية العسكرية اليابانية للمرة الأولى منذ 11 عاماً، لتصل إلى 52 مليار دولار في العام المالي 2012/2013، كما رفع عدد قوات الدفاع الذاتي البرية لأول مرة منذ ثماني سنوات.

وعلى الصعيد الميداني، وافق آبي على إجراء تدريبات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة في أوائل عام 2013 على ساحل كاليفورنيا. وقد وصف المراقبون هذه التدريبات بأنها “تاريخية” و”غير مسبوقة”، لأنها ركزت على عمليات غزو الجزر والمناطق الساحلية، في وقت يتصاعد فيه التوتر بين اليابان والصين بشأن الجزر المتنازع عليها إلى ذروته.

وجاءت أهم الإشارات على توجهات اليابانية الأمنية الجديدة في 17 ديسمبر 2013، عندما صدرت استراتيجية جديدة للأمن القومي الياباني، بدلاً من تلك التي كانت قائمة منذ عام 1957. وتشير هذه الاستراتيجية، وهي بمنزلة الأساس المحوري للسياسات الأمنية والخارجية خلال السنوات العشر التالية، إلا أن دوائر صنع القرار اليابانية لم تعد تعتبر روسيا أكبر تهديد لأمنها القومي، وإنما أصبحت تنظر إلى القوة العسكرية الصينية المتنامية (والتهديدات النووية والصاروخية من جانب كوريا الشمالية) باعتبارهما أخطر التهديدات.

ومن أجل تنفيذ هذه الاستراتيجية، التي تتضمن إمكانية المبادرة بشن هجوم استباقي على مصادر التهديد المحتملة للأمن القومي الياباني، على أرض الواقع، وافقت حكومة آبي على تخصيص 24.7 تريليون ين (240 مليار دولار تقريباً) للإنفاق على برنامج الدفاع الياباني في الفترة من عام 2014 إلى عام 2019، وهو ما يمثل زيادة نسبتها 5% مقارنة بالأعوام الخمسة الأخيرة.

منذ 2014، تم رفع الحظر الأمريكي المفروض على صادرات الأسلحة منذ الحرب العالمية الثانية، بهدف تصدير معدات عسكرية لمساعدة اليابان على المشاركة ببرامج مشتركة مع واشنطن لتطوير الأسلحة من أجل تعزيز قدراتها الدفاعية، وفي نفس العام أعلنت الحكومة، قراراً يسمح لقوات الدفاع الذاتي الياباني بممارسة “حق الدفاع الذاتي الجماعي”. تمت إعادة تفسير للمادة التاسعة يقوم على السماح لليابان باستخدام الحد الأدنى الضروري من القوة العسكرية في الخارج، عندما يقع اعتداء مسلح على دولة أجنبية ترتبط معها اليابان بعلاقات وثيقة، وعندما يكون هناك خطرا واضحا يهدد الحقوق الأساسية للشعب الياباني بشكل جوهري. وبذلك سوف يكون في مقدور رئيس الوزراء الياباني استخدام قواته العسكرية إلى جانب حلفائه في ثمانية سيناريوهات منها حماية السفن الأمريكية التي تتعرض لهجوم مسلح، والمشاركة في عمليات إزالة الألغام، واستخدام الدفاع الصاروخي لإسقاط صاروخ باليستي مصوب إلى الولايات المتحدة وإرسال قواتها العسكرية إلى “المناطق الرمادية” التي لم تصل الأوضاع فيها إلى حد اندلاع حرب شاملة، من دون موافقة البرلمان. تم تخفيف القيود المفروضة على الأنشطة التي يُسمح لليابانيين بالقيام بها في إطار عمليات حفظ السلام التي تقودها الأمم المتحدة.

جاءت تلك الخطوات بمباركة من واشنطن، فمع أن الأسطول الأميركي السابع متمركز في مدينة يوكوسوكا، كاناغاوا اليابانية، وتتحمل طوكيو 75% من تكاليفه، أي تنفق قرابة ٧ مليارات دولار على القواعد العسكرية الأمريكية على أرضها، لكن واشنطن خلال الفترة الأخيرة تحاول توسيع انخراط حلفائها بالمنطقة وفي مقدمتهم اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا والفلبين، بضرورة مشاركتها في مهمة حفظ توازن القوى وتحمل جزء أكبر من التكاليف المالية والعسكرية المرتبطة بتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، خاصة مع تراجع المخصصات المالية لوزارة الدفاع الأمريكية وزيادة أنشطة الصين البحرية العدوانية في بحري الصين الشرقي والجنوبي.

وتقيم اليابان تعاونا عسكريا متزايدا مع جيرانها الإقليميين مثل الفلبين وفيتنام بهدف التصدي لقوة الصين الصاعدة.

لكن رغبة اليابان في تطوير قوتها العسكرية وإعادة تسلحها لم يكن فقط استجابة للتهديدات المتزايدة لصواريخ كوريا الشمالية والأنشطة البحرية الصينية، بل جاءت في إطار إعادة تقييم اعتمادها على الولايات المتحدة، فالرئيس “ترامب” ألقى بظلال من الشك على فكرة أن الولايات المتحدة ستظل مهتمة بدور قيادي عالمي مماثل للدور الذي اضطلعت به خلال فترة الحرب الباردة.

وتسعى الصين إلى إحداث تغييرات في الوضع الراهن بينما تبقى دون مستوى الاستفزاز الذي من شأنه استثارة رد فعل قوي من التحالف الأمريكي الياباني، وهو نهج وصفه البعض باستخدام تكتيكات تدريجي متعاقبة تنطوي على تغييرات متزايدة لتتراكم مع مرور الوقت.

ووجهت طوكيو استعداداتها الحربية لردع أي تهديد جوي وبحري يكون مصدره الصين في الجنوب الغربي، بدلا من تركيزها على الدفاع عن جزيرة هوكايدو ضد الغزو البري الروسي الشمالي منذ حقبة الحرب الباردة. وهذا ينطوي على تطوير وضع استراتيجي يركز على الدفاع عن جزر نانسي (ريوكيو)، بما في ذلك جزر سينكاكو وكيوشو، التي تعتبر القاعدة الرئيسية لدعم عمليات قوات الدفاع الذاتي البرية اليابانية في جزر نانسي التي تمتد من جنوب اليابان وحتى شمال شرق تايوان.

وطورت القوات البرية اليابانية مجموعات متخصصة تتعلق بالفضاء الإلكتروني والفضاء الخارجي، وعلى الرغم من إمكانية حدوث صدامات في الفضاء الخارجي، سيظل المصدر الفعلي لأي صراع صيني أمريكي مرتبطا بالأرض، وهو ما ينشأ على الأرجح من التوترات المرتبطة بالوضع في بحر الصين الشرقي أو مضيق تايوان أو بحر الصين الجنوبي.

وأقرت الحكومة اليابانية، في ديسمبر 2018، خطة دفاعية لتعزيز ترسانتها العسكرية تتضمن، للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، التزوّد بحاملتي طائرات. وكانت الحكومات اليابانية السابقة رفضت حتى امتلاك حاملة طائرات مروحية بسبب التزاماتها تلك، لأن من شأن هذه الخطوة أن تفسر على أنها “خطوة عدائية” وتنتهك الدستور الياباني “المسالم”.

وكانت البحرية الصينية زادت مؤخرا من نشاطها في أعالي البحار واشترت حاملة طائرات وأعلنت عن نجاحها في تصنيع أخرى، كما أن التوتر بين الدولتين ازداد حول أحقية ملكية جزر “سينكاكو” في بحر الصين الشرقي، التي تديرها اليابان وتعتبرها الصين جزرا محتلة تابعة لها وتطلق عليها اسم “دياويو”.

كما أكدت وزارة الدفاع اليابانية، في اغسطس 2019، على خطة لتحديث أسطولها الجوي تشمل شراء ست طائرات “إف-35 بي” الأمريكية، ومن المخطط شراء 18 مقاتلة من هذا النوع بحلول 2023، وتكلف المقاتلة الواحدة 130 مليون دولار تقريبا، وتنوي الحكومة اليابانية شراء 42 طائرة خلال السنوات العشر المقبلة، من طراز «إف 35 بي»، بالإضافة إلى 105 طائرات من طراز «إف 35 إيه».

لكن التركيبة الديموغرافية تشكل التحدي الأكبر، فمن المتوقع انخفاض عدد السكان في اليابان من 124 مليونا إلى 88 مليونا بحلول عام 2065، وبالتالي مع وجود احتمال تراجع عدد من يتم تجنيدهم، تقبل قوات الدفاع الذاتي اليابانية مرشحين من فئات عمرية مختلفة؛ فبعدما كانت تشترط في السابق أن يكون عمر المتقدمين أقل من 27 عاما، الآن يمكن لأي شخص أكبر من 18 عاما وحتى 32 عاما الانضمام لصفوفها، ليس هذا فقط، بل إنها الآن تتحول نحو قبول السيدات لشغل صفوفها.

وحاليا، تشغل النساء ما يصل لـ6.1% من نسبة المتطوعين للتجنيد، وتريد اليابان رفع نسبتها إلى 9% بحلول عام 2030.

 

القوات المسلحة اليابانية

اليابان الآن تمتلك أحد أقوى الجيوش في العالم وتحتل المرتبة السادسة من حيث مستوى القوة العسكرية، وتفوق ميزانيتها العسكرية الميزانية العسكرية للدولتين النوويتين روسيا و فرنسا إذ تقترب من ٥٠ مليار دولار، وفضلا على تلك المليارات المخصصة لميزانيتهم الحربية.

تمتلك أكثر من 1500 طائرة من أحدث الطرز، ويبلغ تعداد الجيش نحو 303 ألف مقاتل، وأكثر من الف دبابة و3000 مدرعة، وتملك أسطولا مجهزا بأحدث الغواصات، وتنتشر القواعد العسكرية في أنحاء البلاد المختلفة.

كما تعمل اليابان على زيادة استثماراتها في الحرب الإلكترونية، مع طلب ميزانية الدفاع الأخير الذي يحتوي على عدد من عمليات الاستحواذ والأنشطة البحثية ذات الصلة في هذا المجال. ويشمل أحدث طلب للميزانية من وزارة الدفاع للعام المالي 2020، والذي يبدأ في 1 أبريل المقبل، إلى 50.5 مليار دولار، بزيادة قدرها 1.2 في المئة عن العام السابق والعام الثامن على التوالي من الزيادة.

هذا وتضمنت وثيقة طلب الميزانية التفصيلية الصادرة عن الوزارة تفصيلاً لمخصصات التمويل بالإضافة إلى بنود مشاريع الاستحواذ والبحث المقترحة. ومن بين هذه العناصر عدة مشاريع تتعلق بقدرات الحرب الإلكترونية اليابانية، أو EW، والتي تتراوح بين الحصول على أنظمة التشويش الأرضية بالإضافة إلى تحسين قدرات الEW لأسطولها من طائرات أف-15 إيغل المقاتلة.

وأيضا تضمن طلب الميزانية اقتراحًا للحصول على نظام كامل واحد من نظام الحرب الإلكترونية المحمول (NEWS) الياباني لقوة الدفاع الذاتي اليابانية بتكلفة 97 مليون دولار. هذا ويتم استخدام نظام NEWS لجمع وتحليل وتصنيف إشارات الاستخبارات التابعة للخصم والتشويش عليها في وقت لاحق.

كما طلبت الوزارة 35.8 مليون دولار من أموال البحث والتطوير لنظام حرب إلكتروني أرضي جديد مضاد للطائرات. وسيقوم النظام الذي لم يكشف عن اسمه بعد باكتشاف وتشويش رادارات طائرات العدو التي تقترب من اليابان بهدف تحييدها.

وسيخضع معظم أسطول أف-15 الياباني في نهاية الأمر لعملية تحديث، مما سيحسن أنظمة الحرب الإلكتروني ويوسع قدراتها متعددة المهام لتستطيع التشويش على أنشطة الخصوم في الجو والبر والبحر.

وما يزال تعديل الدستور بالنسبة لرئيس الوزراء في مقدمة الاهتمامات.

عن Islam Elmansy