الرئيسية / النظم السياسية / التحول الديمقراطي / المجتمع المدني والتحول الديمقراطي .. أيهما يسبق الآخر؟ “مترجم”
المجتمع المدني والتحول الديمقراطي .. أيهما يسبق الآخر؟
المجتمع المدني والتحول الديمقراطي .. أيهما يسبق الآخر؟

المجتمع المدني والتحول الديمقراطي .. أيهما يسبق الآخر؟ “مترجم”

المجتمع المدني وعملية التحول الديمقراطي

Civil Society and Democratization
المؤلف:  Edmund Mnuk – Lipinski

مقدمة إلى

أ.د/ علي الدين هلال

من الطالبة

زهراء محمد السيد شعبان

 

أولاً: التعريف بالمؤلف:

ولد Edmund Wnuk Lipiniski الكاتب والمفكر والأديب وعالم الإجتماع في مدينة Sucha في بولندا عام 1944.

له العديد من الإسهامات العلمية والفكرية فهو مؤسس الأكاديمية البولندية للعلوم ورئيس قسم معهد الدراسات السياسية ورئيس جامعة Civitas في وارسو.

كما حظي بزمالة العديد من المؤسسات العلمية منها معهد العلوم الإنسانية في فيينا وجامعة نوتردام وأخرى في برلين.

وله العديد من الإسهامات الأدبية وقد برز نجمه في مجال الرواية وحصل عام 1988 على جائزة Zajdel عن إحدى رواياته.

ثانياً: هدف المقالة

تهدف المقالة إلى دراسة المجتمع المدني والتحول الديمقراطي وأيهما يسبق الآخر الدولة الديمقراطية أم المجتمع المدني خاصة وأن في التاريخ الحديث من الشواهد ما يعزز الإختيار الأول، كما أن فيه من الوفرة ما يعزز الإختيار الثاني.

 

المجتمع المدني وعملية التحول الديمقراطي

مقدمة:

على الرغم من عدم إحتلال مفهوم المجتمع المدني مكان الصدارة في الفكر السياسي والإجتماعي للشطر الأكبر من القرن العشرين بإعتباره أحد التجليات الثانوية أو المصاحبة للدولة الديمقراطية، إلا أن التساؤل عن كيفية نشأة الدولة الديمقراطية في بدايتها الأولى لا يزال يطرق بشدة أبواب العلوم الإجتماعية والسياسية في محاولة دؤبة لمعرفة أيهما يسبق الآخر: الدولة الديمقراطية أم المجتمع المدني. خاصة وأن في التاريخ الحديث من الشواهد ما يعزز الإختيار الأول، كما أن فيه من الوفرة ما يعزز الإختيار الثاني.

لكن العقود الأخيرة من القرن العشرين كانت شاهدة على الباحثين والدارسين للديمقراطية في سعيهم نحو دراسة دور المجتمع المدني في عملية التحول الديمقراطي لأنظمة الحكم الإستبدادية على ضوء ما حدث من تطورات في قلب أوربا وشرقها وفي كوريا الجنوبية والفلبين وعدد من دول أمريكا اللاتينية في هذه العقود، وخاصة مع بزوغ نجم حركة التضامن في بولندا عام 1980.

وعلى الرغم من محاولة بعض الباحثين التأسيس لفكرة المجتمع المدني زمانياً مع إنهيار منظومة الشيوعية، إلا أن هذه المحاولة فيها من الجور ما يبخس قدامى الباحثين في مجال الفكر الإنساني أمثال أرسطو أعمالهم. خاصة وأن الأخير قد عبر في كتابه “المجتمع السياسي” عن ذلك المجتمع الإنساني الذي يسمو أفراده على متطلباتهم الذاتية والآنية ويتحلون بالإرادة والقدرة على التأثير في الأنماط الإجتماعية وفق رؤيتهم لما يجب أن تكون عليه وظائف المجتمع. ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا الصنف من المجتمعات الإنسانية قد عرف لدى الرومان القدامى عندما إستخدموا عبارة “Societas civilis” وقد جاء في تعريفها أنها مجتمع أو جماعة من المواطنين الأحرار والمتساوون أمام القانون وتحكمهم قوانين بينة تعبر عبر معايير وقيم مشتركة. وهو ما نعبر عنه اليوم بمصطلح أو مفهوم “المجتمع المدني”.

إن مفهوم العلاقة بين الفرد والمجتمع ومفهوم حقوق المواطنين ودورهم في الحياة العامة، إضافة للإفتراضات العلنية والضمنية لدور الدولة وعلاقتها بالتجمعات الإجتماعية والمنظمة التي تقوم بأدوار وظيفية في المجال العام أدى إلى ركام مفاهيمي ملتبس حول مفهوم المجتمع المدني الذي يمكن تعريفه أو إختيار أبسط تعريف له على أنه: “المجموع الكلي للمؤسسات والمنظمات والإتحادات المدنية غير الحكومية، والتي تقوم بأدوار وظيفية في المجال العام وهي بمثابة منظمات شعبية تتمتع بإستقلال نسبي عن الدولة وقائمة على طواعية العضوية”.

لكن هذا التعريف العام للمجتمع المدني لا يحظى بإتفاق عام نظراً لتعدد المداخل في مقاربة المفهوم، فهناك من يدمج “الأسواق” في إطار المفهوم، وهناك من يرى أن المجتمع المدني فضاءً إجتماعياً ينسج فيه إتحاداص بشرياً متحرراً من سلطة القهر ومتحلياً بباقة من شبكات الإتصال. وهناك مقاربات تفصيلية للمجتمع المدني ترى فيه نموذجاً معيارياً منفصلاً عن الدولة والإقتصاد تتجلى فيه المكونات التالية:

  • التعددية:

يندرج تحت هذا المكون الأسرة والمجموعات أو التجمعات العامة والإتحادات التطوعية التي يسمح تعدد طيفها وإستقلاليتها بثراء أنماط الحياة.

  • العلانية:

مثل مؤسسات الثقافة والتواصل.

  • المشروعية:

وتتمثل في بنى من القوانين العامة والحقوق الأساسية المطلوبة لتحديد التعددية والخصوصية والعلانية بذاتية الإستقلال عن الدولة والإقتصاد وغيرهما. وتشكل هذه البنى في مجملها ضمانة لوجود وإستمرارية مجتمعاً مدنياً عصرياً فريداً.

وعلى ضوء ما سبق يصبح من العبث إعتماد إطاراً منفرداً في إحتواء كل ما سبق خاصة عند النظر إليه في سياق عملية التحول الديمقراطي. وبناءً على ما تقدم سيتم تناول مفهوم المجتمع المدني من زاوية مختلفة نسبياً، ألا وهي زاوية الرؤية عند Charles Taylor .

يرى Taylor أنه بالإمكان رؤية المجتمع المدني في ثلاثة أشكال مختلفة:

  • وجوده في كل مكان يتسنى فيه تواجداً لإتحادات مختلفة خارج هيمنة الدولة.
  • أو أن يكون المجتمع في مجموعه قادراً على تنظيم وتنسيق أنشطته خارج رقابة الدولة.
  • أو شبكة من الإتحاد القادرة على التأثير في سياسات الدولة الحالية أو إحداث تغييراً في سياسة الدولة في منطقة معينة أو مساحة محددة.

يتطابق – على سبيل المثال – من الشكل الأول بعض عناصر المجتمع المدني التي قد تتواجد في بيئة لا تتسم بالديمقراطية مثل وجود مجموعات أو جماعات من المواطنين مخالفة للدولة الإستبدادية لكن الدولة تسمح بمثل هذا الوجود.

ويتطابق مع الشكل الثاني تواجد المجتمع المدني في الدولة الديمقراطية والتي تحدث عنها وتنشرها الدراسات السابقة والمستفيضة حول مفهوم العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني.

أما الشكل الثالث فيتطابق مع الإشارة إلى التأثيرات الممكنة للأنشطة المدنية المستقلة في علاقتها بالدولة سواء كانت ديمقراطية أو أوتوقراطية.

تمهيد لمفهوم المجتمع المدني

تفيدنا زاوية الرؤية لTaylor وما يستعرضه من أشكال المجتمع المدني في إقتفاء أثر أساليب المجتمع المدني وما يمارسه من قوى ضغط إجتماعية داخلية ضد الدولة الأوتقراطية في عملية التحول الديمقراطي.

إبتداءً لابد من تحديد بعض الشروط الموضوعية التي يجب توافرها حتى يتسنى قيام المجتمع المدني وهي ما سوف تحدد ما إذا كان الفضاء الإجتماعي مهيئاً لظهوره، إضافة إلى الشكل الذي سوف يتخذه، والعوامل التي تحفز المواطنين على الإنخراط فيه، وأنماط العلاقة بين بنى المنظمات المختلفة للمجتمع المدني بالمجتمع ككل.

وفي معرض التمهيد لمفهوم المجتمع المدني تجدر الإشارة إلى أن المفهوم المراد هنا هو المجتمع المدني الذي يتشكل ويعمل في نطاق تفريعات الدولة القومية الديمقراطية، التي تعتبر – كما يؤكد  Linz وStepan – أنها الشرط المسبق اللازم توافره لقيام حكومة ذات نظام ديمقراطي.

المجتمع المدني والدولة الديمقراطية:

يقرر كلاً من Linzو Stepan أن “الديمقراطية” هي شكل من أشكال حكومة الدولة، وأنه لا يمكن لأي شكل من أشكال أنظمة الحكم في العصر الحديث أن يكون ديمقراطياً إلا أن يسبق ذلك أن يكون دولة. وهو الأمر الذي يستدعي سؤالاً نظرياً غاية في الأهمية وهو: أيهما يأتي أولاً الدولة الديمقراطية أم المجتمع المدني، أم – بشكل معكوس – هل تسبق الحركة الإجتماعية الشعبية التي تعد رائدة المجتمع المدني تطوير الدولة من الأوتوقراطية إلى الديمقراطية؟

هنا يوجد سيناريوهين:

السيناريو الأول: تكون فيه عملية التحول الديمقراطي قائمة على عاتق النخب الإجتماعية وهي النخب المعارضة التي تتشكل من خلال وفي نطاق النظام القديم، والنخب المضادة التي تنشأ كمحصلة أزمة للنظام السابق.

السيناريو الثاني: وفي تنشأ عملية التحول الديمقراطي من خلال حشد الجماهير القادرة على تنظيم ذاتها في حركة إجتماعية تهدف إلى إستعادة الفضاء العام الذي انتزعته وسيطرت عليه الدولة الأوتوقراطية، ومن ثم يصبح نجاح هذه الحركة الشرط الموضوعي المسبق لوجود قوى إجتماعية وطلقة السراح ومنظمة تنظيماً ذاتياً تكون بمثابة النواة الصلبة لمجتمع مدني جمعي.

ويمكننا بشكل تحليلي أن نميز بين ثلاثة أنماط للعلاقة بين الدولة والمجتمع المدني:

  • الدولة في مقابل المجتمع المدني.
  • المجتمع المدني يكمل الدولة.
  • الدولة تكمل المجتمع المدني.

يعتبر النمط الأول لهذه العلاقة قصير الأجل ويتسم بفترة إنحدار وإنحطاط الدولة الأوتوقراطية كما يمهد المسرح لنشأة وولادة الدولة الديمقراطية. وتتسم العلاقة – كما يرى بعض الباحثين – بالعدائية بين المجتمع وبين الدولة التي تستحوذ على مجال القوة من خلال شرعية سلطة الإكراه في حين يحكم المجتمع المدني مبدأ المشاركة التطوعية. وفي نموذج العلاقة الثاني يبرز المجتمع المدني في تحقيق المنافع في المساحات التي قصرت الدولة عن إيجاد فاعلية لها فيها أو كانت تفتقر فيها إلى عنصر الكفاءة أما النموذج الثالث فيعبر عن ضآلة الدولة وتبعيتهاحيث لا تكون الحاجة إليها إلا في المواضع التي لا يكون للمجتمع المدني فيها فعالية.

ظهور المجتمع المدني

من المتوقع أن يبرز المجتمع المدني في حال توافر الشروط الثلاث التالية:-

  • وجود فضاء عام يمهد الطريق لقوى إجتماعية حديثة وذات تنظيم ذاتي حر.
  • وجود قنوات للتواصل الإجتماعي غير خاضعة لسيطرة الدولة.
  • وجود أسواق حرة يتم فيها تبادل البضائع والخدمات مع توافر حماية للملكية الخاصة.

فلو كان الفضاء العام غير متوافر لقوى إجتماعية ناشئة وذاتية التنظيم وذلك عندما تتم السيطرة عليه من دولة غير ديمقراطية، فإنه يصبح من المتعذر على المنظمات والإتحادات المستقلة عن الدولة والتي تعتبر بمثابة التعبير المؤسسي للمجتمع المدني من الظهور. ولكن تحت مثل هذه الظروف المنقوصة يمكن أن تظهر منظمات وإتحادات شبه مدنية. فهي غالباً ما يتم السيطرة عليها من قِبَل الدولة التي تسمح لها بالوجود كما هو الحال في الدولة الأوتوقراطية قبل المرحلة الإنتقالية وكما هو المثال في الصين حيث بدار المجتمع المدني من قِبَل الدولة.

مع ذلك يظهر لنا التاريخ قيام شكل من أشكال التجمعات المعارضة بثقافة مغايرة لثقافة المجتمع وتعمل خارج الفضاء العام الذي تهيمن عليه الدولة، لكنها تتمكن من تكوين نواة لمجتمع مدني يمارس ألواناً من الضغط على الدولة وسياستها مما ينتج عنه في النهاية التحرر من النظام والدخول في عملية التحول الديمقراطي.

كذلك يقوم “التواصل الإجتماعي” بدور في التعريف والتفاوض لمصالح الجماعة ويساعد في الإتفاق حول الأهداف والقيم المشتركة للمجموعات أو الجماعات الغجتماعية المتعددة والتي تمهد بدورها الطريق لمأسسة الدولة.

وهناك أخيراً “الأسواق” المستقلة عن الدولة بآليات تحمي الملكية الخاصة وتضمن وجود مؤسسات مستقلة إقتصادياً عن الدولة لصالح المجتمع المدني. وذلك خلافاً للإقتصاد الموجه الذي كانت تهيمن عليه الكتلة الشرقية السابقة والذي لا زال معمولاً به في كوريا الشمالية وكوبا والذي يبرز في مجاله العام إتجاهات ومواقف نفعية بدلاً من الإتجاهات المدنية تجاه الدولة. فالدولة المركزية تهيمن على موارد الدولة وإعادة توزيعها.

Macro level                     The public sphere (State institutions)

 

 

Mezzo Level                   The public sphere (civil society institutions)

 

 

Micro level                      The public sphere (social micro structures: households, small, informal groups)

 

تملأ المجتمعات المدنية كل المجال العام الذي يمتد بين مستوى الدولة والمستوى الإبتدائي للأسر المنزلية. ويتكون الفضاء الإجتماعي من ثلاثة مستويات يمثلها الرسم البياني.

وظائف المجتمع المدني:

يمكننا أن نميز أربعة وظائف أساسية للمجتمع المدني:

  • الحماية من إستبداد الدولة.
  • مراقبة والتحكم في سيطرة الدولة.
  • المشاركة الديمقراطية للمواطنين.
  • خلق الفضاء العام وإمداده بالفاعلين.

تعود الوظيفة الأولى في جذورها إلى John Locke وتسمى Lockeian نسبة إليه وهي تتضمن حماية إستقلال الفرد والملكية الخاصة كما تتضمن مساحة للمجتمع بعيداً عن تدخل الدولة الإستبدادي. أما الوظيفة الثانية فتعود إلى Montesque بمفهومه النظري عن “المراجعات والتوازنات” وخلق ثقل نوعي تنظيمي يحد من سيطرة جهاز الدولة. أما الوظيفة الثالثة التي تنتسب إلى Tocqueville فهي تؤكد على أن المجتمع المدني يعمل كحاضن للمواطنين والفضائل المدنية مثل الثقة والتسامح وغيرها. أما الوظيفة الرابعة التي تسمى Habermasian فهي تنص على تكوين قنوات فعالة للحوار والحشد حول قيم الأفراد ومصالحهم.

ونظراً لكون المجتمع المدني يحتل مستوى متوسطاً – كما يوضح الشكل البياني السابق- بين المستوى الأول الذي تمثله الدولة والمستوى الإبتدائي الذي تمثله الأسرة فإنه يلعب دوزراً فاعلاً وهاماً في إنجاز الوظائف التي سبق الإشارة إليها بما للمجتمع المدني من بنى تنظيمية تمكنه من ذلك. فمهام مثل (1) المراقبة (2) البيان أو التعبير (3) الإندماج أو التكامل (4) التثقيف، جدير بالمجتمع المدني أن يحقق فيها إنجازات.

فمهمة المراقبة تشير إلى سلطة الدولة تبقى ضمن إطار الشرعية القانونية.

ومهمة التعبير تشير إلى تحويل القضايا والمشاكل الشخصية المنتشرة على المستوى الإبتدائي –micro level- إلى قضايا عامة تحقق فيها آمال وأهداف وإحتياجات المستوى الأولى وتعبر عنه.

ومهمة الإندماج تعني التوحد حول أهداف عامة، وقد تتراوح هذه المهمة من القيام بعملية حشد من أجل المشاركة في أشكال تنظيمية في عمل جمعي، إلى مستوى أدنى يتمثل في حشد التأييد لمنظمة أو إتحاد.

ومهمة التثقيف والتعليم لها طبيعة ثنائية: فهي من ناحية تقوم بنشر منظومة القيم والأطر المدنية والتدريب على المشاركة في الحياة العامة وممارسة المواطنة وتعلم الديمقراطية من خلال العمل، ومن ناحية أخرى فإنها تسمو بالأهداف وترفعها إلى أهداف عامة وتحولها إلى حوار مجتمعي كان من الممكن لهذه الأهداف أن تبقى قضايا غائبة لا يلتفت إليها الرأي العام ولا الفاعلين السياسيين.

عملية التحول الديمقراطي (الدمقرطة)

يعتبر “التحول الديمقراطي” عملية إجتماعية أو طيف مركب من عمليات متداخلة ذات نسيج متداخل لا يمكن فصل مكوناتها إلا على مستوى التحليل النظري. وهي ليست عملية فورية، بل لها بداية وذروة وناتج نهائي. ويمكننا أن نميز ثلاثة فترات في عملية التحول الديمقراطي: (1) المرحلة أو الطور الإبتدائي (الأولي) وفيها يطلق العنان للعمليات الإجتماعية التحويلية للحركة، وتمتاز هذه المرحلة بالقدرة على تحويل النظام القديم إلى نظام إجتماعي جديد. (2) المرحلة الإنتقالية وفيها تنتهي وظيفة النظام القديم ويبدأ ظهور النظام الجديد. (3) مرحلة الإستقرار، وفيها يستقر النظام الديمقراطي للحكومة وتكون الملاذ الوحيد لتفاعل المصالح والقيم.

لكن يبقى تساؤلاً مطروحاً على بساط البحث وهو: من الذي يطلق العمليات التحويلية من عقالها إلى دولاب الحركة؟

يجيب كلاً من Linzو Stepan و Charles Tilly بالتأكيد على دور نخبة السلطة للنظام القديم في إحداث تغييراً كبيراً في الحياة العامة، ولو أن نخبة السلطة الإستبدادية أدخلت تغييراً جوهرياً لأي أسباب كانت (أزمة إقتصادية، ضغوط دولية، قلاقل إجتماعية، هزيمة عسكرية، أو موت زعيم كارزمي) بما يفضي إلى عملية تحررية من إستبداد الدولة فإننا نكون نتيجة لذلك أمام أثرين هامين:

  • إنشقاق النخبة إلى متشددين وإصلاحيين.
  • آمال متدرجة للمجتمع لتحرر أكبر نحو عملية تحول ديمقراطي في النهاية.

إن إنشقاق النخبة يقلل جور النظام ويضع قضية شرعية السلطة على جدول الأعمال –وبالتالي- يعزز من ضغط المجتمع المجتمع نحو إكتمال عملية التحرر في نفس الوقت الذي يتم فيه السماح لظهور نخبة جديدة مغايرة للنخبة القديمة تعبر عن الطموحات والآمال العامة. ثم لا تلبث “الثورة التفاوضية” أن تعبر عن نفسها في مأسسة كيانها وصولاً إلى الديمقراطية.

لقد أصبحت هذه ا لطريقة الإستنتاجية (طريقة التفكير كما سبق) مدخلاً شائعاً في عملية التحول الديمقراطي والفترة الإنتقالية نحو الديمقراطية.

الإنتقال نحو الديمقراطية وظهور المجتمع المدني:

منذ السبعينات، أو بشكل أكثر تحديداً منذ ثورة البرتغال عام 1974 وهناك ملاحظة لعملية الإنتقال نحو الديمقراطية من الحكم الإستبدادي في العديد من الدول. وهو ما أطلق عليه Samuel Huntington “الموجة الثالثة للتحول الديمقراطي”. وصلت عملية التحول الديمقراطي وأخيراً الديمقراطية إلى جنوب أوربا وأمريكا اللاتينية والعديد من الدول، لكن الموجة الثالثة من عملية التحول الديمقراطي إستقبلت دفعة هائلة بعد إنهيار الكتلة السوفيتية. ففي معظم هذه الدول تمكنت عملية التحول الديمقراطي من إفساح المجال العام للمجتمع المدني. لكن تجدر الملاحظة أن هناك قلة من الدول كان فيها المجتمع المدني هو المبادر بدفع النظام الأوتوقراطي نحو المسار الديمقراطي.

المجتمع المدني وعملية التحول الديمقراطي في أوربا الجنوبية وأمريكا اللاتينية:

إن بداية الموجة الثالثة من الديمقراطية ترتبط بالحملة العسكرية التي أنهت الحكم الإستبدادي لـAntonio Salazar  في البرتغال عام 1974. إلا أن الفترة الإنتقالية نحو الديمقراطية في أسبانيا تُعَد بمثابة الفترة النموذجية للكثير من دول أمريكا اللاتينية. وذلك لأن أسبانيا هي الدولة التي ظهرت فيها عناصر المجتمع المدني وعملت في بيئة تفتقر إلى المؤسسات الديمقراطية. فالمرحلة الأولى الإنتقالية التي قامت بها النخبة مشفوعة بضغط القاعدة بدأت بشكل مباشر بعد وفاة Franko في عام 1975. ولقد كانت المرحلة الإنتقالية للنظام قصيرة نسبياً وسبب ذلك أن المطالبون بالديمقراطية ومؤيديهم ورثوا مجتمعاً مدنياً لم يكن راكداً، بل كانت تدب فيه الحياة، وورثوا مجتمعاً إقتصادياً مؤسساتياً لكنه كان في حاجة إلى إعادة التنظيم، وورثوا جهاز دولة صالحاً للعمل لكنه ملطخاً بالإستبداد، كما وروثوا حكماً قوياً وحديثاً لسيادة القانون. ولهذا تحقق الإستقرار للديمقراطية الجديدة في فترة ليست بالممتدة عندما إجريت إنتخابات عام 1982 والتي إنتهت بفوز المعارضة الإشتراكية.

وفي العديد من دول أمريكا اللاتينية كانت بعض عناصر المجتمع المدني حاضرة في الحياة العامة قبل الإنتقال للديمقراطية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي وذلك بسبب حقيقة أن أنظمة الحكم العسكرية البيروقراطية الإستبدادية لم تكن لديها مطلق السلطة على الفضاء العام.

وفي شيلي – على سبيل المثال – قام النظام الإستبدادي بتسريح المنظمات المدنية وإضعاف المجتمع المدني، لكن المعارضة الديمقراطية وجدت الحماية تحت مظلة الكنيسة الكاثوليكية التي ساعدت على إنطلاقة المرحلة الإنتقالية الأولية ورفض حكم Pinochet ونظامه الإستبدادي في الإستفتاء الشعبي عام 1988.

وفي البرازيل كان المجتمع المدني ضعيفاً وكانت نسبة معتبرة (حوالي 40% في عام 1988) من السكان تريد العودة إلى الحكم العسكري.

وعلى طول العديد من شعوب دول أمريكا اللاتينية كان لاهوت التحرير الكاثوليكي للإصلاحيين الكنسيين إضافة إلى نشطاء إتحاد العمال يمهد الطريق لبدايات المجتمع المدني، وعندما بدأت عملية التحول الديمقراطي كانت هذه المجموعات وأعضائها مشاركين نشطاء في عملية التحول الديمقراطي.

المجتمع المدني في شرق أوربا ووسطها:

إن العديد من الباحثين يربطون بين إنهيار الشيوعية في شرق أوربا ووسطها وإعادة الإهتمام والحياة للمجتمع المدني في الفكر الإجتماعي الغربي. ولا شك أن هذه علاقة تلازمية وليست عرضية (مصادفة)، وذلك بسبب أن هزيمة الشيوعية قد حدثت بشكل دراماتيكي مذهل دون أن تراق فيها الدماء عكس ما حدث في أنظمة الإستبداد في أمريكا اللاتينية وأوربا الجنوبية على الرغم من أن الكتلة السوفيتية الشيوعية قد تلقت تعزيزاً فيما كان يطلق عليه “مبدأ برجنيف” Brezhnev في بعض الدول – بولندا على سبيل المثال – كان المجتمع المدني حازماً وحاسماً في هزيمة الشيوعية، بينما في معظم الدول الشيوعية السابقة الأخرى ظهر المجتمع المدني فقط بعد الفترة الإنتقالية نحو الديمقراطية. المجتمع المدني في بولندا نما وتطور وهو يحمل المعارضة للدولة الشيوعية وكان في المرحلة الأولية لتطوره مشحوناً ومحملاً بالأهداف الأخلاقية التي كان يشاركه فيها مدىً من المجموعات المعارضة الضعيفة في هنغاريا وألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا.

إن تطور المجتمع المدني في معارضته للدولة الشيوعية قد تصادم في شكله وعلاقته بالدولة بفقدان الثقة المتبادل ولا يزال هذا يتردد حتى يومنا هذا.

والنقطة الأخرى هي أن النجاح المذهل للحركات الإجتماعية السلمية التي ظهرت عام 1989 (وفي بولندا 1980) خلقت إهتماماً فتجدداً في الفكر الغربي فيما يتعلق بالمجتمع المدني.

تستحق المراحل التكوينية للمجتمع المدني في بولندا الكثير من الإهتمام لأنهاأضحت النموذج لدول أخرى في المنطقة وخاصة هنغاريا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا ولا شك أن هذا النموذج قد حدد بشكل كبير الأدوار الوظيفية للمجتمع المدني (وهي معارضتها على سبيل المثال للدولة) وكيف تنتشر عملية التحول الديمقراطي ويستيقظ المجتمع المدني.

تحدث أثناء فترة النظام الإنتقالي نحو الديمقراطية ثلاثة عمليات تقريباً في كل دولة تخرج من ركام الشيوعية. أولاً عملية تجميع النواة الصلبة للمجتمع المدني متحدة إبتداءً في جهد لتحدي النظام الذي يمثل العدو المشترك. ثانياً التسريح الجزئي للحركة الأصلية (وهي ظاهرة تمت ملاحظتها بشكل مبكر في أمريكا اللاتينية). ثالثاً عملية تطوير أنماط وأشكال مؤسساتية لمختلف القوى الإجتماعية والمبادرات المدنية على المستوى المتوسط.

إن الإنسحاب الجزئي لجزء من الجماهير إلى عالمها الخاص أكد على مستوى ومدى التحرر من الوهم في مسار التغيرات الجذرية التي كانت تحدث. كما أن هذا الإنسحاب قد أشار بوضوح إلى المخاوف من ظهور قواعد إجرائية ليست ذاتية الطابع. لكن المجموعة الأخرى من الجماهير المحتشدة بقيت في الفضاء العام (بمعنى لم تنسحب إلى الفضاء الخاص) وكان لها أبلغ الأثر في خلق أسس المجتمع المدني. ومن الجدير بالإهتمام ملاحظة الأهمية التي تلعبها نسبة جماعة إلى جماعة أخرى في قيام المجتمع المدني. وهو ما يعني ببساطة أنه كلما كانت نسبة مستوى التسريح الإجتماعي كبيرة كلما كان المجتمع المدني ضعيفاً، ويصبح تحول الإتجاهات النفعية المتطابقة مع النظام القديم إلى إتجاهات مدنية محدودة الأثر.

وأثناء فترة الإستقرار (التضامن) يصبح النظام الديمقراطي وإجراءاته – كما يقول Linzو Stepan – “وهو اللعبة الوحيدة في المدنية”. ومن ثم تصبح القواعد والقوانين الأساسية الرسمية التي تم تقنينها بشكل دستوري هي الأساس المعياري للنظام برمته، وفي الوقت ذاته يتم تنظيم أعمال الدولة، والمجتمع المدني وأسس مشاركة المواطنين في الفضاء الإجتماعي. ويمكن القول هنا أن النظام الديمقراطي للحكومة قد إستقر شريطة أن تتوافر الشروط السابقة، ويمكن القول أن الفترة الإنتقالية للنظام قد تكللت بالنجاح.

المجتمع المدني في آسيا:

إن المجتمعات الآسيوية (وعلى رأسها الصين) تنتمي إلى نطاق ثقافي يمكن أن نطلق عليه نسبياً “Confucian” الكونفوشي، ولو أن كورياتمثل خليطاً بين البوذية والمسيحية، وكذلك النظام السائد في اليابان ينتمي إلى الشنتوية Shintoism.

هذه الأنظمة الدينية والفلسفية المختلفة تخلق إطاراً مرجعياً يشكل فارقاً جوهرياً في المظهر الأساسي لظهور المجتمع المدني والإنتقال نحو الديمقراطية.

ويشير العديد من الباحثين إلى أنه في ظل هذه الحضارة الآسيوية فإن مكانة الفرد في المجتمع وعلاقاته بالىخرين تختلف عنها في المجتمعات الغربية. كما أن شخصية المجتمعات تختلف عنها في النماذج الغربية. فالمفهوم الغربي للمواطنة له شخصية فردية سائدة بينما في التنوع الآسيوي تذوب الشخصية في المجتمعية كما أنها لا تتسم بشدة العداء للدولة ولكنها في تناغم مع سياستها. وهذا مما يتطابق مع ما تؤكد عليه التعاليم الكونفوشية في واجبات وإلتزامات المواطنين تجاه المجتمع والدولة أكثر مما تؤكد على حقوق الأفراد. ومن هذا المنظور يمكن القول أن الحياة الغربية العامة قائمة على نظام من العلاقات التي تتسم بـ            ، بينما يقف النظام الآسيوي مخالفاً للنظام الغربي لأنه يقوم على علاقات قوامها الثقة. ومع ذلك فمن الممكن أن تكون مثل هذه الخلفية الثقافية ارض خصبة لظهور مجتمعات محلية والمنظمات التي تعمل بشكل أساسي في إطار مجتمع مدني. من زاوية النظر هذه تتنوع الدول الآسيوية على نحو كبر. ففي كوريا كان المجتمع المدني آداة بالغة الأثر في الإنتقال إلى الديمقراطية، وبعد أن تمت هذه العملية بنجاح تضاعفت العضوية في المنظمات والمجتمع المدني ما بين عامي 1981 و 1990. وفي الصين تسيطر الدولة على مثل هذه المنظمات وتكاد المنظمات المستقلة عنهاتصل إلى حدها الأدنى وخاصة منذ عام 1989. ومع هذا، وحتى في الصين، يتزايد عدد هذه المنظمات مكوناً “مجتمعاً مدنياً” تقوده الدولة.

مواطن ما بعد الحقبة الأوتوقراطية

إن نظام أوتوقراطي، مهما كان جائراً، إلا أنه يحظى بنسبة من تأييد السكان. وهذه عادة ما تكون قلة منتفعة ولكنها تكفي النظام لأن يستمر ويعيد إنتاج نفسه. ولكن الفترات الإنتقالية نحو الديمقراطية تركت مشكلة أولئك الذين خدموا النظام الأوتوقراطي ولكنهم فقدوا إمتيازاتهم التي كانوا يمتلكونها. ولكن الحنين إلى النظام الأوتوقراطي لا يشعر به فقط هؤلاء الذين فقدوا إمتيازاتهم ولكن أيضاً أولئك الذين كانوا عملاء للنظام الأوتوقراطي ويجدون صعوبة في التكيف مع قواعد اللعبة الجديدة. إن صنف هؤلاء الذين لهم مواقف ومعتقدات إيجابية مرتبطة بالنظام القديم قد عبر عنهم Hans Dieter Klingemann بما يسمى مواطن “ما بعد الأتوتوقراطية”، مهما كانت طبيعة النظام (دكتاتورية عسكرية، أبارتهيد، أو حكم شيوعي) فإنه بعد إنهياره يترك مجموعة من هؤلاء المواطنين الذين لديهم القدرة على تحويل معتقداتهم من مواطن “ما بعد الأوتوقراطية” إلى ديمقراطي من خلال عملية طويلة نسبياً من إعادة التأهيل أو التربية. وطبقاً لعمليات المسح الإحصائي في منتصف التسعينيات من القرن الماضي (بعد عامين من الإنتقال) فإن حجم هذه النوعية تراوح من نسبة 12% في كوريا الجنوبية إلى 22% في أفريقيا الجنوبية إلى 25% في بولندا إلى 36% في ألمانيا الشرقية حتى نسبة 38% في شيلي.

عضوية الإتحادات التطوعية

أن العضوية في الإتحادات التطوعية هي إحدى مؤشرات الإنخراط المدني وتظهر الإحصاءات (التي أجرتها World Values Survey) بأن العضوية تتنوع بشكل جوهري بين الأمم الديمقراطية: من حوالي 70% في الدول الإسكندافية والولايات المتحدة إلى أقل من 30% في اليابان وأمم أوربا الجنوبية. علاوة على ذلك، فمواطني الولايات المتحدة والدول الإسكندنافية ينخرطون – في المتوسط – في عدد كبير من الإتحادات.

تظهر جداول المسح الإحصائية بأن عضوية المنظمات التطوعية تزداد في دول مثل الولايات المتحدة بينما يقل نشاط المجتمع المدني في دول مثل اليابان وبولندا. هذه الفروق في الإنخراط المدني يمكن تفسيرها طبقاً لأربعة نماذج:-

الأول: يربط مستوى المشاركة المدنية بمستوى النمو الإقتصادي للمجتمع، فكلما كان مستوى المعيشة مرتفعاً كلما كان عدد المواطنين المنخرطين في الإتحادات التطوعية أكبر.

الثاني: يربط مستوى المشاركة (الإنخراط) المدنية بالتعاليم الدينية السائدة: فالبروتستانتية – خلافاً للأرثوذكسية والإسلام والكونفوشية وحتى الكاثوليكية – يُنظَر إليها من حيث دعمها لنظام أخلاقي يقوم على تشجيع الأفراد من أجل القيام بأعمال تطوعية تفي بحاجات المجتمع الوظيفية.

الثالث: يركز على طبيعة النظام الديمقراطي: فكلاً من نماذج الرفاهية الليبرالية والإشتراكية للديمقراطية تشجعالمواطنين على المشاركة العامة، بينما النموذج المشترك للديمقراطية أقل تفضيلاً لعملية المشاركة المدنية.

رابعاً: إن إستقرار وإستمرارية الديمقراطية يربط بشكل إيجابي المواطنين في المشاركة المدنية، فكلما كانت الديمقراطية أكثر عراقة وإستقراراً كلما كانت مشاركة المواطنين في الإلتحاق بالإتحادات التطوعية أكبر.

وفي الحقيقة يمكن القول أن كل التفسيرات النموذجية الأربع السابقة تكمل بعضها البعض وتساعدنا على فهم الإختلافات في المشاركة المدنية في مجتمعات ديمقراطية مختلفة.

المجتمع المدني والقومية

خشى الكثير من المراقبين مع إنهيار الشيوعية من ظهور المجتمعات القومية بدلاً من المدنية. ولم تكن تلك المخاوف قائمة على غير أسس؛ فالصراعات العرقية في يوغوسلافيا السابقة، وفي جمهوريات القوقاز في الإتحاد السوفيتي السابق، والتوترات القائمة العرقية في هنغاريا ورومانيا، كلها تم إختبارها بشدة لإعادة ولادة الدولة القومية في المنطقة. إلا أن المجتمعات المدنية قد ولدت أيضاً من جديد.

طبقاً لما يذكره Szachi “المجتمع المدني والجماعة القومية يمثلان نموذجين مختلفين ومتنافسين لأنماط إجتماعية متخيلة كان على أوربا أن تتعامل معهما في مسار القرون العديدة الماضية. الأول يستدعي إلى الذاكرة ذلك الذي يمثل مشتركاً لكل المجتمعات المتحضرة، بينما الآخر يستدعي إلى الذاكرة كل ما من شأنه أن يؤسس لهوية متفردة لكل مجتمع”.

ومع ذلك فالمجتمع المدني يعمل من خلال حدود الدولة القومية، في إبتداع أسسها المعيارية، والأخذ من مصادر التفاهمات والقيم المشتركة التي تشكلت من خلال ميراث قومي خاص. بناءً على ما تقدم، ومن خلال أنظمة حكم ديمقراطية حديثة والتي تسمح بتطوير مفاهيم مواطنة حديثة ودورها في الفضاء العام، يصبح هذين البعدين – القومي والمدني – متمازجين ومن الصعب الفصل بينهما حتى من خلال الوسائل التحليلية.

الثقافة السياسية ونوعية المجتمع المدني

إن نوعية الديمقراطية ونوعية المجتمع المدني تحددها الثقافة السياسية للمواطنين وميراثهم الإجتماعي. يشير Putnam إلى أن الثقافة والمعايير العامة تتغير ببطء أكثر من القواعد والقوانين الرسمية، وأنها تنزع إلى إعادة صياغة القواعد الرسمية والقوانين بما يؤدي في النهاية إلى نتائج منحرفة عن الأساس الذي صيغت من أجله.

وبالإمكان تعريف الثقافة المدنية من خلال سلسلة من المواقف السائدة تجاه الآخرين المشاركين في الحياة العامة (مثل قيم الثقة والتسامح وتقبل الرأي الآخر)، وكذلك من خلال مستوى الكفاءة والأهلية في الشؤون العامة، ومن خلال الوعي بالأغراض الجمعية – على سبيل المثال السمو والتعالي على خصوصية المصالح الذاتية -، وكذلك يمكن تعريف الثقافة المدنية أيضاً من خلال الإلتزام بالقواعد والقوانين الرسمية للسلوك التي تحكم الفضاء العام.

إن المستوى المنخفض للثقافة المدنية يحدث عندما يكون مستوى الثقة تجاه الآخرين متدنياً، وعندما يكون التسامح مع وجهات النظر المخالفة هشاً، وعندما تسود الرغبة في تحقيق المصالح الذاتية بصرف النظر عن عواقب ذلك على المجتمع العريض، وعندما يتم تجاهل المعرفةللآليات الأساسية للحياة العامة، وكذلك عندما تتم عملية إنتهاك القوانين العامة بشكل روتيني.

طبقاً لما يقرره Putnam، فإن مبادئ الثقة والتبادل منناحية، ومبادئ التبعية والإستغلال من ناحية أخرى، كلاً من هذه المبادئ يصلح لأن يكون روابط إجتماعية ذات أثر فعال. إلا أن مستوى الفعالية المدنية والمؤسساتية يكون مختلفاً وفقاً لنوعية المبادئ السائدة (مبادئ الثقة والتبادل أم مبادئ التبعية – الإستغلال). الثقافة المدنية السامية ، وما تتضمنه من مصادر إجتماعية للثقة والعايير والروابط تتراكم ويسمو ويكبر بعضها البعض. ونتيجة لذلك ينشأ توازناً إجتماعياً إيجابياً. يتميز هذا التوازن بمستوى رفيع بين التعاون والثقة والتأييد المتبادل وبمستويات هامة من المشاركة المدنية، وبشكل عام زيادة في رفاهية المجتمع.

أما الثقافة المدنية المتدنية فإنها مرآة لتقاليدها: فهي تتسم بالخصوصية وغياب الثقة والإستغلال والهروب إلى العالم الخاص، ونتيجة لهذه العوامل يحدث ركود إجتماعي وإقتصادي. وكل هذه العوامل أيضاً تتجه إلى تكبير وتضخيم بعضها البعض إضافة إلى تراكمها. وهذا التوازن السلبي ينزع بمرور الوقت نحو الإستقرار، بينما تصبح عملية تصحيح مسار هذا التوازن السلبي عملية مشكلة حتى لو كان هناك قسماً في المجتمع يرغب في ذلك. وهذا الأمر يكون كذلك بسبب حقيقة أن الإتجاهات والمواقف الإجتماعية لأولئك الذين تأثروا بالتوازن السلبي يرون أن سلوك هؤلاء الذين يرغبون الخروج من هذا التوازن السلبي سلوكاً غاية في الغرابة وأنهم يتسمون بالسذاجة وأنه يمكن إستغلالهم بلا شفقة.

إن الثقافة المدنية المتدنية تؤدي إلى الظاهرة المعروفة “بالعائلية اللا أخلاقية” وهو ما يعني تعظيم المنافع والمصالح للأفراد وأسرهم على حساب المجتمع. فالإفتراض السائد – لديهم بالطبع – أن الآخرون يفعلون نفس الشيء. والخطط التي بمقتضاها يحصلون على هذه المنافع إما إنها بعيدة عن القوانين العامة الرسمية وإما أنها تعارض هذه القوانين. ولو كانت هذه الخطط (الإستراتيجيات) فعالة فإنها ستصبح أكثر مرونة وستجد لها الكثير من الأتباع. وفي هذا السياق يسود التساهل مع الفساد، وجماعات اللوبي الخارجة عن القانون، والبحث عن المخارج القانونية والتحايل الضريبي. والتأثير النسبي لمثل هذه المعايير غير الرسمية للسلوك يؤدي إلى تدهور تدريجي للقوانين الرسمية التي تنحدر حتى تصبح طقوس فارغة، وتصبح المؤسسات الديمقراطية مجرد قشرة خارجية.

في الدول التي إنبثقت من الشيوعية والتي أتمت بنجاح الإنتقال إلى الديمقراطية مر الإستقرار في نظامها الديمقراطي بمسارين؛ من ناحية، فإن ميراثها الملتبس للروابط الإعتيادية العامة والتي تمت صياغتها أثناء النظام السابق مستمرة في العمل. ومن الناحية الأخرى، هناك خطط إستراتيجية تم إبتداعها بغرض ضمان النجاح الوظيفي للنظام الجديد. وخير مثال على ذلك لمثل هذه الإستراتيجية هو تحويل رأس المال السياسي إلى رأس مال إقتصادي أثناء الفترة الإنتقالية من الإقتصاد الموجه إلى إقتصاد السوق. وهناك إستراتيجيات مشابهة تكونت في الفترة الإنتقالية للنظام، عندما تم تطوير قواعد أساسية لكنها كانت ضعيفة في موضع التنفيذ. هذه الإستراتيجيات، فعالة كوسيلة من وسائل حماية المصالح الخاصة لمجموعات المصالح المختلفة في غضون الفترة الإنتقالية للنظام وغالباً ما يتم تطبيقها في الخط الفاصل بين نظام الحكم والإقتصاد، تظل – هذه الإستراتيجيات – حاضرة في فترة الإستقرار. تحاول – الإستراتيجيات – أن تجد سبيلاً ملتوياً من حول القوانين والقواعد الرسمية، في حين أن الروابط بنخب السلطة تضمن الحصانة من إقامة الدعاوى القانونية. وينتج عن ذلك، في مستوى مؤسسات الدولة، فساداً؛ وفي المستوى الموسط، إلى تباطؤ التطوير من النفعية إلى المواطنة؛ وعلى مستوى البنى الصغيرة ، فإن مثل هذه الإستراتيجيات تزيد من فكرة أن القوانين الرسمية ما هي إلا مظهر خادع والتي من ورائها يحقق أهل السلطة والمال مصالحهم النفعية على حساب الرفاهية العامة.

لكن المجتمع المدني الحيوي هو الذي بإمكانه ترويض هذه العملية المخادعة التي يمكنها أن تقوض الإستقرار وربما حتى الشرعية للنظام الديمقراطي. إن المجتمع المدني يقدم نفسه للفرد على أنه المكان الذي تستمر فيه عملية التربية المدنية ومن خلال الإجراءات الديمقراطية ووسائل الإعلام الحرة كأداة متحكمة ومعينة على منع تدهور مجال السلطة.

رابعاً: أريد أن أخلص أن:

الكاتب وضح في مقالته ما هو المجتمع المدني والدولة الديمقراطية وعملية التحول الديمقراطي والإنتقال نحو الديمقراطية وظهور المجتمع المدني وضرب أمثلة على المجتمع المدني من شرق أوربا ووسطها وكذلك المجتمع المدني في آسيا والمجتمع المدني والقومية وكذلك الثقافة السياسية وتوعية المجتمع المدني.

إلا أن هناك بعض المآخذ عليه لمفهوم المجتمع المدني والتحول الديمقراطي بالنسبة لمفهوم المجتمع المدني على رغم من تأصيل الكاتب لوجود المجتمع المدني تاريخياً منذ فترة الرومان القدامى وأن الإستعمال الصريح للتعريف وضعه أفلاطون وأرسطو – وإن كان في تعريفه لم يشر إلى الأول – إلا أنه لم يوضح الإطار الفلسفي لمفهوم المجمتع المدني بمعنى آخر هل هو مفهوم علمي أم أيديولوجي؟

وعلى الرغم من إستخدام المؤلف لعملية المسح الإحصائي للدلالة على أن الدول التي إستقرت أنظمتها الديمقراطية (كالولايات المتحدة) – على سبيل المثال – تشكل أعلى نسبة وجود للمجتمع المدني إلا أن المؤلف لم يوضح لنا إن كان لا يزال فاعلاً في عصر العولمة بل لم يتطرق ولو بإشارة من بعيد للدور الوظيفي للمجتمع المدني المحلي الطابع مع هذه الظاهرة العالمية التي فيها تحويل الظواهر المحلية والإقليمية إلى ظواهر عالمية.

وعندما تناول نموذج المجتمع المدني في النطاق الآسيوي – الصين واليابان – الذي يقل فيها ظهور المجتمع المدني نظراً لثقافة إرثية آسيوية تعلي من قيمة ذوبان الفرد في الكل، في المقابل نموذج المجتمع المدني الغربي، إتخاذ المؤلف إلى النموذج الغربي لليبرالي الذي يعلي من قيمة الفرد في فضاء عام لا يخضع لسيطرة أي فرد آخر أو سلطة ولكنه مجال تفاعل الإرادات الفردية الحرة.

ويقلل المؤلف من أهمية ودور الوصايات التقليدية – للأديان – في تطور وينمو المجتمع المدني حيث زج الإسلام مع أصحاب البيانات والعقائد الأخرى وهو ما يعكس فهماً قاصراً للدور الوظيفي للقيم الإسلامية التي تحض أتباعها على الفضائل في كل منشط من مناشط الحياة وهي من صميم الآداء الوظيفي للمجتمع المدني حيث يعمل الأفراد في فضاء عام تتجلى فيه إمكاناتهم الفعلية للتنظيم الذاتي.

وبالنسبة لعملية التحول الديمقراطي عرض المؤلف لعملية التحول الديمقراطي على كونها تتم على مراحل ثلاث: مرحلة أولية وإنتقالية وأخيراً مرحلة بناء النظام الديمقراطي وهو قد إستعار في ذلك منهج من مناهج النقد الأدبي في الرواية الذي لابد أن يتوافر فيها العرض التمهيدي ثم العقدة وأخيراً النتيجة. وقد تطرق المؤلف للعلاقة بين المجتمع المدني والتحول الديمقراطي وكان السؤال البحثي في إطار هذا البحث يتلخص في السؤال التالي: هل المجتمع المدني سابق على الديمقراطية أم العكس؟ لم يجب المؤلف على هذا السؤال البحثي وإنما إكتفى من خلال سرد تاريخي للتأكيد أن كلاً منهما يسبق إحداهما الآخر في لحظة تاريخية معينة وفي نطاق جغرافي خاص، وهي رؤية للمؤلف تفصل فصلاً حاداً بين المجتمع المدني والدولة الأوتوقراطية وتسلم بفرضية أن المجتمع المدني شرطاً لازم للديمقراطية السياسية والإجتماعية في عملية تحول الدولة من الأوتوقراطية إلى الديمقراطية.

عن admin

شاهد أيضاً

"سلام ترام" .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين “سلام ترام” قصة …