الرئيسية / النظم السياسية / السياسة المقارنة / الوسائل الثقافية والمؤسسية لنظريات التنمية السياسية
الوسائل الثقافية والمؤسسية لنظريات التنمية السياسية
الوسائل الثقافية والمؤسسية لنظريات التنمية السياسية

الوسائل الثقافية والمؤسسية لنظريات التنمية السياسية

الوسائل الثقافية والمؤسسية لنظريات التنمية السياسية

 

الفصل الثالث في نظريات التنمية السياسية المعاصرة

المبحث الاول – الوسائل الثقافية:

تعد الوسائل الثقافية من أهم الوسائل التي تركز عليها نظريات التنمية السياسية المعاصرة، حيث تعتبر مقدمة ضرورية ولازمة لفعالية الوسائل الأخرى المؤسسية والاقتصادية . حيث تعد الوسيلة الثقافية أو التغيير الثقافي شرطا أساسيا لحدوث التغييرات الأخرى ومقدمة ضرورية للوصول إلى مجتمع الحداثة. ونظرا لاتخاذ نظريات التنمية السياسية النموذج الاوروبي كنمط تاريخي يجب ان تسير فيه كافة الامم الأخرى، لذا فهي تطرح مجموعة من الابعاد الثقافية التالية:

أولا – القضاء على النسق الثقافي التقليدي:

سادت نظريات التنمية السياسية نظرة تبسيطية تختزل ثقافات العالم المتعددة في ثقافتين احداهما تقليدية والأخرى حديثة ، تنطوي التقليدية على نسق قيمي يتسم بخصائص الوراثة والابنية الطبقية الجامدة التي ترتكز على اسس دينية والطابع الابوي للجماعات الاولية والاقتصاد المنزلي والطابع الاستبدادي الاقطاعي وسيطرة الدين ، بينم تتسم الثقافة الحديثة بنسق قيمي يتسم بالمساواة والانجاز والموضوعية والعلمانية ، وهذا يستلزم حدوث التغيير الثقافي والتخلي عن الانماط الثقافية التقليدية والتي تعد العامل الرئيسي للتخلف والعائق امام تحقيق التنمية وذلك عن طريق نشر الثقافة الحديثة ، ثقافة المشاركة السياسية والفعالية والانجاز . ولذا نجد ان هناك مايشبه الاجماع بين منظري التنمية السياسية على ضرورة التخلي عن الثقافة التقليدية واحلالها بثقافة حديثة . والنظرة الدقيقة لفكرة القضاء على البناء الثقافي التقليدي كوسيلة لتحقيق التنمية والحداثة نجد انها تقوم على اسس غير صالحة للمجتمعات غير الاوروبية للاسباب التالية :

1 – اسقاط الخبرة الاوروبية على واقع المجتمعات غير الاوروبية ، حيث ارتبط قيام الثورة الصناعية في اوروبا بالبروتستانية والاصلاح الديني والقضاء على بعض جوانب البناء الثقافي التقليدي واصلاخ وتعديل جوانبه الاخري قد اعتبر مقدمة ضرورية للتراكم الراسمالي والتصنيع. إن كان هذا صحيحا في التجربة الاوروبية فإن صلاحيته للعالم غير الاوربي يشوبها اوجه قصور

أ – إن التغيير الثقافي في المجتمعات الاوروبية تم عن طريق الاصلاح الذاتي (الاصلاح الديني) باصلاح الثقافة من داخلها ، أما مايقدم الان للعالم غير الاوروبي فإنه عكس ذلك فهو دعوة لاستبدال ثقافة المجتمع بثقافة اخري مغايرة لها دون النظر الى اصلاح هذة الثقافات او تنقيتها .

ب – إن الاصلاح الثقافي الاوروبي جاء سابقا على التطور الاقتصادي والاجتماعي وسببا له ، أما مايقدم للعالم غير الاوروبي في نظريات التنمية السياسية فإنه محاولة لتكييف للعالم غير الاوروبي مع التطورات التكنولوجية الحديثة واعدادها لاستقبال نمط التصنيع والمعيشة الأوروبي

جـ – اختلاف الاطار الدولي الذي تمر به المجتمعات غير الاوروبية عن ذلك الذي عاصرته المجتمعات الاوروبية من حيث البعد الثقافي في الصراع الدولي ، حيث تعتبر الوسيلة الثقافية اداة سياسية في القضاء على الخصوصية والهوية للمجتمعات غير الاوروبية كمقدمة للسيطرة عليها وتمتلك الدول الاوروبية من الادوات ما يمكنها من تحقيق السيطرة الثقافية على العالم مثل :

– امتلاكها لوسائل تكنولوجية متقدمة في ميدان الاعلام وسحر الثقافة الاوروبية لدي ابناء البلدان غير الاوروبية.

– ارتباط عمليات الاستبدال الثقافي بمصالح الشركات متعددة الجنسيات حيث ان اداة السيطرة الثقافية ليست قاصرة على الكتاب او السينما او الايديولوجيات الجاهزة فحسب بل تتركز بصورة اساسية على السلعة الاستهلاكية مما أدي لخلق حاجات زائفة لدي ابناء العالم غير الأوروبي.

2 – اعتبار الثقافات غير الاوروبية ثقافة واحدة وهذة نظرة تبسيطية ومخلة حيث ان التعدد الثقافي داخل الدول غير الاوروبية يفوق كثيرا الاختلاف الثقافي بين الدول الاوروبية وغير الاوروبية.

3 – إن اعتبار الثقافة الاصيلة عائقا امام التنمية لا يعني سوي واحد من أمرين أو كليهما معا:

أ – إن التنمية والتحديث ليست إلا أحد أبعاد مفهوم التغريب.

ب – إن هناك ثقافة عالمية واحدة يشترك فيها البشر جميعا على اختلاف أجناسهم وهذا مخالف للواقع حيث تتعدد الثقافات بتعدد الملل والأجناس.

 

ثانيا – تحقيق علمانية البناء الثقافي:

تعد العلمانية جوهر الوسيلة الثقافية التي تركز عليها نظريات التنمية السياسية، حيث تعد العلمانية هي الوجه الآخر للقضاء على الثقافات الاصيلة ذات الطبيعة الدينية الغيبية.

وقد ظهر مفهوم العلمانية في الخبرة الأوروبية كرد فعل طبيعي لهيمنة الكنيسة وسيطرتها على مجمل أمور الحياة في أوروبا في العصر الوسيط ومن هنا كان طبيعيا أن يظهر مفكرون ينادون برفض سلطة الكنيسة أولا ثم امتد للدين المسيحي حيث رفضت الاتجاهات العلمانية كل اعتقاد في الدين ورأت ضرورة تأسيس المعرفة على أسس تجريبية، وتم ذلك عن طريق أضعاف الكنيسة وتجريدها من سلطانها السياسي وقوتها الاقتصادية ثم حصرها في نطاق الأمور الروحية فحسب. ومن ثم ظهرت الدولة العلمانية التي تحررت من أبنية العصور الوسطي.

وقد جاء هذا التطور عبر قرون ثلاثة الـ 17، 18، 19 أطلق عليها عصور العقل ثم التنوير ثم التقدم التي رسخت العلمانية في المجتمع. وكثير من كتاب التنمية السياسية يعتقدون ان الانتقال من التقليدية الى الحداثة لابد ان يتم عن طريق علمنة الثقافة السياسية التي تعني القيم المتعددة والاختيار أو السلوك الرشيد ، فألموند أشهر مفكري التنمية السياسية يبرز العلمانية كأول عناصر تحقيق التنمية وهي مرتبطة بالعلم وانتشار التعليم والتكنولوجيا ووسائل الاتصال ، ويري ألموند أن المجتمعات الأكثر علمانية مجتمعات ذات ثقافة سياسية مشاركة، حيث تتسم العملية السياسية لدي الافراد والنظام بالعقلانية.

ويمكن القول إن لزومية العلمانية لتحقيق التنمية ونتائجها في المجتمعات الأوروبية لم تحقق النمط الثقافي الأفضل فقد أفرزت التطبيقات العلمانية عدة ظواهر في المجتمع الأوربي أهمها:

1 – افتقاد المعيار للفكر أو الحركة: مما أدي إلى التشرذم والتشتت وظهور نظريات متتالية ومتعارضة من الداروينية الى الهيجلية الى الماركسية الى الوجودية، وذلك بحثا عن أرضية يقف عليها العقل الأوروبي. بعد ان أخرج الدين من إطاره الفكري وحصره بين جدران الكنيسة.

2 – نسبية القيم: في ظل انعدام الضوابط العقيدية والقيم الاخلاقية تصبح المصلحة والمنفعة المحدد الوحيد للحركة الإنسانية، فما يطلق عليه عصر النهضة الاوروبي شهد ابشع انتهاكات حقوق الانسان في المجتمعات غير الاوروبية سواء تجارة الرقيق أو ابادة الهنود الحمر في امريكا واستراليا ونهب موارد افريقيا واسيا من قبل الاوروبيين.

ويثور تساؤل هنا هل تعد العلمانية وسيلة لتحقيق التنمية في المجتمعات غير الاوروبية؟ وهل العقبة الوحيدة أمام تحقيق التنمية والحداثة في تلك المجتمعات هي الدين؟

أ – أن معظم الدول غير الأوروبية لم تشهد في تاريخها نفس الظواهر التي أدت إلى بروز العلمانية الأوروبية، حيث لعب الدين في معظمها دور الحافز للتطور كالخبرة الإسلامية الاولي وتجربة اليابان خلال القرن الماضي.

ب – أن الأسباب الكامنة وراء تدهور أوضاع المجتمعات غير الأوروبية لا ترجع إلى عوامل ثقافية بقدر ما ترجع الى العامل الخارجي المتمثل في النهب الاوروبي واستنزاف الموارد وتشويه البناء الاقتصادي ومن ثم الثقافي وافقاده فعاليته الأصيلة.

جـ – إن السياسات المطبقة في الدول غير الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الان سياسات علمانية تقوم عليها نخب علمانية تابعة للمركز الاوروبي، ورغم ذلك فأوضاع هذه الدول متدهورة.

د – إن اتباع الاساليب العلمانية في الحكم أوجد نظما سياسية معزولة عن مجتمعاتها مما أفقد عملية التنمية أهم مرتكزاتها الممثلة في مشاركة الجماهير.

هـ – إن الدعوة إلى علمنة الثقافة السياسية في المجتمعات غير الأوروبية تستبطن طرح أنثروبولوجي لتحقيق الثقافة العالمية.

ويتضح من كل ما سبق بالنسبة للعلمانية وتداعياتها المنهجية والحركية تعني استبدال الإسلام في مجمله بأيديولوجية الحداثة.

 

ثالثا – بلورة الوعي الطبقي كأداة للتغيير:

تنفرد النظرية الماركسية بالتركيز على الوعي الطبقي كمتغير ثقافي في إحداث التغيير الاجتماعي حيث يعد الوعي الطبقي متغيرا وسيطا بين التغيرات التي تحدث في ادوات الانتاج وبين الثورة. يمكن ملاحظة عدة نقاط حول مفهوم الوعي الطبقي كأداة ثقافية قدمتها الماركسية لأحداث التغيير:

1 – رغم عمومية مفهوم الوعي إلا أن الماركسية قيدته بمحتوي معين هو الوعي بالظلم الطبقي أو الاجتماعي واستغلال الطبقة المالكة للطبقة العاملة.

2 – طبقا لمفهوم الوعي الطبقي فإن العامل الثقافي أصبح تابعا للتغيرات المادية مما يفقد مفهوم الوعي والادراك دلالاته ومعانيه التي تقود التغيرات المادية وتتحكم فيها .                           3 – إن مفهوم الوعي في النظرية الماركسية ناقص من حيث هو وعي بالحقائق المادية فقط.

4 – تضاؤل القيمة الحقيقية لمفهوم الوعي الطبقي في المجتمعات المعاصرة حيث أصبح الوعي الطبقي لا يؤدي إلي نشوب الثورة أو قيام المجتمع الاشتراكي.
كما إن الصراع السياسي الدولي أوجد بدائل للوعي الطبقي مثل الوعي الوطني أو القومي أو الوعي بالمصلحة الذاتية.

ونلاحظ ان خبرة العالم غير الاوروبي افرزت وضعا مغايرا لما شهدته اوروبا في تاريخها الحديث من حيث مفهوم الطبقة ودلالته ومن حيث الوحدات الاجتماعية الفاعلة في المجتمع وذلك على النحو التالي:

(أ) مفهوم الطبقة: الذي قدمه ماركس شهد وجودا فعليا في المجتمع الاوروبي اثناء الثورة الصناعية حيث انقسم المجتمع الى طبقتين تحددهما قوي وعلاقات الانتاج، بينما العالم غير الاوروبي فقد أفرد له ماركس نمط مستقل للإنتاج أطلق عليه نمط الانتاج الاسيوي وهو نمط دون الرأسمالية، ونجد ان الطبقة في المجتمعات غير الاوروبية ليست بالأهمية مقارنة مع الاثنية والدين والقبيلة. ولا يمكن القول ان المجتمع منقسم الى طبقتين كما يري ماركس وذلك للاتي:

(أ-1) – تنقسم المجتمعات غير الاوروبية الي مجتمعين منفصلين لكل منهما معايير للترتيب الاجتماعي هما الريف والمدينة.

(أ-2) عدم وجود صناعة رأسمالية قوية تخلق طبقة عاملة مستقلة فالدولة هي المالكة للصناعة.

(أ-3) اعتماد معظم أفراد المجتمع على الزراعة والحرف مما يحول دون ظهور طبقة عاملة.

(أ-4) إن المجتمع غير الأوروبي مستغل من قبل الطبقات العليا التابعة للمركز، حيث يمكن ترتيب سلسلة الاستغلال في طبقة عليا في المركز الأوروبي – طبقة دنيا في المركز الاوروبي – طبقات عليا في مجتمع الهامش – طبقات دنيا في مجتمع الهامش، وكل طبقة تقوم باستنزاف الأدني.

ويمكننا القول إن مفهوم الطبقة في العالم غير الأوروبي بحاجة لتقويم وإعادة نظر.

ب– الوحدات الاجتماعية الفاعلة في المجتمع غير الاوروبي: أفرزت المجتمعات غير الاوروبية أنماطا اجتماعية وقوي سياسية تختلف كثيرا عن تلك التي ظهرت في المجتمع الأوروبي ومنها: القبيلة أو العشيرة والطائفة والتجمعات المهنية والحرفية، وهذه الوحدات تمثل القوي السياسية الحقيقية ومن ثم فالحديث عن وعي طبقي في هذه المجتمعات غير ذي معني في ظل هذه الوضعية الاجتماعية، ناهيك على أن هناك جملة عوامل تحول دون بلورة وعي جماعي ومنها:

(ب-1) الدولة في المجتمع غير الأوروبي بيروقراطية متشعبة مقيدة لحياة الأفراد.

(ب-2) القمع البوليسي يقضي على أي صحوة مرتبطة قبل ظهورها.

(ب-3) سيطرة الجيش على النظم السياسية والجيش يعد المتغير المستقل المحدد للنظام السياسي.

(ب-4) تدهور مستويات المعيشة مما يجعل الفرد مشغولا بتوفير احتياجاته الأساسية ولأسرته.

(ب-5) أغلب النظم غير الأوروبية تشغل مجتمعها بالخطر الخارجي للقضاء على أي صحوة.

 

المبحث الثاني – الوسائل المؤسسية أو التنظيمية:

تركز معظم نظريات التنمية السياسية على ضرورة انشاء مؤسسات حديثة لكي تتم عملية التنمية السياسية وانتقال المجتمع الى طور التحديث، وتستند هذه المقولة على فرضية اساسية تري ان الصراع عملية دائمة في المجتمع حتي إن المجتمعات التي حققت درجة عالية من التنمية السياسية لا تخلو من الصراع ولكن توجد لديها مؤسسات وآليات لتنظيم الصراع، فالمؤسسات تقدم اطارا للعملية السياسية وتنطلق هذه الفرضية من استقراء خبرة المجتمع الاوروبي وتعميمها على حركة التطور البشري. وباتت تصنف النظم السياسية إلي أنماط بدائية وحداثية طبقا لمعيار تأسيسها ومدي تمايز مؤسساتها وتخصص وظائفها.

ويعد هنتجنتون أبرز من ركز على عملية بناء المؤسسات كعملية أساسية لتحقيق التنمية السياسية، حيث يري أن عملية التحديث وماتفرزه من تعئبة اجتماعية ثم حراك اجتماعي ورغبة في المشاركة السياسية تستلزم بالضرورة انشاء مؤسسات سياسية تتواءم مع المتغيرات الجديدة وتسعى لاستيعابها بطريقة سلمية، فالمؤسسات التقليدية غير كافية لاستيعاب هذه التغيرات، فالمؤسسة عند هنتجنتون وسيلة أساسية للانتقال الى المجتمع الحديث وتعني بصورة أساسية تمايز الوظائف السياسية. وقد حدد هنتجنتون أربعة معايير يمكن من خلالها تحديد مدي التمايز وتكون المؤسسات التي تنطبق عليها هذه المعايير مؤسسات حديثة وهي:

1 – معيار التكيف: ويقصد به قدرة المؤسسة على الاستمرار في وجه التغيرات في المجتمع.

2 – معيار التعقيد: بمعني ان تكون المؤسسة متعددة الاغراض الوظائف.

3 – معيار الاستقلال والذاتية: ويقصد به ان تكون المؤسسة مستقلة عن باقي المؤسسات الأخرى.

4 – معيار التماسك: ويقصد به تماسك وحدة المؤسسة وتماسك أعضائها وانتمائهم لها.

ويمكن القول إن فكرة التمايز البنائي والتخصص الوظيفي التي ركز عليها مفكرو التنمية السياسية ليست إلا صياغة حديثة لمفهوم مونتسكيو عن الفصل بين السلطات.

وقبل الحديث عن مدي صلاحية هذه الوسيلة من وسائل تحقيق التنمية السياسية في المجتمعات غير الاوروبية يتوجب علينا أولا تقويم الوسيلة في المجتمعات الاوروبية التي افرزتها.

أولا – تقويم الوسائل المؤسسية والتنظيمية في ضوء الخبرة الأوروبية:

        بالنظر إلى النظم السياسية الأوروبية المعاصرة يلاحظ مدي الضعف والقصور الناجم عن مفهوم التخصص والتمايز أهمها:

1 – الجمود المؤسسي: منذ ظهور هذه المؤسسات التي ارتبطت بالتطورات الاقتصادية الحديثة لم تشهد تغييرا جوهريا، حيث اعتبرت أنها تمثل قمة ما يمكن أن تصل إليه النظم السياسية، ومن ثم ظلت هذه المؤسسات تكرس طابع التقليدية بحجة الاستقرار والاستمرار والفعالية الشكلية وبات ينظر لهذه المؤسسات لا على أساس كونها وسيلة لتحقيق غايات معينة، بل على انها غاية في حد ذاتها.

2 – البيروقراطية: ارتبط ظهور المؤسسات الحديثة بتطورات معينة في إدارتها، حيث ظهر نمط للإدارة صاغ ماكس فيبر نموذجه المثالي تحت مسمي البيروقراطية، وهو نمط يقوم على الحيادية والموضوعية ويحقق العدل، حيث الحاكم الفعلي هو القانون واللائحة وليس الشخص وسلطته التقديرية ورغم مثالية النمط وتجريده إلا أنه طرأت عليه بعض المؤثرات السلبية مثل:

(أ) تراكم اللوائح والقوانين ادي الى اعاقة العمل الاداري ومن ثم السياسي لحساب الجمود واتباع اللوائح والقوانين.

(ب) الطبيعة الوضعية للقوانين واللوائح المرتبطة بمعطيات الواقع المتغير، مما يجعل ما هو صالح لفترة زمنية غير صالح في فترة اخري مما أدي إلى تراكم وتكدس القوانين واللوائح.

(جـ) التدرجية المبالغ فيها والتي أدت إلى تفتيت المسؤولية وتشعبها بصورة يصعب ضبطها.

(د) توسع البيروقراطية أدي إلى كونها أصبحت تشكل طبقة اجتماعية لها مصالح قد تتعارض مع مصالح المجتمع.

3 – الفساد السياسي: في ظل تزايد البيروقراطية وتشعبها وتراكم القوانين واللوائح المنظمة لها بصورة تعوق العمل الاداري والسياسي ظهرت أنماط متعددة من الفساد السياسي المؤسسي كان نتيجتها ضياع حقوق بعض المواطنين أو حصول البعض على امتيازات معينة.

4 – تضخيم الابنية على حساب الوظائف: إن التركيز على المؤسسة كوسيلة لتحقيق التنمية السياسية أدي الى الاهتمام بالبناء أو المؤسسة على حساب على حساب وظائفها، فقد ساد نوع من الربط غير الموضوعي بين وجود البناء أو المؤسسة وتحقق الوظيفة المناطة بها. فالمؤسسة التشريعية على سبيل المثال لا يعني وجودها تحقيقها لوظيفة التشريع، فقد يكون دورها قاصرا على التصديق أو الموافقة، أو قد تقوم بالتشريع في ظل خضوع المؤسسة لجماعات المصالح أو لولاء حزبي معين.

5 – إيجاد طبقة جديدة متضخمة العدد قليلة الانتاج: فقد أدي الطابع البيروقراطي المبالغ فيه إلى تزايد اعداد البيروقراطيين حتي أصبحوا يمثلون طبقة جديدة تضخمت كثيرا على حساب المجتمع.

6 – ترسيخ مفهوم الصراع كمحرك للعملية السياسية: يعد مفهوم الصراع محور علم السياسة الأوروبي ومن ثم كانت المؤسسات ضرورة لضبط الصراع بصورة سلمية وتأسيسا على هذا المفهوم جاءت خريطة المؤسسات السياسية الاوروبية التي تنقسم إلى مؤسسات رسمية وأخري غير رسمية، واعتبر ظهور الأحزاب وجماعات المصالح تطورا مؤسسيا في طريق ضبط الصراع السياسي وتنظيمه معبرا عن تقدم المجتمع، بينما في الحقيقة نجد أن الأحزاب وجماعات المصالح تخضع في التحليل النهائي للمصالح الاقتصادية الكبري وأصحاب رؤوس الأموال. ناهيك عن الممارسات الفاسدة التي تقوم بها جماعات المصالح من رشوة وفساد سياسي. فالمؤسسات التي قامت لتكون وسيط بين المواطن والنظام السياسي قد انقلبت في نهاية الأمر في أيدي فئة تمتلك القدرات المالية والنفوذ الإعلامي، بينما تنظيم الحزب الواحد ما هو إلا أداة في يد النظام السياسي مما يفقده دوره في تجميع مصالح المواطنين والتعبير عنها والسعي إلى تحقيقها.

ثانيا – مدي صلاحية المؤسسات الحديثة كوسيلة للتنمية في الدول غير الأوروبية:

على الرغم من قصور المؤسسات السياسية الحديثة في بيئتها المحلية (الأوروبية) والتي تعد وليدا طبيعيا لتطورها وواقعها الحضاري، فإن بعض مفكري التنمية السياسية يرون أن إنشاء هذه المؤسسات في المجتمعات غير الأوروبية كفيل بتحقيق التنمية والتحديث، وقد تم أثناء فترة الاحتلال الأوروبي وبعدها نقل كلي أو جزئي للمؤسسات السياسية الأوروبية إلى الدول غير الاوروبية وذلك عن طريق وسائل منها:

1 – أن يأتي نقل المؤسسات نتيجة التصنيع وآثاره في اتجاهات قيمية جديدة.

2 – أن يأتي نقل المؤسسات نتيجة نقل القيم الثقافية الاوروبية إلى المجتمعات غير الأوروبية.

3 – أن يأتي نتيجة لنشاط حكومي مخطط وهادف، فقد رأي قادة الاستقلال أن الوصول إلى النموذج الأوروبي غاية يجب أن تسعي إليها الدول غير الاوروبية. وكان من آثار ذلك تشويه المجتمع غير الاوروبي وتدهوره وفقدانه لفعالياته الذاتية ويمكن ذكر عدة نقاط في هذا الشأن:

(أ) القضاء على المؤسسات الأصيلة: كانت توجد مؤسسات في المجتمعات غير الاوروبية قبل قدوم المحتل الاوروبي تتسم بالتجانس والتنظيم القانوني وتربط بين العقائد السائدة والابنية التنظيمية وتقوم بأدوراها الوظيفية، ورأي المفكرين الاوروبيين هذه المؤسسات تقليدية وجامدة وتمثل عائقا أمام التنمية والتحديث ولابد من إزالتها وقد سعوا الى تحقيق ذلك بمختلف الوسائل.

(ب) نقل الهياكل المؤسسية الأوروبية دون مضمونها: فقد تمت عملية نقل المؤسسات والأبنية والدساتير الأوروبية إلى الدول غير الأوروبية دون أن تكون مشمولة على الوظائف أو الفلسفة الكامنة خلف هذه المؤسسات، بل اقتصرت عملية النقل على الشكل دون الجوهر.

(جـ) عدم تفاعل المؤسسات الحديثة مع البناء الاجتماعي: فالمؤسسة بناء سياسي تنشأ في ظل ظروف وتطور معين وتتكيف وتتفاعل مع بيئتها، فمن الممكن نقل مؤسسات نظام من مجتمع لآخر لكن من الصعوبة بمكان نقل الروح العامة والافكار التي تقف خلف المؤسسات، وما حدث في دول العالم غير الاوروبي أن نقلت إليها نظم ومؤسسات مفروضة من أعلي غير نابعة من جذور المجتمع.

(د) نقل المؤسسات الحديثة بمثابة وسيلة لإضفاء الشرعية على النظم غير الأوروبية:

معظم النظم التي جاءت بعد التحرر من الاستعمار الاوروبي لم تكن تملك مشروعا حضاريا أصيلا، ولم يكن أمام النخب الحاكمة الجديدة سوي رفع شعارات كالديمقراطية والحرية وسيادة الشعب في سبيل كسب الشرعية، وتمكنت النخب من توظيف المؤسسات وإحكام قبضتها عليها وربط المواطن بعجلة النظام السياسي وجودا وعدما في جميع أمور حياته المعيشية.

ونخلص من كل ما سبق أن المؤسسات التي صاحبت عملية التنمية في العالم غير الأوروبي لم تستطع إقامة نظام للحكم يحقق اهداف مجتمعه ورضاء مواطنيه ومن ثم لابد من البحث عن أصيل بديل لهذه المؤسسات يتسق مع نمط المجتمع واطاره الحضاري وثقافته ويحقق الفعالية اللازمة لتطوير المجتمع.

عن admin

شاهد أيضاً

"سلام ترام" .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين “سلام ترام” قصة …