الرئيسية / النظم السياسية / التحول الديمقراطي / دراما “الانتقال”: العوامل الهيكلية لعدم استقرار أنظمة ما بعد “الربيع العربي” أ.د. على الدين هلال
دراما "الانتقال" العوامل الهيكلية لعدم استقرار أنظمة ما بعد "الربيع العربي" أ.د. على الدين هلال
دراما "الانتقال" العوامل الهيكلية لعدم استقرار أنظمة ما بعد "الربيع العربي" http://arabprf.com/ أ.د. على الدين هلال

دراما “الانتقال”: العوامل الهيكلية لعدم استقرار أنظمة ما بعد “الربيع العربي” أ.د. على الدين هلال

 دراما “الانتقال”

العوامل الهيكلية لعدم استقرار أنظمة ما بعد “الربيع العربي


 أ.د. على الدين هلال

 

http://arabprf.com/ دؤاما الانتقال
http://arabprf.com/ دؤاما الانتقال

 

ربما يبدو موضوع هذا المقال واضحا ويسير الفهم، لأن عدم الاستقرار هو سمة ضرورية ولازمة لمرحلة ما بعد الثورات والانتفاضات الشعبية، بما يصاحبها من انهيار لنظم سياسية، وإسقاط لنخب حاكمة، فإنها تقود بالضرورة إلي مرحلة من الاضطراب وعدم الاستقرار.

ويتفق الآباء المؤسسون لدراسة الثورة في العلوم الاجتماعية مثل كرين برينتون، وحنا أرندت وتيدا سكوكبول، وأريك هوبزباوم ، وماركس ولينن (5) علي أن الثورة هي عملية هدم وبناء، تفكيك وإعادة تصميم. فهناك هدم وتفكيك للبناء السياسي والاجتماعي القائم، وبناء وإعادة تصميم له. ويتفقون ثانيا علي وجود علاقة جدلية بين الثورة والانتفاضة من ناحية، والتطور أو الإصلاح من ناحية أخري، وأن حدوث الثورة أو الانتفاضة هو دليل علي فشل عملية التطور والإصلاح من داخل مؤسسات النظام القائم، وانسداد قنوات الاتصال السياسي فيها.

ففي الظروف العادية، تتم العملية السياسية في إطار مؤسسات النظام، مادامت تلك المؤسسات تستطيع استيعاب القوي الفاعلة في المجتمع، وتمثيل مصالحها، والتعبير عن تطلعاتها. أما عندما تفشل المؤسسات في القيام بذلك، فإن القوي والمصالح غير الممثلة فيها تضطر إلي العمل خارجها بطرق متدرجة، تبدأ بالمظاهرات والاعتصامات التي تعتمد علي التعبئة الجماعية Collective mobilization، والفعل المباشر Direct Action، وصولا إلي الانتفاضة أو الثورة. ويتفقون ثالثا علي أن ظاهرة عدم الاستقرار تزداد في الحالات التي ينتشر فيها استخدام العنف المسلح.

فالثورة أو الانتفاضة هي عمل قسري إكراهي، ولا توجد نخبة حاكمة تتنازل عن السلطة بمحض إرادتها أو طواعية، بل هي تقوم بذلك تحت وطأة الضغوط المادية والمعنوية للحركات الشعبية التي لا يمكنها هزيمتها، كما حدث في تونس ومصر، أو بسبب الاستخدام الواسع للعنف المسلح المحلي والخارجي، كما حدث في ليبيا.

وأغلب الدول التي شهدت ثورات ديمقراطية من سبعينيات القرن الماضي مرت بمرحلة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي التي اتسمت بعدة سمات، أبرزها: انتشار حالة من السيولة وعدم اليقين، ووجود مشاركة سياسية واجتماعية واسعة من الجماعات والأفراد، والتغيير في أنماط التحالفات السياسية، وسعي القوي الاجتماعية إلي تحسين أوضاعها، وزيادة فرصها ونفوذها وتأثيرها، وتصاعد المطالب المكبوتة اقتصاديا واجتماعيا، للدرجة التي دفعت البعض إلي أن يطلق علي هذه المرحلة دراما عملية الانتقال. كما تتسم هذه المرحلة بظهور فجوة بين الآمال والتوقعات من جهة، والواقع والممارسة من جهة أخري. فمع انهيار النظام القديم، تتصاعد ثورة التوقعات، وتنشأ آمال عريضة في تحقيق العدالة الاجتماعية، وتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين، وتصور إمكانية إنجاز ذلك بسرعة، علي أساس أن النظام الذي تسبب في حرمانهم قد سقط.

قد تقوم بعض القوي الثورية بتنمية هذه الآمال والتوقعات لكسب التأييد، ولتأكيد شرعية الثورة، دون التنبه إلي أن عدم تحقيق التوقعات في وقت مناسب يؤدي إلي مشاعر سلبية لدي الناس.

يحدث كل ذلك في سياق السرعة والاضطراب والارتباك، فتزداد سرعة الزمن الاجتماعي، بحيث يصبح الوقت من الموارد الشحيحة. وتحت وطأة ضغوط الرغبة في التغيير السريع، تصدر قرارات متسرعة، وقد تكون خاطئة، وتترتب عليها نتائج غير مقصودة، ولم يتم التخطيط أو الاستعداد لها.

ظاهرة عدم الاستقرار إذن هي صفة لصيقة ومصاحبة لفترات ما بعد الثورات والانتفاضات الشعبية، ولكن هذه الظاهرة تأخذ أشكالا مختلفة من حيث المظهر، والحدة، والاستمرار من دولة لأخري، وذلك وفقا لتكوينها التاريخي – الاجتماعي، وشكل النظام التسلطي الذي سقط، ونوع القوي والحركات الاجتماعية التي قادت الانتفاضة أو الثورة، وأولويات إدارة عملية الانتقال.

تطرح هذه الورقة عددا من العناصر أو العوامل الهيكلية التي ربما تفسر ظاهرة عدم الاستقرار في الحالة العربية، مع الإشارة إلي أن هذه العوامل والعناصر ليست مستقلة أو منعزلة عن بعضها بعضا، ولكنها تتداخل وتتفاعل لخلق المشهد الراهن.

تتعدد العوامل وتتكاثر، فيمكن التفكير مثلا في دور تراث النظم التسلطية علي استقرار النظام الجديد. فأحد العناصر الأساسية المؤثرة في مرحلة الانتقال هو الإنجاز الاقتصادي – الاجتماعي للتسلطية، فشتان مثلا بين حالتي إسبانيا ورومانيا. ففي إسبانيا، خلف نظام فرانكو مجتمعا صناعيا، قوامه طبقه وسطي عريضة، وانتشار واسع للتعليم، ومجموعة من المؤسسات ذات التقاليد المهنية والاجتماعية الراسخة، كالجهاز البيروقراطي والقضائي. ومثلت هذه العناصر البنية التحتية المسهلة للانتقال الديمقراطي. وبالعكس، اتسمت التسلطية في رومانيا بطابع شخصي، وضعف للمؤسسات السياسية، وتدهور لمعدل التنمية الاقتصادية، وترتب علي ذلك أن أصبح الانتقال أكثر مشقة وصعوبة.

يستند هذا الرأي إلي أن هناك علاقة بين الديمقراطية والتحديث الاقتصادي والاجتماعي (نمو اقتصادي – تعليم – حضر.)، وأن غياب هذه العناصر يجعل عملية الانتقال أكثر صعوبة، أو يجعلها عملية شكلية زائفة، يتقلص فيها معني الديمقراطية لتصبح صراعا بين نخب فوقية وحسب.

وقد يثار كعامل آخر العلاقة بين الثورة والسلطة، والمفارقة الغريبة التي شهدتها البلاد العربية في هذا الشأن. فدرس التاريخ عموما هو أن من يقودون النضال الثوري هم الذين يتولون السلطة لإحداث التغيير وفقا لأهدافهم. في بلادنا، لم يحدث ذلك بسبب طبيعة الأداة الثورية، وهي الحركات الاجتماعية، والائتلافات الشبابية، وسمات القائمين عليها.

لقد اندلعت الانتفاضات العربية من خلال عشرات، بل ومئات التجمعات والائتلافات، لتحقيق هدف واحد، هو إسقاط النظام القائم. وفيما عدا هذا الهدف، لم يكن هناك اتفاق حول شكل النظام الجديد سوي شعارات عامة، يمكن أن يفسرها كل اتجاه سياسي حسب فكره، ولم يكن هناك تنظيم، أو حتي ائتلاف وطني عريض. أضف إلي ذلك أن الشباب الذين تصدروا المشهد لم تكن لديهم خبرة الحكم وإدارة الدولة، وانتهي الأمر إلي موقف ملتبس للغاية: إنجاز ثوري كبير ألهب مشاعر الناس، وكسب احترام العالم، ولكن صانعيه كانوا قوة احتجاجية أكثر من كونهم نخبة حكم. ودعم من هذا الالتباس عجز تلك الحركات الشبابية عن الائتلاف فيما بينها، أو إعادة تنظيم نفسها في شكل أحزاب أو جمعيات مدنية.

ترتب علي ذلك أن إدارة المرحلة الانتقالية انتقلت إلي أيد أخري كالجيش وعناصر من النخبة السياسية المعارضة القديمة التي لم تكن دائما قادرة علي التعبير عن أهداف الثورة وتطلعاتها.

ويمكن لفريق ثالث أن يقترح عامل استباحة سيادة الدولة كمصدر لعدم الاستقرار. فمع الاعتراف بأن الثورة أو الانتفاضة الشعبية هي عمل داخلي بالأساس، وأنها تعود إلي عوامل مجتمعية، فإن نشوبها وتطورها يتأثران بعوامل خارجية. ومن الثابت أن هذه الأطراف الخارجية لعبت دورا حاسما في الحالة الليبية، وبدرجة أقل في اليمن، تليه مصر وتونس. فمن الطبيعي مع حدوث أزمة وبوادر سقوط نظام أن تسارع الأجهزة السياسية والاستخباراتية في الدول ذات المصلحة إلي التدخل سياسيا وإعلاميا وماليا، وإن تطلب الأمر عسكريا، وذلك لضمان مصالحها، والتأكد من أن الأمور تسير في هذا الاتجاه.

هذه العوامل وربما غيرها لها دور يتعين بحثه وتتبعه. ولكن لكثرة هذه العوامل، وجدت من الأفضل التركيز علي ثلاثة منها تتعلق ببنية النظام السياسي وتفاعلاته، وذلك علي النحو التالي:

أو لا – صراعات الهوية والتوافق الوطني:

يرتبط نجاح إدارة عملية الانتقال، والتقليل من مصادر عدم الاستقرار بأمرين رئيسيين هما: استقرار مناخ الجبهة أو الائتلاف الوطني، واستقرار مفهوم الدولة وسماتها.

بخصوص استمرار ثقافة الجبهة أو الائتلاف الوطني، فإنه يشير إلي نجاح القوي السياسية الثورية في الحفاظ علي وحدة التيار الرئيسي للحركة السياسية، والاتفاق علي الأولويات بما يسمح باستكمال مهام الانتقال إلي الديمقراطية، أي أن الاختلافات حول شكل النظام الجديد وتوزيع السلطة لا ينبغي أن تهدد مسار عملية الانتقال.

ومع أن الديمقراطية تتضمن التنافس بين الأحزاب علي ثقة الناخبين في الانتخابات، فإن الوجه الآخر لها هو التعاون والتنسيق. ويتطلب ذلك بناء التحالفات والائتلافات، وأن يشعر كل طرف بالتعاضد والتآزر مع الأطراف الأخري فيما يتصل بهدف بناء النظام الديمقراطي. وتحقق ذلك في الخبرات الدولية الناجحة بالاتفاق من البداية علي طريقة اتخاذ القرار داخل الائتلاف، وأن يتحقق الاتفاق من خلال التشاور والنقاش دون اللجوء للتصويت، وأن يدرك كل طرف الحدود والقيود الموجودة علي الأطراف الأخري، وتحديد المجالات محل الاتفاق المشترك وتلك التي لا تزال محل اختلاف، والعمل علي حل الخلافات داخل الائتلافات، وعدم الخروج به إلي أدوات الإعلام، والتعبير عن الخلاف بدون تجريح أو اتهام، وبشكل يسمح بالتعاون المستقبلي بين الأطراف. وإضافة إلي هذه الأمور التنظيمية والاجتماعية، فإن استمرار التوافق أو الائتلاف يتطلب الاتفاق علي المبادئ الأساسية لمفهوم الديمقراطية والنظام الديمقراطي الجديد، وهو ما لم يتوافر في الدول العربية بسبب وجود أحزاب أيديولوجية دينية لديها تصورات أخري في هذا الشأن.

أما فيما يتعلق باستقرار مفهوم الدولة والتسليم بهويتها وحدودها، فيشير إلي أنه يزيد من فرص الانتقال الناجح، والقبول بالحدود الجغرافية للدولة، وغلبة مشاعر الانتماء الوطني لشعبها، والتوافق حول مكونات الجماعة السياسية ومفهوم الهوية الوطنية. فاستقرار سمة الدولة Stateness يقصر الخلافات – مهما تكن حدتها – علي شكل نظام الحكم، ومضمون السياسة العامة. أما عندما تكون أسس الدولة ذاتها محل شك، وتكون هناك مطالبات بإعادة النظر فيها، فإن عملية الانتقال تغدو أكثر صعوبة.

فإذا كانت الديمقراطية تقوم علي مبدأ سيادة الشعب، فإنه من الضروري أن تكون واضحة حدود هذا الشعب، وما هي الأطراف التي يشملها في إطار الهوية المشتركة والانتماء لدولة ما. وبالمنطق نفسه، إذا كانت الديمقراطية تضمن الحقوق السياسية والاجتماعية للمواطنين، فإنه يكون من الضروري الاتفاق علي من هم هؤلاء المواطنون الذين يتمتعون بالحقوق. وفي هذا المجال، طرحت الأحزاب الدينية أفكارا عن الأممية الإسلامية، والخلافة، والهوية، تناهض المفاهيم المستقرة للدولة والهوية.

وأدي ذلك إلي تحريك العناصر المدعمة لتلك التوجهات في الثقافة السياسية لدي الجماهير Mass Political Culture.  ونحن لا نتفق مع الحكم علي بعض الثقافات بأنها ديمقراطية أو تسلطية، بل نعتقد أن كل الثقافات تتضمن خليطا من هذه القيم، وأن النخب السياسية تسعي لتبرير مواقفها، وإيجاد سند شعبي لها من خلال تعبئة بعض القيم دون غيرها.

فالثقافة السياسية هي حلقة الوصل المعنوية بين الفرد والنظام السياسي. وينهض النظام الديمقراطي علي عدد من القيم مثل المشاركة في الأمور العامة، والارتباط بالجماعة الوطنية، واحترام أركان الدولة الحديثة، والمواطنة المشاركة Participant Citizen ship التي ربطها بعض الباحثين بالتعليم، والتحضر، والتعرض لوسائل الإعلام والتعبئة الاجتماعية، وإن كان من الضروري الإشارة إلي أن تلك التوجهات المدنية Civic Orientation ليست غائبة في الثقافة التقليدية، وأنه يمكن البناء علي بعض عناصرها لدعم المواطنة المشاركة، وهذا ما قامت به النخب التحديثية علي مدي عقود. من ناحية أخري، قامت نخب الإسلام السياسي التي وصلت للحكم، أو أصبحت مؤثرة في المزاج العام في المجتمع، بإحياء جانب آخر من القيم التقليدية، مثل الخلط بين الدين والسياسة، وبين العمل الدعوي والنشاط الحزبي، والسعي لإكساب قادتهم السياسيين نوعا من الهيبة الدينية، بحيث أصبح نقدهم والاختلاف معهم افتئاتا وتجاوزا علي رمز ديني. ورافق ذلك التحفظ علي مفهوم المواطنة، وإثارة النعرات الدينية والطائفية، والتشكيك في عقيدة المخالفين لهم في الرأي السياسي.

في هذا السياق، يصبح من الصعوبة بمكان الوصول إلي اتفاق عام Consensus أو رضا عام Consent بين الفاعلين السياسيين حول قواعد النظام الجديد. ويقصد بذلك قبول القوي الرئيسية بقواعد العملية الديمقراطية، وعدم وجود إحداها تعمل لتحقيق أهدافها خارجها، أو بغير أساليبها وأدواتها، وأن يقتنع بها الجميع: الحكومة والمعارضة.

ويميز جيوفاني سارتوري في كتابه العمدة عن النظرية الديمقراطية بين ثلاثة مستويات للاتفاق العام، وهي:

× الاتفاق حول القيم العليا Ultimate Value للنظام السياسي، والمتمثلة في الدستور.

× الاتفاق حول قواعد الممارسة السياسية وإجراءاتها، والمتمثلة في القوانين الأساسية لنظام الحكم.

× الاتفاق حول السياسات العامة.

يري سارتوري أنه بينما يكون من الضروري الاتفاق علي المستويين الأوليين، فإن الاختلاف حول المستوي الثالث هو أمر ضروري، فهو أساس الديمقراطية، ومبرر تعدد الأحزاب فيها. وكلما زادت الانقسامات الأيديولوجية والاختلافات بين الفاعلين حول القيم العليا، كان ذلك مصدرا لعدم الاستقرار.

وبالعكس، كلما ضاقت المسافة الأيديولوجية Ideological Distance بين الفاعلين، وزادت مساحة الاعتدال، اتسعت فرصة الوصول إلي تفاهمات وحلول.

وبالمنطق نفسه، فإن الاتفاق حول قواعد وإجراءات الممارسة الديمقراطية هو أمر مهم وضروري. فإن رآها الفاعلون الرئيسيون عادلة ومنصفة، وتتيح فرصة متكافئة للجميع للكسب والخسارة بحيث لا تقصي أحد الأطراف، ولا تعطي ميزة لآخر، فإنها تعد مصدرا للاستقرار، وعاملا داعما للانتقال الديمقراطي.

مثل صعود تيارات الإسلام السياسي وتوليها الحكم عقبة واضحة أمام بناء ائتلاف وطني مستقر يضع الأساس لنظام ديمقراطي جديد، وكان أقصي المتاح هو بناء ائتلافات وتفاهمات حزبية لغرض خوض الانتخابات، كما حدث في مصر، أو لتشكيل الوزارة، كما في تونس. واتسمت هذه الائتلافات بالتوتر، نتيجة التناقضات المبدئية حول مفهوم الديمقراطية والمواطنة والدولة، لأن تديين السياسة والمجال العام، واستخدام المقدس في الخلاف السياسي وفرا لتلك القوي قدرة هائلة علي التعبئة، وأعطيا لآرائها نوعا من العصمة السياسية، واحتكار الحقيقة، بينما أضعفا من قدرة الأحزاب المدنية علي مزاحمتها.

وفي الواقع، قام الإسلام السياسي في الحكم بممارسات تشي بالتوجه نحو إعادة تشييد البنية الاحتكارية للنظم الاستبدادية، كما ظهر في مشروعات القوانين الخاصة بالمجتمع المدني، وحق التظاهر، وقانون الانتخابات، وتقسيم الدوائر الانتخابية، والعزل السياسي، وطريقة تكوين الجمعية التأسيسية، ومناقشات وضع الدستور. وأدت هذه الممارسات إلي التشكك في التزام تلك القوي بالديمقراطية، وعدم الثقة فيما أفرزته هذه النظم من قوانين وإجراءات.

وفي الواقع أيضا، مارست تلك القوي العنف المادي لتحقيق أهدافها السياسية، كما فعلت جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة في مصر وحلفاؤها الأكثر قربا من الإرهاب، أو كما قامت تنظيمات متشددة بعمليات اغتيال في ليبيا، وتونس، واليمن. وفي سياق الصراع بين الإسلاميين وخصومهم، أدت تلك الممارسات إلي انهيار مبدأ سيادة القانون، بل وإلي غياب الدولة ذاتها بمضمونها القانوني والاجتماعي والأخلاقي.

وزاد من خطورة هذه الصراعات أنها لا تتم داخل المؤسسات، ولكن عبر وسائل الإعلام، مما يؤدي إلي إضعاف المجتمع، وعدم استقراره.

وسوف تستمر حالة الاستقطاب والانقسام بشأن أسس تنظيم المجتمع مصدرا لعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي.

في أوروبا، حدث موقف مشابه بشأن موقف الأحزاب الشيوعية من الصراع الطبقي، والعنف الثوري، وعدم الاعتراف بمؤسسات الديمقراطية البرجوازية، بحسبانها تشويها لإرادة الشعب. وقامت هذه الأحزاب بمراجعة تاريخية لمواقفها، كان أبرز مظاهرها في الستينيات من القرن الماضي وصية تولياتي – زعيم الحزب الشيوعي الإيطالي – التي أكدت انخراط الأحزاب الشيوعية في الحياة الديمقراطية ضمن قواعدها. فهل تستطيع تيارات الإسلام السياسي في البلاد العربية أن تُقدم علي مثل هذه التسوية التاريخية؟

 

ثانيا – سياسات الإدماج وإدراك حدود السلطة:

إذا كان أحد أهم مثالب النظم التسلطية هو إقصاء بعض القوي والفاعلين الرئيسيين عن المشاركة، فإنه من المهم في عملية الانتقال أن يتم تصميم نظم الانتخابات والتمثيل بما يضمن مشاركة الجميع، ويعطي لهم فرصة الإسهام في صياغة القواعد الجديدة لتنظيم الحياة السياسية، وبما يحقق التزامهم باتباع هذه القواعد، وقبول نتائجها.

إن أهمية السعي إلي إدماج مختلف القوي السياسية والاجتماعية تنبع من هدف الانتقال الديمقراطي، وهو إقامة نظام يشارك فيه الجميع، ويتطلب ذلك البحث عن أرضية مشتركة بين الفاعلين المختلفين، والسعي لكسب تأييد أوسع إطار من المواطنين، وذلك بإزالة المخاوف المتبادلة بين الأطراف. ووصل الأمر في بعض الدول إلي إدماج عناصر النظام القديم في العملية السياسية الجديدة. وعلي سبيل المثال، فقد تولي رئاسة الدولة في رومانيا، وروسيا، وبولندا أشخاص انتموا إلي الحزب الشيوعي، واستمرت الأحزاب الشيوعية في القيام بدور المعارضة في برلمانات روسيا، والمجر، ورومانيا، ومعظم جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق (13). وفي عام 2010، عادت الأحزاب الحاكمة السابقة في لاتفيا والمكسيك إلي الحكم بأصوات الناخبين.

ويتطلب تحقيق هدف الإدماج توافر متطلبين رئيسيين:

1- مهارات التفاوض والقدرة علي التوافق لدي القيادات السياسية:

يوضح ما تقدم أهمية المفاوضات بين الفاعلين السياسيين وصعوبتها في الوقت ذاته. ففي السياق الديمقراطي، توجد جماعات ذات مصالح متباينة، وأهداف متصارعة، وأولويات مختلفة لا يمكن التعامل معها علي الدرجة نفسها من الأهمية، أو تحقيقها في الوقت نفسه. ويصبح هدف المفاوضات هو تحديد أولويات السياسة العامة، وهو ما يضع خيارات صعبة أمام كل الأطراف التي يكون عليها إعادة نظر في بعض أولوياتها، والوصول إلي حلول مقبولة، وهو هدف غير يسير، ولكنه ليس مستحيلا، إذا ما توافرت القيادات التي تملك وضوح الرؤية، والخيال الذي يمكنها من الوصول إلي حلول وسط مبتكرة تعطي الشعور لكل الأطراف بأن قدرا من مصالحها قد تحقق.

ففي النظام الديمقراطي، فإن الخصم السياسي ليس عدوا لدودا ينبغي قهره، أو التخلص منه، ولكنه منافس شرعي من حقه طرح وجهة نظره، وأن يسعي لإقناع الناخبين بها. ويتطلب ذلك من القادة إدراك أهمية الوصول إلي حلول وسط، وإشراك الآخرين في السلطة واتخاذ القرار، وهذه السلوكيات لا تدل علي الضعف، بل هي مكون أساسي للعملية الديمقراطية.

ولعل أبرز مثال علي هذا النوع من القادة هو نيلسون مانديلا الذي قدم نموذجا ملهما لإنهاء واحد من أعتي النظم تسلطية وعنصرية في العالم، وأقام نظاما ديمقراطيا مستقرا في جنوب إفريقيا، ومنهم فريدريك ويليام دي كليرك، رئيس وزراء الحكومة العنصرية الذي تولي رئاسة البلاد من 1989- 1994، وقاد مع مانديلا عملية إسقاط النظام العنصري، وليخ فاونسا، رئيس حركة تضامن العمالية في بولندا، والذي أصبح أول رئيس للجمهورية في العهد الديمقراطي من 1990- 1995، وفاتسلاف هافيل، أول رئيس للجمهورية في التشيك من 1993- 2003، وأودولفو سواريز، رئيس وزراء إسبانيا من 1967- 1891. واتسمت هذه القيادات بالاعتدال في الخطاب السياسي، والقدرة علي التواصل، وبناء الجسور مع القوي الأخري من خلال مهارات التفاوض التي تمتعوا بها.

وهكذا، تتكامل العناصر المعوقة للإدماج، إذ تفرض الاستقطابات الأيديولوجية ذات الطابع الديني معادلة صفرية تشجع النظم الحاكمة علي اتباع سياسات استحواذية من ناحية، وإقصائية من ناحية أخري، وذلك في ظل نمط من القيادات المتصلبة غير التوافقية التي يؤدي سلوكها إلي استفحال الصراع السياسي والاجتماعي، وشيوع حالة من عدم الاستقرار.

2- حدود استخدام السلطة:

تتصل هذه النقطة بحدود السلطة التي ينبغي أن تلتزم بها الحكومات في المرحلة الانتقالية، ذلك أن أحد العناصر الرئيسية لمفهوم الديمقراطية هو الإدارة السلمية للاختلافات والصراعات، وذلك من خلال الاعتراف بحقوق الأفراد والجماعات في التعبير عن مصالحها، والانخراط في عملية مفاوضات اجتماعية للاتفاق علي الأولويات، بما يحمي حقوق الأطراف، ويضمن تداول السلطة حسب إرادة الناخبين. وفي هذا السياق، إذا كان علي الخاسرين القبول بنتائج الانتخابات، فإن علي الفائز أو الفائزين التحلي بالاعتدال في استخدام السلطة، والابتعاد عن السياسات التي تهدد بشكل جسيم مصالح أطراف رئيسية أخري، وبما لا يؤدي إلي طغيان الأغلبية، وتهميش المعارضة.

فالديمقراطية هي نظام يحدد كيفية اختيار شاغلي السلطة، ويضع الحدود علي استخدامهم للسلطة التي اختارهم الشعب لممارستها، فهو نظام يقوم علي دعامتين مترافقتين، الأولي تعطي سلطة الحكم للأغلبية، والأخري تحمي حقوق الأقليات وتصونها. لذلك، فإن من المخاطر المهددة للانتقال الديمقراطي هو ممارسة السلطة دون حدود، بما يهدد مصالح قوي اجتماعية أخري، مما يدفعها إلي الخروج علي قواعد الديمقراطية. من مظاهر ذلك تولي حزب مهيمن Hegemony Party السلطة، مما يؤدي إلي استمرار ممارسات الزبانية السياسية، واستخدام موارد الدولة، والتدخل في الانتخابات لمصلحة مرشحي الحزب في البرلمان.

والأهم من ذلك قيام هذا الحزب بفرض معتقداته الفكرية علي المجتمع، بالرغم من عدم وجود توافق عليها.
إن اعتدال الأغلبية وحكمتها في ممارسة السلطة شرط ضروري لاستقرار عملية الانتقال. وكان هذا المعني واضحا لدي آباء الثورة الأمريكية، فحذر ماديسون من طغيان الأغلبية واعتدائها علي حقوق الأقليات، كما حذر المفكر الفرنسي الكسيس دي توكفيل من أن طغيان الأغلبية يؤدي إلي إلغاء الفصل بين السلطات، والاعتداء علي حقوق الإنسان.

 

ثالثا – معضلة التمثيل. العلاقة الغائبة بين المؤسسات والمصالح:

التمثيل Representation هو الآلية الرئيسية لنظام الديمقراطية النيابية الحديثة، والتي تقوم علي قيام الشعب بانتخاب ممثليه في المجالس التشريعية في انتخابات دورية حرة، وأن هؤلاء الممثلين عليهم مهمة التعبير عن مصالح المواطنين، والعمل علي تحقيقها، والتأكد من قيام السلطة التنفيذية بمراعاتها فيما تتبناه من سياسات عامة. وتفترض آلية التمثيل وجود أحزاب تقدم بدائل مختلفة للمواطن، يعبر عنها مرشحوها في الانتخابات، ويقوم المواطن بالاختيار بينها، وفقا لتصوره للشخص، والحزب الذي يعتقد أنه أكثر تمثيلا لمصالحه، وقدرة علي تحقيقها. كما تفترض آلية التمثيل وجود هيئات للمجتمع المدني مرتبطة بالمواطنين، وتعبر عن مطالبهم.

إن فعالية آلية التمثيل إذن ترتبط بوجود المؤسسات السياسية التي تستند إلي اختلاف المصالح الاجتماعية، وظهور أحزاب ذات توجهات سياسية وفكرية مختلفة (اليمين، والوسط، واليسار بتنوعاتها)، وهيئات مجتمع مدني لتمثيل هذه المصالح، والدفاع عنها.

في البلاد العربية، تسود توجهات شعبوية Populist تحرص علي وحدة الشعب، واتفاق مصالحه، وتزعم برامج الأحزاب أنها تمثل كافة المصالح الاجتماعية. ودعم هذا التوجه الأحزاب الدينية التي نقلت بؤرة الاهتمام من القضايا الاجتماعية إلي قضايا الدين، والهوية، والأخلاق، اعتقادا منها أن هذا هو مدخل التقدم وسبيله.

وصحيح أن مرحلة ما بعد الانتفاضات الشعبية شهدت تبلورا للتنوع السياسي علي محورين: محور التمييز بين الأحزاب الدينية والمدنية، ومحور التمييز داخل الأحزاب المدنية بين اليمين واليسار، ولكن هذا التمايز استمر علي مستوي النخبة، ولم ينتقل إلي مستوي تمثيل المصالح الاقتصادية والاجتماعية.

وقد أدت معضلة التمثيل وعدم ارتباط المؤسسات السياسية بالمصالح الاجتماعية إلي عدد من النتائج المهمة:

1- سياسة الشارع  Street Politics:

الأصل في الأمور أن الديمقراطية تهدف إلي حل الصراعات الاجتماعية والاختلافات بين المصالح بطريقة سلمية داخل المؤسسات السياسية، فهذه المؤسسات تقوم بتحقيق التوازن بين المشاركة الشعبية من ناحية، ودور النخبة السياسية من ناحية أخري، وهو ما يتطلب توافر القنوات المنتظمة اللازمة لاستيعاب المطالب، والتعامل معها في إطار المؤسسات بكفاءة. وعندما تعجز المؤسسات القائمة عن أداء هذه المهمة، أو عندما يشعر المواطن بأن تلك المؤسسات لم تعد تمثله، فإنه يلجأ إلي الشارع في شكل مظاهرات، واعتصامات، ومواجهات. قبل حدوث الانتفاضات، كانت الدعوة إلي النزول إلي الشارع احتجاجا علي تبني النظم القائمة سياسات اجتماعية ضد مصالح الفقراء، ودعوة للتغيير والحرية السياسية، وكان إسقاط النظم من خلال الحشود الجماهيرية في الميادين.

بعد الانتفاضات، استمرت الظاهرة نفسها بسبب الاختلافات حول شكل النظام الجديد، وبسبب استحواذ فريق سياسي واحد علي دفة الحكم، وعدم استعداده للوصول إلي حلول وسط مع المخالفين له في الرأي.

كان الحلم الشعبي في أوقات الانتفاضة هو التحول من دولة الغلبة إلي دولة المشاركة، ولكن سرعان ما ثبت أن النظام الجديد يحمل الكثير من سمات سابقه. ولذلك، عادت الدعوة إلي النزول للشارع مرة أخري، وهي دعوة تمثل دليلا علي قصور ما تحقق من تطور ديمقراطي، وعلي وجود حراك سياسي غير مسيطر عليه. ففي الشارع، تتجمع قوي، بعضها معروف الهوية السياسية، وبعضها مجهول بالمرة، ولا يدرك أحد أهدافها أو مراميها. وجميعها قوي غير مؤسسية سماها آصف بيان اللاحركات الاجتماعية.

دعم من أزمة المؤسسات السياسية في مرحلة ما بعد الثورات والانتفاضات المفارقة بين ضعف المؤسسات من جهة، وازدياد حجم المطالب الاقتصادية والفئوية المفروضة عليها. ذلك أن تراكم هذه المشكلات والمطالب، وازدياد ثقلها Overload Issues يزيدان الأمر تعقيدا، لأن المؤسسات الحكومية لا تستطيع حل كل هذه المشاكل في الوقت نفسه، خاصة مع استمرار المواجهة والتنافس بين الجماعات التي ترغب كل منها في زيادة فرصها ونصيبها، وأن تكون لها الأولوية علي جدول أعمال الدولة، وأن كثيرا من هذه المشاكل هي مشاكل بنائية تفاقمت علي مدي سنوات طويلة.

2- جنرالات بدون جنود:

علي القيادة – بمعناها المحدود – والنخبة – بمعناها الواسع – مهمة طرح التوجهات واقتراح الحلول. ومع أن القيادة (أو النخبة) عليها أن تستمع إلي مطالب الشعب، وتعبر عنها، فإنها ليست مجرد بوق أو رجع صدي Eco، وإلا فقدت معناها ورسالتها. فالقيادة تستمد قوتها من تمثيلها لمصالح الشعب، وكسبها ثقته واحترامه، وأنها تعبر عن المصلحة العامة، وكذا من واقع استنادها إلي مؤسسات حزبية وقيادات محلية في الأقاليم، تشرح، وتوضح، وتناقش. وعندما يغيب ذلك، توجد قيادات بدون قواعد، وجنرالات بدون جنود. وكثير من الأحزاب الحضرية التي تفتقد القواعد الاجتماعية، والانتشار الجغرافي، تفرز قيادات تشعر بغياب الظهير الاجتماعي لها، وتدير العملية السياسية، بحسبانها تنافسا وصراعا بين نخب فوقية محدودة العدد. هذا الوضع يعطي النخبة قدرة أكبر علي المناورة، وتغيير المواقف، والانتقال من موقع لآخر، ومن تحالف حزبي لآخر، لأنه لا يوجد تنظيم يحاسبها، أو قواعد تراقب سلوكها. وإذا أدخلنا في الحسبان انتهازية بعض القيادات، أو سعيهم لمصالح خاصة، فإن ذلك يؤدي إلي ضعف دور القيادة، وإلي سبق الجماهير لها في اتخاذ المواقف، بحيث تقود الجماهير القيادات، وتلهث القيادات في مجاراة الجماهير ومجاملتها، وهو وضع يحمل في طياته أخطارا للاستقرار السياسي، وللتطور المؤسسي الديمقراطي.

3- القانون الحديدي للأوليجاركية:

تعد الأحزاب هي أهم الأطراف التي تسهم في عملية المنافسة الديمقراطية، فهي التي تشارك في الانتخابات، وتتحقق من نزاهة القادة السياسيين الذين يخوضونها. لذلك، فللأحزاب دور مهم في تعزيز ثقة المواطنين في نظام الحكم الديمقراطي، الذي وصفه فريد زكريا بقوله إنه بدونها، تصبح السياسة بمثابة لعبة يلهو بها الأفراد ومجموعات المصالح والرجال الأقوياء. ولكي تقوم الأحزاب بهذا الدور، فإنه ينبغي أن تتحلي بالديمقراطية الداخلية، وأن تتبع قواعدها، مثل شغل المناصب القيادية بالانتخاب ولمدة محددة، ووضع القادة في موضع المساءلة أمام أعضاء الحزب، وتطبيق مبدأ الشفافية والمشاورة قبل اتخاذ القرار، واحترام حق أعضاء الحزب في التعبير عن آرائهم. وترجع أهمية ذلك إلي أن الأحزاب التي لا تمارس الديمقراطية في شئونها الداخلية من الأرجح أنها لن تمارسها أو تحترمها بعد توليها الحكم.

وعندما لا تكون الأحزاب ممثلة لمصالح اجتماعية، وتكون القيادات بدون ظهير اجتماعي، فمن الأرجح أن تغيب الديمقراطية الداخلية عنها، وأن يثبت القانون الحديدي للأوليجاركية الذي اقترحه ميشلز صحته، بحيث تتحول هذه الأحزاب من تمثيل مصالح شعبية إلي الدفاع عن مصالح ذاتية لقياداتها، وللعناصر المسيطرة علي تنظيمها، وأن يضعف العمل التنظيمي المتعلق بجذب العضوية، وانتظام الاجتماعات، وأن تتسم انتخاباتها بالشكلية، وتوقع النتائج مقدما، ويكون من شأن ذلك كله اغتراب المواطنين عنها، وعدم ارتباطهم بها.

 

 

4- التطلع إلي الجيش كمنقذ:

مع عجز المؤسسات التشريعية، والأحزاب، وهيئات المجتمع المدني عن القيام بدورها في تمثيل المصالح، ولجوء المواطنين إلي سياسة الشارع، والحشود الجماهيرية، تنشأ مشاعر عدم الثقة في النخبة السياسية المدنية، ويبرز الجيش في صورة الممثل لروح الوحدة الوطنية، والقادر علي القيادة، والبعيد عن مفاسد الحياة السياسية، ويسود الاعتقاد بأن الجيش هو المنقذ لبناء الدولة، والحفاظ علي الأمن والاستقرار، وإنقاذ الاقتصاد.

ويؤدي هذا الوضع إلي عدم الاستقرار السياسي، واللجوء إلي القوات المسلحة واضطرارها للتدخل، كما حدث في مصر.

من المخطئ؟

من المبكر علميا تقييم أحداث وتطورات جارية، أو إصدار أحكام بشأن قرارات وسياسات إدارة عملية الانتقال، وذلك بسبب عدم توافر المعلومات الصحيحة عن الضغوط الداخلية والخارجية التي تعرض لها المسئولون في هذه المرحلة، وما يترتب علي ذلك من عدم معرفة البيئة الموضوعية والنفسية لصنع القرار.

لذلك، ستظل أية أطروحات في هذا الشأن ذات طابع تمهيدي. فهل ربما كان عدم الاستقرار الذي شهدته دول الانتفاضات العربية نتيجة منطقية وطبيعية لما حدث فيها من انفجارات سياسية واجتماعية مدوية؟ أم ربما كان من الممكن تقليل حدة عدم الاستقرار باتخاذ بعض الإجراءات، مثل إدماج الشباب في العملية السياسية، والاستفادة من تجارب الدول الأخرى؟ هل كان الخطأ في إعطاء الشرعية لأحزاب الإسلام السياسي؟ وهل كان من الممكن تحاشي ذلك في ضوء الوزن الشعبي، والقدرة التنظيمية لهذه الأحزاب، مقارنة بضعف الأحزاب والقوي المدنية وتشتتها وانقساماتها؟

هل استفحل عدم الاستقرار، لأن الانتفاضة الثورية لم تتحول إلي ثورة، وأنها لم تتجاوز مرحلتها السياسية إلي ما هو أعمق وأبعد، ولم تمس قضايا العدالة الاجتماعية أو المسألة الطائفية، أم ربما لأن الثورة لم تنته، أو تكتمل بعد، ولا تزال موجاتها تتوالي؟

لا يمكن الإجابة بشكل علمي علي هذه الأسئلة، ولكن المؤكد أن عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي الذي تشهده تلك الدول يدل علي إعادة تموضع Repositioning العلاقة بين الدولة والمجتمع، وإعادة تعريف للحدود والتداخلات بين الطرفين، وإعادة تشكيل للائتلاف الحاكم Governing Coalition الذي يضم أطرافا من الدولة والمجتمع.

 

لتحميل الملف كاملا: دراما “الانتقال”: العوامل الهيكلية لعدم استقرار أنظمة ما بعد “الربيع العربي”

عن admin

شاهد أيضاً

"سلام ترام" .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين “سلام ترام” قصة …