الرئيسية / النظم السياسية / السياسة المقارنة / تفسيرات النظرية الهيكلية “البنائية” للدولة
تفسيرات النظرية الهيكلية "البنائية" للدولة
تفسيرات النظرية الهيكلية "البنائية" للدولة

تفسيرات النظرية الهيكلية “البنائية” للدولة

تفسيرات النظرية الهيكلية “البنائية” للدولة

سميه متولي السيد

 

Peter B.Evans et al (Eds), “Bringing the State Back In”, (Cambridge: Cambridge University Press, 1985). Intro and Ch.1, Pp 3-  80

 

مرت دراسة علم السياسة بمراحل متعددة اختلفت فيما بينها حول الطريقة التي تنظر كل منها للدولة، ولم تختلف أيًا منها على وجود الدولة في القلب من التحليل السياسي. فمنذ نشأة الدول القومية الحديثة بعد صلح وستفاليا 1698 عُدت الدولة هي صنو الدستور والقانون، ومن ثم اتجهت الدراسات إلى الحديث عن الدولة بمفردات قانونية تاريخية. تبع ذلك النظر للدولة باعتبارها مرادفًا للحكومات وأصبح التركيز منصبا على دورها في وضع وتنفيذ سياسات كفؤة ومعايير تصنيفها ارتبط بقدرتها على تخصيص الموارد وتوزيع المخرجات من قيم وسلع وخدمات. ثم أصبحت دراسة الدولة خلال الستينات والسبعينات مرادفة للنظام السياسي كما رسم ملامحه ديفيد إيستون وأصبح استقرار هذا النظام وبقاءه هدفا ترنو إليه كتابات الباحثين ودراساتهم. أما في هذا الكتاب فتنادي Theda Skocpol بعودة الدولة إلى بؤرة التركيز باعتبارها إطارًا جامعًا لعدد من المؤسسات وفاعلًا يتوسط العلاقة بين الجماعات المختلفة، ومن هنا يمكن تفسير عنوان الكتاب الذي ينادي “بعودة الدولة مجددًا”.

 

إستقلال الدولة State Autonomy

وإن كان تفسير Theda Skocpol  هو تفسير دولاتي بالأساس، إلا أنه يضع ضوابط لضمان نجاعة علاقة التفاعل في إتجاه ديمقراطي (وإن لم تذكر لفظة الديمقراطية بشكل مباشر) وحسن إدارة الصراع بين الجماعات، وهو ما رهنته المؤلفة بأمرين: أولًا: استقلال الدولة Autonomy، والثاني: قدرة الدولة على الإضطلاع بمهامها معرفة بما يتوافر لديها من موارد State Capacity. ويعني استقلال الدولة أن تصبح سياساتها مستقلة عن الجماعات المختلفة ومصالحها المتعارضة وألا تكون سياساتها مرآة عاكسة لها لأن ذلك من شأنه أن يفضي إلى التحيز ضد أو لصالح جماعة بعينها على حساب الأخرى؛ وإنما تعمل على إدارة هذه المصالح بما يضمن تمثيل الجماعات ويحقق قدرا من الرضاء لدى مختلف القوى المتنافسة. وهنا تظهر الدولة كفاعل سياسي منوظ بها إتخاذ عدد من القرارات ترتبط بتصنيف المصالح وتحديد معايير تغليب إحداها على الأخرى، وتخصيص الموارد لكل منها.

غير أن مراجعة الأدبيات المكثفة التي اعتمدت عليها الكاتبة Theda Skocpol كشفت عن
أن نشأة النظام (ومن ثم طبيعته) قد ترتبط بمعنى ودلالة مفهوم “الإستقلال”، فالأنظمة التي نشأت في أعقاب إنقلاب عسكري وأصبحت ديكتاتورية عسكرية يستدل على استقلالها من إستقلال النخبة العسكرية وفق المعايير المهنية الحديثة في المجال العسكري. وهذا بدوره يعني، إستقلال عملية تجنيد وتعبئة أفراد الجيش من الإرتباط بجماعات إثنية أو اقتصادية معينة، وإستقلال النخبة الحاكمة من ارتباطها بمصالح فئة إقتصادية بعينها (خاصة طبقة الرأسماليين). اما الأنظمة التي ظهرت نتيجة تطور تاريخي للقوى السياسية والاجتماعية والتاريخية، فإن عملية صنع القرار والصيغة النهائية التي تخرج بها السياسات هي التي يستدل منها على استقلال الدولة. ولا ريب أن عملية صنع السياسات المنوطة بالدولة ارتبطت ارتباطا وثيقا بدرجة استقلال الجهاز البيروقراطي واللأنشطة التي ينخرط فيها المديرون وأعضاء الجهاز الإداري في تحديد وترتيب المشكلات المجتمعية. وفي هذا السياق، اهتمت Theda ببيان كيف أن الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن لها تاريخ قبل الدولة التي هي عليه، ولم يكن لديها جهاز بيروقراطي كما كان لدى الدول الأخرى؛ وهو ما يجعل عملية تتبع سياسة معينة صعبة بالنسبة لبعض الباحثين. وإتصالًا بذبك، فقد رشحت المؤلفة أن تكون إستراتيجية الباحث هو تتبع سياسة قطاع معين issue area/ sector وهو ما فعله Stephan Krasner في دراسته لقطاع الدفاع الذي تتقاطع فيه المصلحة القومية مع المصالح الاقتصادية وتتفاعل الدولة فيها مع شركات اقتصادية ذات مصالح كوربوراتية. كما اهتمت ببيان مفهوم “الأجزاء المعزولة من الدولة” ووكيف أنه كان مفهوما محوريا في تحليل Krasner الذي تعامل معه من منطلق وجود أو عدم وجود تأثيرات برلمانية على أجهزة السلطة التنفيذية.

لم يكن نشأة وطبيعة النظام السياسي هو المعيار الوحيد الذي استخدمته المؤلفة لتميز دلالات مفهوم “الاستقلال”، وإنما أضافت إليه عاملين: قوة الدولة في إدارة مجال معين (حيث يمكن أن يظهر استقلال الدولة في ظل ضعف عام أصاب الدولة والمجتمع مثلما حدث في السياسات الزراعية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية)، و الفترة الزمنية (حيث يمكن أن تتسم الدولة بالاستقلال في فترة معينة تجاه موضوع/ مجال بعينه، وتضعف في أوقات أخرى). ولأن  مؤسسات الدولة في حالة تفاعل مستمر مع الجماعات المختلفة وفي حالة تغير مستمر، فإن الفرص الهيكلية المتاحة للدولة لإتخاذ سياسات مستقلة تتغير باستمرار.

ويرتبط بقدرة الدولة على صياغة سياسات وعمل مواءمات (لا تجميع مصالح)، ظهورها كفاعل ذو قدرة أعلى ومنطق أسمى في صنع وإتخاذ القرار. وعليه، كانت النقطة التي اشتبكت معها الباحثة: هل حقًا تتمتع الدولة بعقلانية أكثر مما عداها من جماعات؟ وهنا أيضا لا توجد إجابة قاطعة، حيث قد تتمكن الدولة من صنع قرارات رشيدة وقد تخطأ في تقدير حساباتها في وقت آخر. إضافة إلى ذلك، فإن المبالغة في أو استمرار ممارسة الدولة أدوارها بقدر من الاستقلال قد يؤدي إلى تغول مسئولي الدولة وظهور الدولة ومسئوليها كجماعة مصالح لها منافع ضيقة وتنحط إلى مصاف الجماعات التي من المفترض أنها تنظم العلاقات فيما بينها.

ولا يجب أن ننظر للدولة كفاعل واحد أو كتلة صماء، وإنما كنوع من الترتيبات التنظيمية التي تلعب فيها كل مؤسسة من مؤسسات الدولة دورًا محددًا.

 

قدرات الدولة State Capacities

أما المعيار الثاني الذي يرتبط بقدرة الدولة على تحقيق أهدافها التي حددتها “المصلحة العامة”، فهو رهن بقدرات الدولة وإمكاناتها، وهي ما يمكن تعديدها على مستوى توافر الكفاءات البشرية والموارد المالية، والتقنيات الحديثة، والمكانة الدولية التي تتمتع بها الدولة. وهنا  تؤكد المؤلفة على أن الموارد المالية ربما تكون العامل الأكثر مراوغة في التحليل لأنه يرتبط بالعوامل الهيكلية التي ترتبط بتاريخ الدولة، وكذلك بالقوةالنسبية التي تتمتع بها الدولة في العلاقة مع الطبقات الأخرى؛ كما تثار عددً من الأسئلة ذات الصلة بقدرة الدولة على جمع الضرائب، وطبيعة القطاعات الاقتصادية التي تقوم عليها قوة الدولة، وأخيرًا وضع الدولة الجيوسياسي وهل يعد أمرا ممكنا أم معيقا لها في التحصل على موارد اقتصادية وإدارتها؟ وما إذا كانت الدولة قادرة على تحويل مسار تدفقات رأس المال لبعض الأهداف دون الأخرى وهو ما خلصت إليه ورقة كل من Ira Katznelson and Kenneth Prewitt إلى تعاظم قدرة الدولة الأمريكية على القيام بعمليات خارج حدودها وتضاءل قدراتها الداخلية على تخطيط البرامج التنموية وإعادة توزيع تكلفتها على الجماعات الأخرى. والخلاصة ذاتها وصل إليها كل من Susan and Norman Fainstein عند مقارنتهم بين الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوربية وأكدوا على أن الأولى تفتقر إلى أدوات السياسة العامة مثل: أجهزة التخطيط المركزية، ومنابع رأس المال الاستثماري الذي تسيطر عليه الدولة وأخيرا برامج الرفاهة التي تدار على مستوى قومي.

ويذهب الفصل على أهمية إنتهاج منهجا علائقيا Relational في تحليل قدرات الدولة بالمقارنة مع فاعلين آخرين من غير الدول أو عابرين للحدود الوطنية للدولة؛ وهنا ضربت سكوكبول مثالين لنموذجين في تحليل العلاقات. النموذج الأول هو ما فعله Alfred Stepan عندما حلل قدرة دولة بيرو وقيادتها العسكرية على التعامل مع الشركات العابرة للحدود الوطنية في قطاعات السكر والتصنيع والبترول، وتمحور بناء تحليله حول سمات النظام: “درجة التزامه بأهداف سياسية واضحة، وقدراته التكنولوجية، وإمكاناته الرقابية، ومصادر الاستثمار التي تسيطر عليها الدولة، ووضع الدولة الدولي” (ص19). أما النموذج الثاني فهو ذلك الذي قدمته Ira Katznelson والذي اهتمت فيه بمفهوم “الشبكات” لدراسة العلاقة بين المجتمع والدولة؛ وهو ما رأت المؤلفة نجاعته في وضع تصور لبعض الاستراتيجات أو المسارات البديلة خاصة في السياسات الاقتصادية.

وتتجسد قدرة الدولة في تحقيق أهدافها من خلال سياسات عامة تمثل المساحات التي قررت الدولة التدخل فيها، والتي يؤثر توقيتها وسماتها على تعريف ومحتوى المصلحة العامة. وكانت سياسات الدولة التدخلية خاصة في مجالات إعادة توزيع الدخل هي المدخل للجزء الأول من الكتاب والذي حاول فيه المحررون الاشتباك مع مقولة مدرسة التحديث الرئيسية والتي تقوم على العلاقة بين التغيير السياسي والتنمية الاقتصادية. والطرح الذي تقدمه المؤلفة في هذا الفصل يقوم على أن “التوازن بين القوى السياسية والذي تلعب فيه الدولة دور مستقل عن الجماعات هو ما يمكنها من إتباع سياسات إعادة توزيع الدخل المسئولة عن الدفع بعجلة التنمية الاقتصادية”. ومن ثم، يمكن القول أن هذا الطرح يبدأ بداية دولاتية ويعرج على المدرسة الهيكلية في الربط بين مواقع الجماعات ومساحات الفعل السياسي والاقتصادي المتاحة ليرسم ملامح التحليل الماركسي الجديد الذي يسيطر على لغة المؤلف بأكمله.

أما الفصل الثاني، فقد انطلق فيه كل من Dietrich Rueschemeyer, Peter B. Evans – بناءً على مقدمة الجزء الأول- من مسلمة مفادها أن تدخل الدولة “الفعال” أساسًا ركينًا في تحقيق التنمية الاقتصادية الرأسمالية. ويشير مسح الأدبيات إلى وجود منطلقين رئيسيين يقوم عليهما الحاجة لتدخل الدولة في مرحلة بناء وتدشين المجتمع والاقتصاد الرأسماليين: الأول: وضع قواعد التبادل في السوق الاقتصادي وفرضها، والثاني: الإطاحة بالنخب التي كانت في موضع المسيطر في المجتمع ما قبل الرأسمالي. أما في مرحلة الرأسماليات الناضجة ترتبط الحاجة إلى الدولة وتدخلها بالرغبة في توجيه تراكم رأس المال والثروة إلى ما يخدم الصالح العام وضمان نمط توزيع متوازن له على قطاعات الشعب المختلفة. ويرى المؤلفان أن الوضع في دول العالم الثالث أكثر تركيبا وتعقيدًا حيث تتواجد النخب الصناعية الرأسمالية جنبا إلى جنب مع نخب النظام الزراعي (ما قبل الرأسمالي)، بحيث تسيطر على الأولى نزعات تراكم الثروة وتعظيم المكاسب لا الاحتكار الصناعي كما في الدول الرأسمالية، وتقيم علاقات عبر الحدود لها أولوية على علاقاتها المحلية. أما النخب الزراعية، فهي أيضا تسعى إلى تراكم رأس المال شأنها في ذلك شأن النخب الصناعية، لكن يزيد عليها السمات الأبوية السلطوية. ومن ثم فإن الحاجة لوجود دولة قوية ومستقلة يبدو متعاظما وصعبا في دول العالم الثالث بحسب تحليل المؤلفين. وبغض النظر عن الفارق بين المجتمعات الرأسمالية الناضجة والناشئة أو بين المجتمعات الأوربية ونظيراتها في دول العالم الثالث، فإن المنطق الحاكم لوجود الدولة هو عدم رشادة تراكم الثروة وأدوات الإنتاج؛ وهو ما قد يتجلى في صور مختلفة وشتى وفق طبيعة المجتمع المشار إليه.

ونظرا لأن التحليل يعتمد على مقولات الماركسية الجديدة، فهو يرى في الدولة آداة للهيمنة لا محلة؛ ويذهب إلى القول بأن نمط العلاقة بين الدولة ومؤسساتها وبين الطبقات الاجتماعية هي التي من شأنها أن تكسب “تعاقد الهيمنة” سمته المميزة. ويقوم تحليل قدرات الدولة على ثلاثة عناصر أساسية: هيكلة جهاز الدولة، وتنوع العلاقات بين الدولة والطبقات المسيطرة، وفعالية دور الدولة في التحولات الاقتصادية. وفي هذا الصدد، يلعب الجهاز البيروقراطي المتماسك دورًا محوريا فيما سبق الاشارة إليه باعتباره “هيكلة جهاز الدولة”، وهو في ذلك يعتمد على المدلول الفيبري للبيروقراطية والتي تتعلق بهيكل العلاقات وبناء المؤسسات. غير أن قوة الجهاز البيروقراطي قد تكون إشكالية من زاويتين: الأولى تتعلق بتغول قوة الجهاز البيروقراطي وتحوله إلى أحد الجماعات المصلحية التي تنافس على اهتمام وموارد الدولة، والثانية تتعلق بحقيقة أن العلاقات غير الرسمية بين أجهزة الدولة قد تلعب دورًا محددًا في عملية صنع السياسة العامة بعيدًا عن الأروقة الرسمية. أما التنوع في العلاقات بين الدولة والطبقات المسيطرة والذي يتمتع بأهمية قصوى على مستوى تعريف المصلحة العامة وتنفيذها. غير أن الاستقلال النسبي المنشود relative autonomy غير ممكن ما لم تتمتع الدولة باستقلال مواردها المالية وهو ما يرتبط بتدخل الدولة عن طريق السياسات الضريبية لضبط نمط توزيع الدخول والثروات. ومن ناحية أخرى، يرتبط ذلك بامتلاك الدولة لبعض الشركات والصناعات المستقلة بحيث تظهر كفاعل اقتصادي كوربوراتي Corporate Actor يجعل لها مصلحة في عملية ضبط أسعار السلع والخدمات ويحقق لها الاستقلال بعيدا عن سيطرة الجماعات الاقتصادية الأكثر حظا وغنى.

أما عن فعالية دور الدولة في عمليات التحول الاقتصادي والاجتماعي فيرتبط بدرجة المركزية واللامركزية التي تعتمدها الدولة في إدارة علاقتها مع الوحدات الفرعية أو الوحدات الأصغر. وفي ذلك، يرى المؤلفان أن المركزية يجب أن تتم على مستوى صنع السياسات وتوجهاتها العامة في حين يجب أن تتمتع الوحدات الفرعية للدولة بقدر من الاستقلال واللامركزية في عملية إدارة الموارد المالية والإجراءات التنفيذية.

غير أن نقطة التوازن التي تصبح فيها الدولة فوق الجماعات المتنافسة على تعريف “المصلحة العامة” والتي تصل قوتها إلى الدرجة التي تنأى بها عن تأثير الجماعات الاقتصادية الأقوي صعبة التحقق بشكل عام؛ ذلك أن الجماعات الاقتصادية الأقوى عادة ما تسيطر على عملية صنع السياسة العامة بما يحقق وفورات اقتصادية لها ويعيد إنتاج الهياكل والعمليات التي تديم بقاءها في مقابل الجماعات الأخرى. بيد أن الخبرة التاريخية في دول أمريكا اللاتينية تشير إلى أن الدولة قد تستفيد من استقطاب الأوضاع بين الطبقات لتتخلص من ربقة سيطرة رأس المال وتحرر سلطتها، وفي أسوأ الحالات- عندما يحدث ذلك- تعود الدولة مغولة في القوة بحيث تقمع مطالب الطبقات الأخرى.

عن admin

شاهد أيضاً

"سلام ترام" .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين “سلام ترام” قصة …