الرئيسية / النظم السياسية / السياسة العامة / دور مراكز الفكر و الدراسات في البحث العلمي وصنع السياسات العامة
دور مراكز الفكر و الدراسات في البحث العلمي وصنع السياسات العامة
دور مراكز الفكر و الدراسات في البحث العلمي وصنع السياسات العامة arabprf.com

دور مراكز الفكر و الدراسات في البحث العلمي وصنع السياسات العامة

دور مراكز الفكر و الدراسات في البحث العلمي وصنع السياسات العامة

د. سامي الخزندار

    د.طارق الأسعد

الجامعة الهاشمية – (الأردن)

 

ملخص:

يُعتبر البحث العلمي من أهم النشاطات التي يمارسها العقل البشري؛ فمن المعروف أن تقدم الأمم و نهضتها الحضارية مرهونة برعايتها و اهتمامها به و بتطبيقاته. و من هنا، فإن هذه الأهمية للبحث العلمي تتطلب الاهتمام بمؤسساته و أدواته، كالجامعات و مراكز الأبحاث و الدراسات، سواء الحكومية منها أو الخاصة؛ لما لها من دور أساسي في عملية صنع القرار، و إعداد السياسات العامة للدول.

يسعى هذا البحث إلى دراسة دور مراكز الفكر أو الدراسات (Think Tanks) الخاصة في مجال البحث العلمي من الناحية النظرية كإطار عام، مع إعطاء بعض التركيز لهذا الدور على الحالة أو البيئة العربية. و نتناول دراسة هذا الدور من خلال منظور العلوم الاجتماعية بشكل عام، و منظور جماعة العلوم السياسية و العلاقات الدولية و السياسة الخارجية بشكل خاص.

لجأت هذه الدراسة إلى أسلوب مسح العديد من الأدبيات الغربية التي تناولت دراسة مراكز البحث و صناعة الفكر و أدوارها في هذه المجتمعات، كما لجأ الباحث إلى الاستفادة من الممارسة والتجربة العملية التي عاشها في هذا المجال، لمدة خبرة تزيد عن خمسة عشر عاماً في مجال إدارة مراكز البحوث و الدراسات و المشاريع البحثية. أيضاً، لجأ الباحث إلى استخدام عملية مقارنة بين  أدوار و مهام المراكز البحثية في العالم العربي عموماً مع المراكز الغربية؛ للتعرف على طبيعة هذه الأدوار و المهام، و كيفية تأثيرها في رسم السياسات العامة أو صناعة القرار.

وقد قدمت الدراسة في الختام تحليلاً لأهم المعوقات و التحديات التي تواجه فعالية و دور المراكز البحثية في العالم العربي.

Abstract

Scientific research is considered as the finest activities practiced by the human mind; this activity could be defined as a systematic effort of intellectual production, which aims to achieve the desired development in the future.

In spite of its modernity, Think Tanks became a global phenomenon in terms of its increasing numbers and its spread and influence. Also, Think Tanks become the source of knowledge and scientific research, as they play a key important role in the developed world in terms of public policy formulation or decision-making level.

This paper deals with a general framework of the role of Private think tanks in the field of scientific research, public policy analysis and decision-making. The paper focus on this role in the Arab environment, it discussed this role from social sciences perspective in general, and political science and foreign policy in particular.

This paper reviews and analyzes the Western literature and experience that addressed Think Tanks influence and their roles in the states or societies. Also it benefits from the practical & long experience of the researcher in the Think Tanks management & public opinion polls projects.

This study addresses several topics, including: the concept of think tanks, the history and development of think tanks, and identifying the types and varieties of research centers. Then the study focused primarily on Think Tanks role and how they influence public policy and decision-making, with a review of some Arab experience and cases.

Finally, it analyzes the major obstacles and challenges that facing the effectiveness and the role of think tanks in general, and in the Arab world in particular.

توطئة:

يُعتبر البحث العلمي من أسمى النشاطات التي يمارسها العقل البشري، فهو جهد منظم من الإنتاج الفكري الذي يهدف إلى صناعة الحياة و تحقيق التطور و النهضة أو العمران وبناء المستقبل الأفضل. فمن المعروف أن تقدم الأمم و نهضتها الحضارية مرهونة بعدة عوامل، من أهمها: رعايتها و اهتمامها بالبحث العلمي و تطبيقاته. و من هنا فإن هذه الأهمية للبحث العلمي تتطلب الاهتمام بمؤسساته و أدواته و على رأسها الجامعات و مراكز الأبحاث و الدراسات، سواء الحكومية منها أو الخاصة، لما تشكله من مصادر أساسية للإنتاج المعرفي اللازم للتطور و البناء الحضاري للمجتمعات الإنسانية عموماً، و العربية خصوصاً. كما أصبحت مراكز الأبحاث و الدراسات ظاهرة عالمية و فاعلاً أساسياً في عملية صنع القرار و إعداد السياسات العامة للدول، و خاصة في المجتمع الغربي. كما أنها أصبحت تشكل إحدى الظواهر الأساسية للتغيير الحضاري و الإنتاج الفكري و البحث العلمي.

يسعى هذا البحث إلى دراسة دور مراكز الفكر أو الدراسات Think Tanksالخاصة في مجال البحث العلمي من الناحية النظرية كإطار عام، مع إعطاء بعض التركيز لهذا الدور على الحالة أو البيئة العربية. كما يقدم تحليلاً لأهم المعوقات و التحديات التي تواجه فعالية و دور المراكز البحثية في العالم العربي. و نتناول دراسة هذا الدور من خلال منظور العلوم الاجتماعية بشكل عام، و منظور جماعة العلوم السياسية و العلاقات الدولية و السياسة الخارجية بشكل خاص.

لجأت هذه الدراسة إلى أسلوب مسح العديد من الأدبيات الغربية بشكل عام و الأمريكية بشكل خاص التي تناولت دراسة لمراكز البحث و صناعة الفكر و أدوارها في هذه المجتمعات، و ذلك في ضوء عمقو سعة التجربة والخبرة الغربية في هذا المجال، مع محاولة التعرف على كيفية الاستفادة من الشق الإيجابي لهذه التجربة العالمية، كما لجأ الباحث إلى الاستفادة من الممارسة والتجربة العملية التي عاشها الباحث الرئيس في هذا المجال لمدة خبرة تزيد عن خمسة عشرة عاماً في مجال إدارة مراكز البحوث و الدراسات و مشاريع استطلاعات الرأي العام. أيضاً، لجأ الباحث إلى استخدام عملية مقارنة بينأدوار و مهام المراكز البحثية في العالم العربي عموماً، مع المراكز الغربية، للتعرف على طبيعة هذه الأدوار و المهام و كيفية تأثيرها في رسم السياسات العامة أو صناعة القرار. و أخيراً لجأ الباحث إلى عرض حالة Case Study لإحدى التجارب العربية الخلاقة في خدمة البحث العلمي على الصعيد العربي خصوصاً و الدولي عموماً.

و قبل الخوض في موضوع الدراسة سنحاول تحديد المفاهيم الأساسية التالية: مراكز الأبحاث و الدراسات، البحث العلمي، صنع السياسات العامة Public Policy Making، صناع القرار.

مفهوم و ماهية مراكز الفكر و الدراسات:    

 بالرغم من الانطباع الأولي أو التسليم ببداهة المعرفة أو الإحاطة بمفهوم مراكز الفكر و الدراسات، فإنه عند محاولة تحديد ماهية أو مفهوم مراكز الدراسات نكتشف أننا أمام مفهوم هلامي و فضفاض يحتوي على تفاصيل متعددة و أبعاد متنوعة، و بالتالي تحتاج إلى تحديد المقصود بمراكز الدراسات أو طبيعة مفهومها.

عموماً، مراكز الفكر و الدراسات Think Tanks  كما يشير الباحث Wiardaهي مراكز للبحث العلمي و التعليم، و لكن ليست جامعات أو كليات. و هي ليست لديها طلبة، و لكن يمكن أن يكون لديها طلبة متدربون، و هي لا تقدم مساقات دراسية، و لكن هي تنظم العديد من ورشات العمل و التدريب و المنتديات. و هي لا تحاول أن تقدم معرفة بسيطة أو سطحية Smattering of expertiseفي كل المجالات و لكن تركز بشكل معمق Preeminentlyفي قضايا أساسية في السياسات العامة. كما أن مراكز الأبحاث ليست مثل المؤسسات العلمية المانحة Foundationsلأنها لا تقدم أو تعطي تمويلاً للبحث العلمي، بدلاً عن ذلك هي تبحث عن جذب التمويل لدراساتها من المؤسسات المانحة و غيرها من المصادر. و مراكز الأبحاث ليست شركات تجارية، بالرغم أن لديها منتوج Productو هي الأبحاث، و بالتالي هي ليست مؤسسات للربح المالي. أيضاً هي ليست مشابهة لجماعات المصالح  Interest Groups، حيث أن هدفها الرئيس هو البحث و الدراسات، و ليس الضغط و النفوذ، بالرغم أن بعض مراكز الأبحاث تمارس ذلك أحياناً. و بالخلاصة فإن مراكز الفكر هي منظمات بحثية هدفها الأساسي هو توفير دراسات و أبحاث تتعلق بالقضايا و السياسات العامة للدولة أو المجتمع، و تحاول أن تكون مشاركاً بفعالية و مؤثرة في قضايا و نقاشات القضايا العامة أو السياسات العامة1.

و يعرف مشروع مراكز الفكر و الدراسات العالمي، مراكز الأبحاث و الدراسات بأنها: مؤسسات تقوم بالدراسات و البحوث الموجهة لصانعي القرار، و التي قد تتضمن توجيهات أو توصيات معينة حول القضايا المحلية و الدولية، بهدف تمكين صانعي القرار و المواطنين لصياغة سياسات حول قضايا السياسة العامة. و قد تكون هذه المراكز مرتبطة بأحزاب سياسية، جهات حكومية، جماعات مصالح، شركات خاصة، أو قد تكون مراكز غير حكومية و مستقلة. و تعد هذه المراكز في كثير من الأحيان بمثابة مؤسسات وسيطة بين الأكاديميين و جماعة  صناع السياسات العامة و صنع القرار، و تهدف هذه المراكز عادة لخدمة المصالح العامة كونها جهات مستقلة تترجم نتائج البحوث و الدراسات بلغة مفهومة، و موثوقة و سهلة الوصول لصناع القرار و الرأي العام2.

بالرغم من كون التعريفات السابقة تحاول أن تقدم مفهوماً واسعاً و شاملاً، إلا أنها تعرف أو تحدد ماهية مراكز الأبحاث بشكل أساسي من خلال المقارنة أو بيان الاختلاف مع ما قد يكون متشابها أكثر من التركيز على طبيعة أو ماهية المراكز.

 و تميل هذه الدراسة إلى تحديد مفهوم مراكز الأبحاث و الدراسات و المقصود بها كما يلي: إن مراكز الأبحاث و الدراسات هي مراكز إنتاج أو إدارة المعرفة البحثية و تتخصص في مجالات أو قضايا معينة، علمية أو فكرية، و بما يخدم تطوير و تحسين أو صنع السياسات العامة أو ترشيد القرارات أو بناء الرؤى المستقبلية للمجتمع أو الدولة. و هذا المفهوم يشمل مراكز الأبحاث و الدراسات بغض النظر عن طبيعتها الحكومية أو الخاصة، و التمييز الرئيسي لمراكز الأبحاث الخاصة هنا تتمثل في أن إدارتها و سلطتها لا تخضع رسمياً إلى توجيه و سلطة حكومية باستثناء القوانين و التعليمات الناظمة لترخيص و أعمال هذا النوع من المؤسسات، كما أن تمويل المراكز الخاصة لا يخضع إلى تمويل حكومي منتظم أو خاضع لبنود الميزانية أو المالية العامة للحكومة. و المراكز الخاصة بهذا المعنى قد تكون ربحية و خاضعة لإدارة القطاع الخاص أو غير حكومية و لكن غير ربحية.

و نستخدم في هذه الورقة مصطلح مراكز الدراسات أو مراكز الأبحاث للتعبير عن مصطلح مراكز الفكر في بعض الأحيان أو كمترادفين.

مفهوم البحث العلمي و علاقته بمراكز الأبحاث و الدراسات:

إن هذه الورقة لا تتجه نحو دراسة مفاهيم البحث العلمي أو أهميته أو دوره بشكل عام، و إنما تتناول أو تقف فقط عند مفهوم البحث العلمي، و علاقته بمراكز الفكر أو الدراسات.

إن متغير البحث العلمي يشكل المتغير التابع لهذه الدراسة، و لذلك كان لا بد من تحديد مفهومه و علاقته بمراكز الأبحاث و الدراسات.

يعرف البعض البحث العلمي بأنه “وسيلة يستخدمها الباحث للاستعلام و الاستقصاء المنظم و الدقيق بغرض اكتشاف معلومات أو علاقات جديدة، بالإضافة إلى تطوير أو تصحيح أو تحقيق المعلومات الموجودة فعلاً… على أن يتبع في هذا الفحص و الاستعلام الدقيق، خطوات المنهج العلمي و اختيار الطريقة و الأدوات اللازمة للبحث و جمع البيانات”3.  و يمكن تلخيص عملية البحث العلمي بأنها “عملية تطويع الأشياء و المفاهيم Conceptsو الرموز بغرض التعميم Generalization4”.

و تميل هذه الدراسة إلى تحديد مفهوم البحث العلمي بأنه هو المجهود الإنساني، العقلي بشكل أساسي، و الجسدي بشكل متمم، المنظم و الممنهج علمياً بقصد إنتاج أو إدارة المعرفة أو ضبط و تنظيم تطبيقاتها.  و التي تتمثل سواء على صعيد صناعة أو إعداد السياسات العامة للمجتمع أو على صعيد صناعة القرارات أو اتخاذ القرارات الرشيدة في مختلف مجالات المعرفة. و تشكل مراكز الفكر و الأبحاث بيئة أساسية لتقديم الدراسات اللازمة لصياغة السياسات العامة للدولة، أو اتخاذ القرارات المناسبة و الرشيدة وفق الرؤى و الخيارات والمعطيات التي تقدمها هذه الدراسات. عموماً، إن “أغلب الدراسات حول مؤشرات الإبداع تضع أداء البحث العلمي و مراكز البحوث في قلب العملية التنموية، و الدورة الإنتاجية”5.

تنوعت تعاريف مصطلح و مفهوم السياسات العامة Public Policy، في أدبيات حقل السياسات العامة و الإدارة و العلوم السياسية تنوعاً واسعاً، و نهتم هنا بالإشارة إلى مفهوم السياسات العامة المرتبط  بالمسار العملي أكثر من المسار التنظيري أو الجدل الأكاديمي. و في ضوء ذلك فإن من مفاهيم السياسات العامة ما أشار إليه بعض الباحثين أن السياسة العامة تعني مسار عملي مقصود من قبل الحكومة أو أحد مؤسساتها لتقديم حلول لقضية معينة تلاقي اهتماماً عاماً، و يجب أن يتجسد هذا المسار العملي في صورة تشريع أو قانون أو تصريحات عامة أو أنظمة و لوائح تنظيمية محددة6، أو قرارات و اختيار بدائل. و في ضوء هذا المسار العملي لمفهوم السياسات العامة، فإن السياسات العامة كبرامج حكومية هي نتاج لعمليات اتخاذ قرارات سياسية و إدارية متداخلة و معقدة7،و من هنا فإن مصطلح السياسات العامة ارتبط بما يُعرف “صنع السياسات العامة” Public Policy Making، و هو الاتجاه الذي تسعى مراكز الأبحاث و الدراسات للتأثير فيه، و هذا الدور للمراكز هو ما تتناوله هذه الدراسة و تسعى لمعالجته في مجال صنع السياسات العامة.

من ناحية أخرى، فإنه عندما نتحدث عن صناع القرار، فلا نقصد بهم القادة السياسيين فقط، و إنما كبار المسؤولين و الإدارة العليا سواء في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص، و كل صانع قرار في مجاله.

عموماً، إن المضي في تعزيز سياسات البحث العلمي و التطوير و التنمية في الدولة يقتضي التزاماً من الدولة بإنشاء أو إتاحة المجال لإنشاء مؤسسات بحثية و مراكز فكر و دراسات خاصة و حكومية، متخصصة للمساهمة في عملية التنمية و وضع الاستراتيجيات و السياسات العامة في مختلف المجالات،  أو للمساهمة في متابعة تطبيق أو تقييم هذه السياسات و نتائجها.  كما إن الشراكة ما بين القطاعين الحكومي و الخاص على صعيد البحث العلمي، من خلال مراكز الدراسات الخاصة تشكل ضرورة استراتيجية لتطوير البحث العلمي و ارتباطه بعملية التنمية الاقتصادية أو الاجتماعية أو التكنولوجية  و غيرها.

أنواع و أصناف مراكز الأبحاث و الدراسات:

تنوعت مراكز الأبحاث و الدراسات تنوعاً واسعاً مع تعدد التخصصات في مختلف مجالات الحياة و متطلبات العصر. و ما يعنينا هنا هو ليس تحديد أنواع و أصناف مراكز الأبحاث و الدراسات بحسب التخصصات العلمية، فهذا تنوع طبيعي يظهر مع اختلاف التخصص أو المجال العلمي. و لكن سيتم تحديد أنواع و أصناف مراكز الأبحاث بشكل يظهر طبيعة التباين فيما بينها حتى و لو كانت تعمل في مجال أو تخصص علمي واحد.

 كما إن تنوع و تعدد مراكز الدراسات و الأبحاث يعتمد على طبيعة اختلاف المعايير و الأسس التي تصنف في ضوئها هذه المراكز. و فيما يلي تحديد أنواع و أصناف مراكز الدراسات و الأبحاث مع تحديد طبيعة المعايير التي صُنفت في ضوئها.

هناك اتجاه يصنف مراكز الأبحاث في العالم وفق “اتجاه العلاقة” بين الإدارة العليا و عملية القرارأو طبيعة التبعية الإدارية، و يشمل هذا الصنف نوعان8:

  • الصنف الأول: اتجاه العلاقة “من القيادة إلى القاعدة” “Top- Down”، و هذا النوع يتمثل بتصنيف مراكز الأبحاث من حيث الجهة المؤسسة أو المنشأة، أو الجهة الممولة هي الهيئة العليا، و بالتالي تقدم المراكز خدماتها و تقاريرها للجهة العليا أو القيادة أو بطلب منها. فإن كانت هذه الجهة أو الهيئة العليا حكومية،   فإن خدماتها و تقاريرها توجه للقيادة الحكومية أو بناء على تكليف منها. و إن كانت الجهة العليا، سواء المنشأة أو الممولة، هي قيادة حزبية سياسية فإن خدماتها و تقاريرها تكون لقيادة الحزب، وهكذا.
  • أما الصنف الثاني: اتجاه العلاقة من “القاعدة إلى القيادة” “Bottom -up”، و هذا النوع هو الغالب في أمريكا و أوروبا، و يعتمد على توفير الدعم من خلال مساهمات أو إسهامات contributionsالآخرين، و بشكل خاص إما من المجتمع المدني التي يغلب عليها التأسيس من الأسفل إلى الأعلى، أو من الشركات الخاصة الكبرى9.  أو المؤسسات الخيرية في تمويل البحث و البرامج العلمية في مجالات تنموية  و اجتماعية و تعليمية و غيرها.

من ناحية أخرى، هناك اتجاه آخر في عملية تصنيف أو تحديد أنواع مراكز الأبحاث و الدراسات، حيث يتم تصنيفها إلى أنواع وفق المعايير التالية10:

أولاً: معيار التمويل و الارتباط و السلطة العليا للقرار Affiliation:

و يشمل هذا المعيار، تحديد طبيعة العلاقة و المرجعية التي ينتمي أو يرتبط بها مراكز الدراسات                  و الأبحاث.

و وفق هذا المعيار يمكن تصنيف مراكز الأبحاث إلى ما يلي:

  1. المراكز البحثية الحكومية: و هذا النوع من المراكز يرتبط و يخضع لملكية القطاع الحكومي من حيث:
  • تعيين إدارته من قبل جهة أو وزارة أو مؤسسة حكومية مستقلة أو الديوان الملكي، أو غير ذلك.
  • تحديد مجالاته و أنشطته البحثية التي ترتبط عادة بسياسات و متطلبات حكومية أو احتياجات صانع القرار أكثر من ارتباطها باحتياجات أو متطلبات البحث العلمي أو أولويات تنموية معينة.
  • ارتباط بيروقراطية القرار فيه بالجهة الحكومية التي يتبع لها.
  • ارتباط ميزانيته بالتمويل الحكومي.

عموماً، إن من ميزات هذا النوع من المراكز البحثية، تخلصه من عبء توفير التمويل اللازم. بالإضافة إلى ميزة علاقته و اطلاعه أو معرفته عن قرب على احتياجات صانع القرار، و بالتالي يزيد من فرصة دوره المؤثر في رسم السياسات العامة، و في عملية صنع القرار. إلا أنه في المقابل، يعاني هذا النوع من المراكز البحثية الحكومية بشكل عام من ثلاث سلبيات أساسية:

1)      ضعف الاستقلالية في المجال البحثي، سواء على صعيد الأجندة البحثية أو سقف الحريات.

2)  تأثر قراراتها و مشاريعها البحثية بالبيروقراطية الحكومية، و تعقيداتها، و تعيش و إن كان بشكل أقل إشكاليات الجهاز البيروقراطي الحكومي، خاصة في مجال الإنفاق المالي، و هو ما ينعكس غالباً على السلبية الثالثة، و هي:

3)   لا يشكل هذا النوع من المراكز في غالب الأحيان، بيئة مولدة للأفكار الإبداعية الجديدة،           أو على الأقل صعوبة تقبلها للأفكار و المشاريع البحثية الجديدة التي لا تحقق رضى صانع القرار، و لو كانت هناك حاجة تنموية لها.

4)  إن الكثير من دراساتها و إنتاجها العلمي قد لا يُنشر أو لا يُتاح بسهولة للباحثين أو المهتمين  و يخضع لبيروقراطية القرار الإداري.

  1. المراكز البحثية الأكاديمية:

و قد يتبادر إلى الذهن انطباعاً أولياً أن هذا النوع من المراكز هي مراكز تخضع أو تتبع للجامعات، و في الحقيقة أن هذا المعنى ليس بالضرورة دقيقاً أو صحيحاً فالمقصود هنا أن مراكز الأبحاث الأكاديمية هي المراكز التي تعتمد على أكاديميين و منهجيات البحث العلمي الأكاديمي، و طريقة النشر العلمي فيها وفق آليات التحكيم العلمي11. و هذه المراكز لا تمارس العملية التعليمية أو التدريسية، و هي مراكز بعضها قد يكون مستقلاً لا يرتبط بأي جهة سواء أكانت جامعية أو غيرها، و بعضها الآخر قد يكون مرتبطاً بجامعة ما، و من أمثلة هذا النوع من المراكز البحثية المستقلة معهد بروكنجز في أمريكا Brookings Institute، مركز الدراسات الاستراتيجية و الدولية CSIS في واشنطن، و المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية IISSفي لندن.

عادة هذا النوع من المراكز يُعنى بدراسة القضايا الهامة التي تواجه المجتمع أو الدولة، كما إن تمويل هذه المراكز البحثية عادة يأتي من عدّة مصادر، بعضها مؤسسات تمويل دولية، أو من مؤسسات مانحة للبحث العلمي أو مشاريع بحثية حكومية أو شركات كبرى أو رجال أعمال و غيرها من المصادر غير المشروطة.

و تمتاز هذه المراكز بأنها هي التي تحدد برامجها و أنشطتها و أجندتها البحثية                    Research Agenda، و بما يتلاءم مع موضوعية البحث العلمي.

لذلك فهي تمتاز إلى حد كبير باستقلالها العلمي بعيداً عن الرغبات الحكومية. و لكن في المقابل فإن سعيها أن تكون عاملاً مؤثراً في رسم السياسات العامة للحكومة قد يؤثر بشكل ما أو أحياناً على موضوعاتها أو أجندتها البحثية12، و لو بشكل جزئي. إن هذا النوع من المراكز البحثية الأكاديمية عادة لا يعمل على المشكلات أو القضايا المتغيرة أو الساخنة التي تشغل المجتمع أو الدولة، و إنما يعمل على توفير التحليل المعمق و الاقتراحات المناسبة لصياغة السياسات العامة أو معالجة القضايا المستقبلية أو السياسات البعيدة المدى.

iii.  المراكز البحثية الخاصة: هذا النوع من المراكز البحثية يتمثل في عدم ارتباطه الإداري و القانوني بالقطاع الحكومي و إنما ينتمي إما إلى القطاع الخاص أو قطاع النفع العام أو مؤسسات المجتمع المدني الغير ربحية، و بذلك ينقسم هذا النوع من المراكز البحثية إلى صنفين:

أولاً: المراكز البحثية غير الحكومية و ذات النفع العام:

و هذا النوع من المراكز البحثية لا يخضع في ارتباطه الرسمي أو الإداري أو المالي إلى القطاع الحكومي و في نفس الوقت لا ينتمي كلياً إلى القطاع الخاص، و لا يسعى إلى العائد الربحي، و يحمل استقلالية إدارية و قانونية و مالية، و بالتالي يمتاز بالاستقلالية من حيث:

1) التمويل؛ فمصادر تمويله تأتي إما من مشاريع بحثية يتعاقد عليها لهيئات مانحة سواء حكومية أو رجال أعمال أو هيئات غير حكومية داعمة للبحث العلمي، أو الوقف المالي أو غير ذلك.

2) كما تمتاز باستقلالها في إعداد أجندتها و اهتماماتهما البحثية.

3) أيضاً تمتاز بأنها تلتزم بالمعايير العلمية و الأكاديمية في البحث العلمي.

4) كما أن أهدافها البحثية تتجه نحو قضايا المجتمع و الدولة أو المشاكل الدولية.

و من أمثلة هذا النوع من المراكز على الصعيد الدولي معهد بروكنجز في أمريكا، و معهد الدراسات الدولية و الاستراتيجية CSIS، و على الصعيد العربي مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت.

ثانياً: المراكز البحثية المرتبطة بالقطاع الخاص:

و هذا النوع من المراكز البحثية أنشئ من قبل القطاع الخاص إما لخدمة الشركات الكبرى التي أنشأته، بهدف القيام بإعداد الدراسات و الأبحاث اللازمة لها. و بالتالي تخضع في تمويلها أو أجندتها البحثية إلى احتياجات الشركات المنشأة لها. أو أنها أُنشئت كمراكز بحثية تنتمي إلى القطاع الخاص و لكن لا ترتبط أو لا تنتمي إلى مؤسسات أو شركات كبرى. و هذه المراكز الخاصة متخصصة و مستقلة من حيث تمويلها، و من حيث اهتماماتها و أجندتها البحثية. و هذه المراكز يتوفر لها التمويل إما من خلال المشاريع البحثية التي تتعاقد عليها سواء مع القطاع الحكومي مثل وزارة الخارجية أو الداخلية، أو غيرها أو مع الشركات الكبرى. أو من خلال التمويل الدولي لأنشطة و برامج بحثية في دول ما، و غالباً ما يكون هذا التمويل الدولي من هيئات أوروبية أو أمريكية لمشاريع بعض هذه المراكز البحثية في الدول الفقيرة. و تنتشر هذه الظاهرة بشكل واضح في بعض الدول العربية، و منها على سبيل المثال مصر، الأردن، لبنان، المغرب، و غيرها. و طبيعة هذا التمويل يشكل أحياناً تشويهاً للاستقلالية البحثية لبعض المراكز البحثية الخاصة.

ثانياً: تصنيف مراكز الأبحاث وفق الاتجاه السياسي أو الأيديولوجي:

البعض يصنف مراكز الدراسات و الأبحاث وفق الاتجاهات السياسية أو الأيديولوجية، أو طبيعة الارتباط السياسي الحزبي لها. ففي الدول الغربية يمكن تصنيف هذه المراكز إلى الفئات التالية:

  • المراكز البحثية ذات الاتجاه الليبرالي.
  • المراكز البحثية ذات الاتجاه المحافظ (القومي أو الديني أو الاجتماعي) أو الأيديولوجي، مثل مؤسسة التراث Heritage Foundationالمحسوبة على تيار المحافظين الجدد في أميركا، أو مؤسسات التيار اليميني في أوروبا.
  • المراكز البحثية ذات الاتجاه اليساري أو الاشتراكي: و هذه المراكز البحثية قد تكون ارتباطاتها المالية أو الإدارية إما مع أحزاب سياسية في الحكم أو في المعارضة، أو مستقلة من حيث الارتباط الإداري أو التمويل، و لكن تحصل على تمويل مشاريعها و أنشطتها من هيئات مشابهة لها في الأيديولوجية أو الانتماء السياسي.

أما على صعيد العالم العربي، غالباً تصنف مراكز الأبحاث وفق الطبيعة الأيديولوجية أو السياسية إلى الفئات التالية:

  • المراكز البحثية ذات الاتجاه الليبرالي.
  • المراكز البحثية ذات الاتجاه اليساري أو الاشتراكي أو القومي العروبي.
  • المراكز البحثية ذات الاتجاه الإسلامي.
  • المراكز البحثية المستقلة غير المؤدلجة أو المسيسة، أي ذات الصبغة الأكاديمية الصرفة.
  • المراكز البحثية ذات الاتجاه الوطني. (بمفهوم تبني الرؤية الرسمية للدولة أو الحكومة)

ثالثاً: تصنيف مراكز الأبحاث وفق معيار الاستقلالية:

و يصنف برنامج مراكز الفكر و المجتمع المدني في جامعة بنسلفانيا مراكز الأبحاث العاملة في مجال السياسات العامة وفق معيار طبيعة الارتباط و الاستقلالية على الشكل التالي13:

  • المراكز البحثية المستقلة Autonomous and independent: و يُقصد بها وجود درجة كبيرة من الاستقلالية للمركز عن أي جهة، سواء أكانت جماعات مصالح، أو مانحين، و كذلك استقلالية ذاتية في أنشطتها و برامجها أو تمويلها من الحكومة.
  • المراكز البحثية شبه المستقلة Quasi independent: و هي المراكز التي تكون مستقلة عن الحكومة،  و لكن تزود جماعات المصالح مثل النقابات أو المانحين أو هيئات الدعم هذه المراكز بالحصة الأساسية من تمويلها و تؤثر بشكل ملحوظ في أنشطة  و برامج هذه المراكز.
  • المراكز الجامعية University Affiliated: و هي عبارة عن مراكز تُعنى بأبحاث السياسات العامة Policy Research، و تكون ضمن أو مرتبطة بجامعة ما.
  • مراكز أبحاث الأحزاب السياسية Political Party Affiliated: و هي المراكز البحثية التي ترتبط بأحزاب سياسية بصورة رسمية، كما هو حاصل في أمريكا مع الحزب الديمقراطي أوالحزب الجمهوري.
  • مراكز الأبحاث الحكومية Government Affiliated: و هي مراكز الأبحاث التي تمول بشكل حصري من منح و عقود حكومية و لكنها لا تكون جزءاً من بنيتها الهيكلية.

عموماً، إن تنوع تصنيفات و أنواع مراكز البحوث يحددها طبيعة المعايير و الأسس التي يتم التصنيف على أساسها، وهذه المعايير تشكل المدخلات التي تفرز أو تحدد أنواع المخرجات، وبالتالي فإن تغيير هذه المدخلات (المعايير) يؤدي إلى أنواع مختلفة من المخرجات (أنواع أو أصناف مختلفة من مراكز الأبحاث). إن هذا التعدد أو التنوع في تصنيف مراكز الأبحاث لا يشكل عادة نقطة ضعف أو إرباك و إنما تنوعاً يستفيد منه الباحثين و المهتمين ما يناسب حاجاتهم و متطلباتهم.

نشأة و تطور مراكز الدراسات و الأبحاث:

إن مراكز الأبحاث ظاهرة حديثة نسبياً في المجتمعات و العلاقات الدولية، و كانت بداية نشأتها في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، و كانت بمثابة منابر للنقاش الجماعي، أو لدراسة القضايا الساخنة الأساسية التي تشغل المجتمع أو صناع القرار.

و كانت البدايات الأولى لتأسيس مراكز الأبحاث في حقبة العشرينات و الثلاثينات، و كانت أولى مراكز الأبحاث في الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال تأسيس معهد كارنيغي للسلام الدولي عام 1910 Carnegie Endowment for International Peace‏،و معهد بروكينغز Brookings Institute عام 1916، و معهد هوفر Hoover Institute عام 1918، و مؤسسة القرن Century Foundation 1919، و مجلس العلاقات الخارجية Council on Foreign Relations1921، المكتب الوطني لأبحاث الاقتصاد عام 1920 و غيرها من المراكز البحثية.

و في بريطانيا تأسس المعهد الملكي للشؤون الدولية عام 1920، و في فرنسا تأسس المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، و في ألمانيا تأسست الأكاديمية الألمانية للسلام عام 1931. كما نلاحظ نشأة مراكز بحثية خاصة تُعنى بقضايا و شؤون استطلاعات الرأي مثل معهد غالوب Gallup الذي تأسس عام 1920 في أمريكا. و يُلاحظ في هذه الحقبة أن معظم هذه المراكز لم تستطع أن تؤثر بشكل مباشر في صانعي السياسات العامة، و كان يُنظر لها كمؤسسات أكاديمية “نظرية” بعيدة عن التأثير في السياسات الوطنية أو الدولية، بالرغم من أنها كانت تحظى باحترام في خارج محيط عالم السياسة النشط، و إن كان تأثيرها بشكل غير مباشر من خلال صياغة مواقف الرأي العام أكثر من عملية تأثيرها في صانعي السياسات14.  أمّا في حقبة ما بعد الحرب الباردة، تطورت اهتماماتها البحثية نحو التركيز على قضايا محورية و معقدة Baffling Issues. و أصبحت مراكز الأبحاث و الدراسات و مراكز استطلاعات الرأي تملك في الدول الديمقراطية تأثيراً و نفوذاً واضحاً في التأثير على صناع القرار و صياغة السياسات العامة سواء على الصعيد الوطني و السياسات الخارجية للدول15.

و في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، في الأربعينيات و الخمسينيات و الستينات، تطور واقع  مراكز الدراسات و الأبحاث بشكل كبير سواء من حيث الزيادة الكبيرة في عددها، أو من حيث انتشارها في دول العالم. و من أشهر هذه المراكز التي تأسست في هذه الحقبة، المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن عام 1958 (IISS)، و في أمريكا معهد دراسات الشرق الأوسط   The Middle East Institute عام 1948، و معهد انتربرايز الأمريكي لأبحاث السياسات العامة AEIعام 1943، و مؤسسة راند Rand Corporationعام 1952 التي تُعنى بالسياسات العامة و الشؤون الدفاعية العسكرية بشكل خاص، و مركز أبحاث فض النزاعات  Center for research and Conflict Resolutionعام 1959 في جامعة ميتشغان، و في أوسلو النرويجية أسس معهد أبحاث السلام الدولي (PRIO)عام 1959، و في السويد معهد استوكهولم لأبحاث السلام (SIPRI) عام 1966، و غيرها من الدول الأوروبية مثل هولندا و فرنسا و إيطاليا و غيرها من الدول.

أما في مرحلة السبعينات و حتى نهاية القرن الحادي و العشرين، فانتشر وجود هذه المراكز البحثية في جميع مناطق العالم و ازداد نفوذها، و تنوعت طبيعة الاختصاص و المجالات البحثية لمراكز الدراسات حتى في الحقل العلمي الواحد، فعلى سبيل المثال، في مجال العلوم السياسية و العلاقات الدولية نشأت العديد من المراكز البحثية المتخصصة، بعضها في دراسات السلام و الصراع  Peace & Conflictوبعضها في الشؤون الأمنية والاستراتيجية، و بعضها في المنظمات الدولية و القانون الدولي الإنساني، و أخرى في الشؤون الخارجية، وبالمثل تنوعت اختصاصات المراكز البحثية المعنية في المجالات الأخرى، سواء الاقتصادية والمالية أو الاجتماعية، أو شؤون الهجرة و السكان و غيرها من المجالات.

و في هذه الحقبة أيضاً تطور وجود و عدد مراكز الأبحاث و الدراسات في العالم، حيث وصل عددها حسب مشروع مؤشرات مراكز الفكر و الأبحاث إلى 6480 مركز بحثي متخصص في مجال السياسات العامة في تسعة مجالات بحثية16، و تتوزع مركز الفكر و الأبحاث العالمية هذه على النحو التالي:

المنطقة الجغرافية عدد المراكز البحثية نسبة المراكز البحثية في هذه المنطقة

إلى مجموعها في العالم (%)

إفريقيا 548 8 %
آسيا 1200 18 %
أوروبا 1757 27 %
أميركا اللاتينية و الكاريبيان 690 11 %
الشرق الأوسط و شمال إفريقيا 333 5 %
أميركا الشمالية 1913 30 %
أوقيانوسيا 39 1 %
المجموع 6480 100 %

المصدر: James G. McGann, The Global “Go-To Think Tanks 2010”, Thank Tanks and Civil Societies Program, Final United Nations University Edition, January 2011, p16.

أمّا على الصعيد العربي فإن نشأة و تطور المراكز البحثية بدأت بشكل أساسي في الخمسينات في مصر، مع تأسيس المركز القومي للبحوث عام 1956 في القاهرة، بالإضافة إلى مركز الأهرام للدراسات السياسية و الاستراتيجية الذي تأسس عام 1968. و هما يرتبطان بهيئات حكومية، و تأسس معهد البحوث و الدراسات العربية عام 1952، الذي كان يرتبط بالجامعة العربية، و الذي تحول لاحقاً إلى التركيز على الأداء التدريسي و التأهيل الجامعي على حساب العمل البحثي. في حين أنه على صعيد المراكز البحثية الخاصة فكان مركز دراسات الوحدة العربية الذي تأسس في بيروت، عام 1975 كمؤسسة بحثية غير ربحية أكاديمية أو علمية المنحى، حيث تركز نشاطها البحثي في مختلف القضايا السياسية و الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية التي تهم المجتمع العربي.

لاحقاً منذ عقد الثمانينات و خاصة حقبة التسعينات حتى نهاية العقد الأول من القرن العشرين، عموماً انتشرت ظاهرة المراكز البحثية في جميع الدول العربية، و إن ارتبطت في بداياتها بالجامعات أو قطاعات حكومية، ثم انتشرت لاحقاً مراكز الأبحاث الخاصة في تخصصات متعددة سواء سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، و غيرها أو حتى المجالات البحثية التطبيقية الهندسية و التكنولوجية. و بشكل متأخر في المجالات الطبية.

عموماً، فرضت ظاهرة مراكز الأبحاث و الدراسات في العالم العربي وجودها مع اتساع انتشارها، وتنوع أنشطتها و زيادة حراكها العلمي، و تطور علاقتها مع صناع القرار في العديد من الدول العربية، إلا أنها ما زالت ظاهرة حديثة تحتاج إلى المزيد من الرعاية و الدعم.

دور و أهمية مراكز الأبحاث و الدراسات في اتخاذ القرار و صنع السياسات العامة:

أصبحت مراكز الأبحاث و الدراسات في معظم دول العالم بشكل عام، و أميركا و أوروبا بشكل خاص، تلعب دوراً أساسياً في إنتاج المعرفة و البحث العلمي و ما ينتج عنه من تطبيقات على صعيد توجيه و صياغة السياسة العامة للدول في مختلف مجالاتها الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و التعليمية وغيرها. بالإضافة إلى “عقلنة” و ترشيد القرار، و في كثير من الأحيان يتم اتخاذ القرار من المسؤولين و صناع القرار في قضايا معينة وفق ما تحدده نتائج دراسات المراكز البحثية.

إن دور و تأثير مراكز الدراسات و الأبحاث في الدول الغربية عموماً، و أميركا خصوصاً، في عملية صنع القرار و رسم السياسات العامة يتفاوت بشكل كبير عن دورهم و تأثيرهم في دول العالم الثالث بما في ذلك العالم العربي.

كما إن هناك تباين بين دور مراكز الأبحاث المرتبطة في الجامعات و بين مراكز الأبحاث التي تسير وفق المنحى الأكاديمي العلمي في دراساتها و لكنها لا ترتبط بها، كما سيتضح ذلك لنا لاحقاً. و سنتناول هنا دور و أهمية و تأثير مراكز الأبحاث و الدراسات بشكل عام ثم ننتقل إلى تناول هذا الدور في الوطن العربي على وجه الخصوص.

عموماً إن مراكز الأبحاث في أمريكا و الكثير من دول العالم المتقدم أصبحت جزء ثابت من البنية السياسية إلى المدى الذي أصبحت تُعتبر جزءاً عضوياً من عملية صنع السياسات في تلك الدول17.

و يلخص بعض الباحثين وظائف و مهام مراكز الأبحاث بما يلي18:

  1. إجراء البحوث حول تحليل المشكلات التي تواجه السياسات العامة.
  2. تقديم الإرشادات أو الاستشارات حول الاهتمامات أو المستجدات العاجلة أو الفورية للسياسات.
  3. تقويم البرامج الحكومية.
  4. تقديم التفسير و التوجيه حول المبادرات و السياسات العامة لوسائل الإعلام، و تسهيل فهم استيعاب الجمهور لها.
  5. توفير العلماء و الكفاءات الأساسية أو الخبرات اللازمة للحكومة لإعداد السياسات العامة.

 ويحدد مشروع مؤشرات مراكز الفكر المهام و الأدوار الأساسية لهذه المراكز المرتبطة بحاجة القادة و صناع القرار في دول العالم لهذه الأدوار المتمثلة بما يلي19:

  1. حاجة القادة لمراكز الدراسات لتزويدهم بتحليل مستقل.
  2. المساعدة في إعداد مكونات و عناصر أو أجندات السياسات Policy Agenda.
  3. تجسير الفجوة ما بين المعرفة و التطبيق.

إن طبيعة هذه المهام تعكس مدى أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه مراكز الدراسات و الأبحاث في التأثير على عملية اتخاذ القرار أو على صناع القرار، و كذلك في رسم السياسات العامة، أو بشكل آخر إن هذا الدور لمراكز الأبحاث هو جزء من دور يحتسب للبحث العلمي أو المعرفة بصفة أن هذه المراكز هي إحدى مؤسسات البحث العلمي و إنتاج المعرفة.

و يشير أحد الباحثين20، إلى أنه في المجتمعات الحديثة أو الدول المتقدمة، يظهر ارتباط واضح بين عملية التنمية و البحوث العلمية و التطبيقية، بما فيها استطلاعات الرأي و البحوث الميدانية. إن هذا الارتباط ضروري في حالة الدول النامية أيضاً، و ذلك من أجل مجموعة من الأهداف، منها:

  1. الكشف عن أولويات التنمية في المجتمع، و ما هي أسهل السبل و أسرعها لتحقيقها من خلال استخدام الموارد المحلية.
  2. تطوير البحث العلمي المحلي بما يتوافق مع احتياجات البيئة المحلية و توظيف الموارد الذاتية.
  3. دعم اتخاذ القرار و جعله أكثر عقلانية.

كما يشير الباحث إلى أنه تحقيقاً لهذه الأهداف تأسست العديد من مراكز الأبحاث و الدراسات سواء مراكز بحثية حكومية أو جامعية أو خاصة. كما إن هذه المراكز لعبت “ولا تزال” دوراً مهماً، ليس فقط في تقديم العلم و التقنيات و التطبيقات الصناعية العديدة، و إنما أيضاً في تطوير نظم التعليم و السياسات الاقتصادية و الاجتماعية، و إلقاء الضوء على الطرق المثلى و الاستخدام الأفضل للموارد، و ذلك برفع الإنتاجية و تقليل الهدر منها، كما ساهمت تلك المراكز في لفت الأنظار لأحد المشكلات و المعضلات التي تواجهها عملية التنمية المحلية و الدولية، و رسم السياسات في التصدي لهذه المعضلات و معالجتها بأقل التكاليف21، و في ضوء ذلك فإن دور و مراكز الأبحاث في المجتمعات المتقدمة لم يعد دوراً ثانوياً، و إنما دوراً أساسياً في رسم السياسات و ترشيد عملية اتخاذ القرار، و لذلك إن تأسيس المراكز البحثية و المستقلة يزيد من فعاليتها و دورها الإيجابي في هذين المجالين.

و كما هو معروف، إن صناع القرار أو كبار المسؤولين ليس لديهم الوقت الكافي أو المعرفة المتخصصة في بعض المجالات أو القضايا موضع القرار أو رسم السياسات العامة سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو الأمنية أو غيرها. و لذلك فإن مراكز الأبحاث تقوم غالباً بإجراء الأعمال البحثية من أجلهم. و يشير هوارد إلى أن مراكز الأبحاث أصبحت بشكل أساسي تقوم بالتفكير للحكومة                   Governments Thinking، فخبراء مراكز الأبحاث يقدمون الأفكار الجديدة و الرؤى الإبداعية بالاعتماد على أبحاثهم أو يرشّدوا السياسات العامة. و يشير أيضاً إلى أن مراكز الأبحاث تميل إلى أن تلعب دور الدمج أو التوفيق Integrating Roleعند اختلاف أو تنازع البيروقراطية الحكومية حول إعداد سياسة معينة، أو عندما يكون هناك أطراف حكومية متعددة تشارك في إعداد سياسة في مجال ما، و تكون تلك الأطراف غير موحدة أو متوافقة في سياستها و مواقفها و رؤاها، فتقوم عادة مراكز الدراسات بدور الطرف التوفيقي بين تباين هذه المواقف و سياساتها أو رؤاها22.

من ناحية أخرى تقدم مراكز الأبحاث و الدراسات الخدمات الاستشارية للقطاع الحكومي و مؤسساته في العديد من القضايا التي تتطلب معرفة متخصصة و سرعة في الإنجاز أو القرار، حيث أن المراكز البحثية عادة تتوفر لها مجموعة أو شبكة من الخبراء داخل و خارج المراكز تكون على ارتباط وثيق بها، أو تملك المراكز سرعة في الوصول إليها أو السرعة في تكليفها بمهام بحثية أو استشارية معينة، كما تملك المراكز القدرة على توفير البيانات البحثية اللازمة لصناع القرار و المسؤولين عند الحاجة. عموماً الخدمات الاستشارية التي تقدمها مراكز الدراسات تأخذ أشكال عدّة، منها23:

  1. تكليف أفراد متخصصون لإعداد تقارير مركزة و مختصرة لصناع القرار و القيادات العليا حول قضايا معينة.
  2. تكليف خبراء لمراجعة و تنقيح التقارير الخاصة أو الداخلية التي يتم إعدادها للقيادات العليا، و التي تتعلق بالدول التي سيقومون بزيارتها و القضايا موضع البحث و النقاش.
  3. تكليف فرق بحثية لتقييم قضايا حساسة أو موضع جدل و نقاش Critical issues.

عموماً، الأدوار الاستشارية تدور حول تشخيص المشكلات و الأزمات و تحليلها و اقتراح الحلول            و المواقف و السياسات المناسبة للتعامل معها، و غالباً ما يكون ذلك في القضايا ذات الطبيعة العاجلة  أو الساخنة.

و من الأدوار الحديثة التي أصبحت تقوم بها بعض المراكز البحثية هي ممارسة “الدبلوماسية الأكاديمية”  Academic Diplomacy 24، كأن يرسل بعض الخبراء و الأكاديميين العاملين في مراكز الأبحاث من قبل وزارة الخارجية أو مؤسسات أمنية أو غيرها، إما لمعرفة آفاق تسوية، أو المشاركة في وساطة أو مفاوضات حول أزمة سياسية معينة، و يكون ذلك بشكل غير رسمي أو بشكل رسمي، أو بشكل معلن أو في مسار موازي Second Track، كما حصل على سبيل المثال في المرحلة السرية لما قبل الوصول إلى اتفاقية أوسلو، حيث قام تيد لارسون رئيس معهد أبحاث السلام في أوسلو PRIOبترتيب عملية المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني و الإسرائيلي في النرويج و بشكل سري، و أحياناً تكليفهم للمشاركة في مؤتمرات دولية للاطلاع على أحدث المعلومات و الطروحات السياسية أو بناء العلاقات.

أيضاً من الأدوار التي تقوم بها مراكز الأبحاث الخاصة هي مرافقة خبراء من هذه المراكز لكبار المسؤولين أو مع الوفود الرسمية الحكومية في زيارتهم الرسمية للدول كمستشارين خبراء في قضايا معينة موضع النقاش في جدول أعمال المسؤولين أو هذه الوفود الحكومية.

بالإضافة إلى ذلك تكون هذه المراكز في بعض الأحيان بمثابة “الباب الدوار” “RevolvingDoor”25 بين الدبلوماسيين أو المسؤولين أو المناصب العليا في الدولة، و بين الخبراء و العاملين في هذه المراكز البحثية، وذلك من حيث تداول المناصب، ففي كثير من الأحيان يتم اختيار و تكليف بعض الخبراء في هذه المراكز البحثية للعمل في مناصب حكومية عليا مثل وزراء أو مستشارين للقيادة السياسية أو سفراء و دبلوماسيين و غير ذلك. و كذلك العكس حيث الكثير من المسؤولين عندما يخرجون من مناصبهم العليا يذهبون للعمل في هذه المراكز البحثية إما بصفة خبراء أو باحثين في الإدارة العليا أو مجالس الأمناء أو غيرها التي تشرف على سياسات و برامج و أنشطة هذه المراكز البحثية.

و في أحيان أخرى تعتمد الحكومة أو بعض المسؤولين فيها على بعض المراكز البحثية المقربة من صناع القرار، أو على بعض الخبراء و الباحثين العاملين فيها لإجراء المقابلات الإعلامية، و ذلك لإرسال أو التعبير عن رسائل سياسية فورية، أو إشارات دبلوماسية غير مباشرة، أو التعبير عن مواقف استباقية معينة إلى بعض الأطراف حول قضايا جدلية أو أزمات سياسية.

أيضاً من أدوار مراكز الأبحاث، أنها تلعب أحياناً دوراً مهماً “كقناة” اتصال غير مباشرة أو غير رسمية بين الشخصيات السياسية أو كبار المسؤولين، و خاصة الأطراف أو الشخصيات الخارجية             أو الدولية، و ذلك للتعرف على طروحاتهم و آرائهم السياسية و طبيعة اهتمامهم و أدوارهم،أو لمعرفة الاتجاهات الدولية السائدة في مجال قضايا اقتصادية أو سياسية أو غيرها، و ذلك من خلال المشاركة في أنشطة علمية مشتركة أو دعوة هذه الشخصيات أو المسؤولين للمشاركة في المؤتمرات و الندوات التي تعقدها هذه المراكز البحثية. و من خلال شبكة العلاقات التي تملكها هذه المراكز البحثية.

 كما إن لدى هذه المراكز البحثية القدرة على متابعة أحدث الدراسات و ترجمة المنشورات و المؤلفات التي تصدر عن المؤسسات و المراكز البحثية في الدول الأخرى خاصة الدول التي تكون موضع اهتمام خاص. و بمعنى آخر فإن مراكز الأبحاث تشكل مصدراً هاماً للمعلومات أو المعرفة للمسؤولين و القيادات العليا حول طروحات و آراء الآخرين لدول أخرى في القضايا أو الشؤون الدولية26.

أيضاً تلعب مراكز البحوث من خلال دراساتها دوراً هاماً في مجال “المستقبليات” أو المجال “الاستشرافي” خاصة مع تطور علم المستقبليات Futuristic في العالم الغربي و التي أصبحت نتائج هذه الرؤى المستقبلية من المتطلبات الأساسية للتخطيط الاستراتيجي في الدول المتقدمة، و إن كان هذا النوع من الدراسات في العالم العربي ما يزال يقوم في الكثير منه وفق تنبؤات أو تقديرات أو انطباعات تتولد لدى الباحثين أكثر منه الاعتماد على أسس “علم المستقبليات” و الذي بدأ ينمو بشكل بطيء في عالمنا العربي27.

أخيراً، فإن مراكز الأبحاث من خلال خبرائها و علمائها تعمل على “عقلنة” أو “ترشيد” القرار لدى المسؤولين، و بالتالي المساهمة في تصويب أو تحجيم احتمالية الخطأ أو المخاطر أو الفشل في صنع القرار و إعداد السياسات العامة و حسن التخطيط، و توفير الرؤى و الأفكار العلمية و الإبداعية في الدولة.

و ربما من المفيد هنا الوقوف و المقارنة بين دور مراكز الأبحاث ذات الطبيعة الأكاديمية و المرتبطة بالجامعات، و مراكز الأبحاث الخاصة ذات المنهجية العلمية أو الأكاديمية و لكن لا ترتبط بأي جهة حكومية أو رسمية سواء أكانت جامعية أو غيرها، أي التي تعمل وفق المنهج العلمي و لكن باستقلالية، حيث أن هذه المقارنة سوف تظهر طبيعة اختلاف دور هذه المراكز و أسباب تباين تأثيرها لدى صانع القرار، أو في صياغة السياسة العامة في الدولة، و يمكن تلخيص أهم عناصر طبيعة اختلاف هذه الأدوار بما يلي28:

1.المراكز الأكاديمية الجامعية تميل إلى بناء “المعرفة النظرية ” أو “التنظير”، و بالتالي تكون بعيدة عن الواقع Realities السياسي، و الذي يحتاجه أو يتعاطى معه صانع القرار  أو صانعي السياسات. وهذا ما تحاول المراكز البحثية الخاصة غير الجامعية أن تعمل به و تبحث في معالجته.

2.تميل المراكز الأكاديمية الجامعية إلى إيجاد و تطوير نماذج Models أو اكتشاف نظريات         و قواعد عامة للسلوك سواء السياسي أو الاقتصادي أو غيرها، مثل التعامل مع نظريات الصراع مثل نظرية الحرمان النسبي أو نظرية التبعية أو غيرها، لتفسير سلوك صراعي ما. فليس لدى صانع القرار الوقت و لا الرغبة أو الميل (inclination) ليتعامل مع هذه النظريات، فهو يريد التفسير المباشر و الواضح في إجراءاته و خطواته للتعامل مع الأحداث و الأزمات و الصراعات السياسية و غيرها.

3.تميل المراكز الأكاديمية الجامعية إلى الطروحات المثالية و الأخلاقية في غالب الأحيان، و ما هو يجب أن يكون عليه الحال، و هو ما لا يراه عملياً الكثير من صناع القرار، خاصة في البيئة أو الشؤون السياسية الدولية، بينما تميل المراكز البحثية الخاصة إلى تفهم أقدر لهذه “الواقعية العملية” إلى صناع القرار، و بالتالي تتجه و تميل إلى إعداد الدراسات بما يتلاءم مع هذا الاتجاه أو الحاجة العملية لصانع القرار.

4.المراكز البحثية الجامعية عادة لا تكون على دراية كافية بالقيود و التجاذبات البيروقراطية             و مراكز القوى التي تواجه صانع القرار أو صانعي السياسات العامة، و بالتالي لا تعطي اهتماماً أو تقديراً كافياً لذلك، و هو ما يخلق تعقيدات و مشكلات إدارية لا يميل صانع القرار أو صانعي السياسات العامة إلى التعامل معها، و في المقابل غالباً المراكز البحثية الخاصة تأخذ أو تعطي هذا الأمر اهتماماً خاصاً و تحاول الاطلاع على تفاصيله سواء من صناع القرار أو مصادر أخرى، سعياً لنجاح أو قبول طروحاتها و مشاريعها لدى صناع القرار، و تقدم التوصيات و الرؤى التي تأخذ هذه المعوقات بعين الاعتبار.

دور مراكز الدراسات و الأبحاث في العالم العربي:

أما على الصعيد العربي، فإن دور مراكز الدراسات و الأبحاث في العالم العربي تتقاطع في أجزاء منه مع بعض الأدوار المتعارف عليها لمراكز الأبحاث في العالم الغربي، و تختلف كلياً في أدوار أخرى. و مراكز الأبحاث الخاصة في العالم العربي لا تملك بشكل عام التأثير و الدور الذي تلعبه مراكز الأبحاث الخاصة الغربية في إعداد السياسات العامة أو لدى صناع القرار و في خدمة البحث العلمي. و لكن دور مراكز البحوث العربية يعيش حالة من التطور و النمو سواء من حيث الانتشار أو من حيث التأثير و الفعالية، و لكن ما زال الأمر في مراحل غير متقدمة. و يعبر عن هذا التطور واقع رئيس سابق لإحدى الجمهوريات العربية قبل ما يزيد عن عشرة أعوام: “أنه عندما كان لا يزال رئيساً كان لا يقيم أي اعتبار لمراكز الدراسات و لا للباحثين، و كان يظن أن المسؤول أقدر على الإلمام بشؤون المهام الملقاة على عاتقه لأنه يعايشها بشكل محسوس و ملموس يومياً، بينما الباحث لا يجيد إلا “التنظير” و حبك الجمل و تعقيد الأفكار…. و لكن و بعد أن أصبح خارج السلطة أيقن أهمية وجود مراكز بحثية، فبدأ يروج لهذه القناعة لدى معارفه ممن لا زالوا في مواقع القرار في الوطن العربي”29.

من ناحية أخرى، إن مراكز الأبحاث العربية يغلب عليها الارتباط إما بالقطاع الحكومي أو بالجامعات العربية، أما المراكز البحثية ذات الارتباط بالقطاع الخاص ظهر دورها و حراكها حديثاً نسبياً، و إن كان أهم أدوارها يتمثل في:

  1. النشر العلمي سواء في قضايا ساخنة أو قضايا موضع اهتمام الرأي العام العربي.

2.تنظيم الأنشطة العلمية مثل المؤتمرات و وورش العمل غالباً ما يكون في قضايا و مجالات سياسية أو تغييرات دولية تقع ضمن اهتمام صناع القرار الرسمي و بذلك يتم توفير التمويل اللازم لها من وزارات أو قطاعات حكومية معينة أو صناع القرار في الدولة.

3.إعداد الدراسات الاستشارية الخاصة وفق تكليف من صناع القرار في قضايا عامة أو حساسة،           و عادة هذه الدراسات لا تخضع للنشر، و غالباً هذه الدراسات تتناول تحليل المشكلات ووضع الاقتراحات و التوصيات للتعامل معها. و غالباً هذا التكليف يتم في حالة وجود علاقات شخصية بين صانع القرار و إدارة مراكز الدراسات.

4.المتابعة للمستجدات في الاتجاهات العالمية و في شؤون المنطقة أو توفير الملخصات حول هذه المستجدات لصناع القرار.

5.العمل على دراسة و إجراء استطلاعات للرأي العام المحلي حول قضايا أو قرارات قبل  أو بعد صدورها، أو العمل على تحديد الاحتياجات و متطلبات الشعب، و غالباً ما تخضع هذه الاستطلاعات للاطلاع الخاص و ليست للنشر.

من جانب آخر، فإن مراكز البحوث الجامعية و خبراتها الأكاديمية في العالم العربي تملك مصداقية أكبر لدى الحكومة أو صناع القرار عن مراكز الأبحاث الجامعية في العالم الغربي. من ناحية أخرى فإن دور مراكز الأبحاث الخاصة العربية أصبح يزداد قرباً و مصداقية و نفوذاً لدى صناع القرار، و لكن ذلك يقوم بشكل أساسي على طبيعة العلاقات الشخصية بين القائمين على مراكز البحوث العربية و صناع القرار في بلدانهم، و كذلك طبيعة الاتجاهات السياسية التي تنتمي إليها هذه المراكز البحثية.

كما إن نمو ظاهرة الشراكة بين القطاع الخاص و القطاع الحكومي في الدول العربية يساهم أيضاً في تعزيز دور مراكز الدراسات و مؤسسات البحث العلمي. عموماً، و كما يشير تقرير المعرفة العربي إلى أن الشراكة بين الدولة و مراكز البحوث الخاصة كإحدى مؤسسات المجتمع المدني تعتبر عنصراً ضرورياً و تشكل رافعة أساسية لدور مراكز الأبحاث كإحدى مؤسسات القطاع الخاص. و تعتبر الشراكة بين الدولة و القطاع الخاص و المجتمع المدني ضرورية للارتقاء بالبحث العلمي و الإبداع في المجتمع. و يمكن لهذه الشراكة أن تأخذ نموذجين متقاطعين و متكاملين في آن معاً. و يتضمن الأول شراكة تفاعلية بين مؤسسات البحث و التطوير و مؤسسات التعليم العالي بحيث ترفد الجامعات و مؤسسات البحوث بالموارد البشرية، ثم تقود لإدماج نواتج البحوث في مناهجها التعليمية. أما النموذج الثاني فيتم عبر الشراكة التفاعلية بين قطاعات الخدمات و الإنتاج الاقتصادي و المجتمعي من جهة، و مؤسسات البحث و التطوير و مؤسسات التعليم العالي من جهة أخرى، و تعمل هذه الشراكة على تحديد الاحتياجات المجتمعية و أولويات البحوث، و ترجمة نواتجها إلى تطبيقات مفيدة30. عموماً إن توفرت الإرادة لدى صناع القرار فإن المراكز البحثية قادرة إلى حد كبير على تحقيق الشراكة على صعيد صنع السياسات العامة، و إعداد استراتيجيات حل المشكلات و الأزمات.

كيفية تأثير مراكز الأبحاث في صنع السياسات و اتخاذ القرار:

إن مراكز الفكر و الأبحاث عادة تمارس دورها في التأثير على صناع القرار، أو صياغة السياسات العامة من خلال عدّة أشكال أو و سائل، بعضها مباشر، و بعضها غير مباشر. بعضها قد يكون تأثيره على المدى البعيد، و بعضها يكون تأثيره على المدى القصير. و يمكن تلخيص أهم أشكال و طرق و وسائل تأثير مراكز الأبحاث بما يلي:

  1. الأنشطة العلمية التفاعلية: و هذا النوع من الأنشطة يتمثل في عقد المؤتمرات أو الندوات وورش العمل حول قضايا تقع ضمن اهتمام المسؤولين و صناع القرار، و عادة المشاركين في هذه الأنشطة تفتح المجال للحوار و النقاش المباشر بين الباحثين أنفسهم أو مع المشاركين من المهتمين من صناع القرار و المسؤولين. و هذا النوع من الأنشطة يكون عادة ثري بالنقد من جهة،و بتوليد الأفكار من و الاقتراحات الجديدة من جهة ثانية، و التعرف على الاتجاهات العامة لدى الباحثين و الخبراء حول القضايا موضوع المؤتمر أو الندوة من جهة ثالثة.
  2. الحلقات البحثية أو اللقاءات المغلقة: و هي تدخل ضمن الأنشطة البحثية التفاعلية، و لكنها عادة تكون بين كبار المسؤولين أو صناع القرار مع فريق من الخبراء المكلفين بإعداد دراسات معينة تتعلق بقضايا معينة أو إعداد سياسات عامة. و قد تكون قبل البدء بالدراسة للتعرف و الإحاطة باهتمامات و احتياجات و متطلبات صانع القرار، و أثناء إعداد الدراسة للتأكد من سلامة سير الدراسة وفق احتياجات صانع القرار و متطلباته، و كذلك للاطلاع على طبيعة تطورات مسيرة الدراسة، و أخيراً، تكون بعد الانتهاء من الدراسة. و عادة نتائج هذه الدراسة لا تنشر أو ينشر منها ما هو يخدم أهداف إعداد الدراسة أو صانعي القرار فقط.
  3. وسائل الإعلام: عادة ما تستقطب أو تستضيف و سائل الإعلام، خاصة الفضائيات التلفزيونية            و الصحافة، الباحثين و الخبراء العاملين في مراكز الأبحاث للاطلاع على آراءهم و تحليلهم العلمي حول القضايا الساخنة أو الأزمات السياسية أو القضايا و السياسات الحكومية مثار الجدل لدى الرأي العام، و غالباً تلعب آراء الخبراء و المحللين دوراً في صناعة أو صياغة أو تعديل مواقف و اتجاهات الرأي العام، و هو ما يشكل في بعض الأحيان ضغوطاً على صانع القرار لتعديل سياساته و قراراته أو توجيهاً إيجابياً له.
  4. المشاركة في النشاط العام: إن العديد من الباحثين و الخبراء العاملين في مراكز البحوث و الدراسات يتم دعوتهم للمشاركة في لقاءات أو محاضرات و أنشطة عامة، سواء في مؤسسات تعليم جامعية أو في نقابات أو في جمعيات أو مؤسسات المجتمع المدني. و هذه المشاركات قد تكون على مستوى البيئة المحلية أو الوطنية أو النشاط الدولي. و غالباً ما تشكل مشاركة هؤلاء الخبراء و الباحثين تسويقياً فاعلاً لآرائهم و أطروحاتهم السياسية أو العلمية، كما يجعل منهم أسماء و مرجعيات و رموز معروفة سواء على المستوى الشعبي أو النخبوي على الصعيد الوطني أو الإقليمي أو الدولي.
  5. العلاقات المباشرة أو الشخصية مع صناع القرار: إن الكثير من الخبراء و الباحثين في مراكز الأبحاث يملكون إما علاقات مباشرة أو سهولة في التواصل مع صناع القرار أو المسؤولين المعنيين في مجالات الاختصاص أو القضايا المشتركة أو المتشابهة، و هذا ما يسهل من قدرتهم على الإقناع و التأثير و معرفتهم لاحتياجات و متطلبات صناع القرار و المسؤولين. كما إن الكثير من الباحثين و الخبراء كانوا في مواقع  صناع القرار، مما وفر لديهم شبكة واسعة من العلاقات مع المسؤولين و صناع القرار و في قطاعات مختلفة في المجتمع أو الدولة.

من ناحية أخرى فإن معظم الباحثين و الخبراء في مراكز الأبحاث يتوفر لديهم الغطاء أو العنوان العلمي المقبول بشكل كبير  للتواصل مع المسؤولين أو مؤسسات المجتمع، و خاصة مع المؤسسات الإعلامية و الأكاديمية و رجال الأعمال و المسؤولين الحكوميين و غيرهم. كما إن هذا التواصل يوفر لديهم القدرة على بناء شبكة من العلاقات الشخصية مع العديد من هؤلاء المسؤولين. كما إن مشاركتهم في الأنشطة العامة تجعل الكثير منهم رموزاً معروفة تزيد من قدرتهم على الوصول إلى المسؤولين  و صناع القرار. مالم يكن هناك معوقات سياسية تحد من ذلك.

  1. النشر العلمي و المؤلفات العلمية: إن من ضمن الاهتمامات الأساسية و أولويات مراكز الأبحاث هي “النشر العلمي”، و هو يشكل المخرجات أو المنتوج الأساسي الذي تستهدفه مراكز الدراسات و الأبحاث، و لا يمكن عند الحديث عن وجود مراكز أبحاث بدون أن يكون له نشر علمي، و إلا فسوف يُصنف ضمن قطاع آخر غير قطاع مراكز الأبحاث و الدراسات. و إن النشر العلمي عادة له تأثير على المدى القصير من خلال التغطية الإعلامية و حملة العلاقات العامة للمؤلفات و الدراسات الجديدة. و بينما يكون التأثير على المدى المتوسط و البعيد من خلال اعتماد الدراسات والكتب و المؤلفات العلمية في عملية التأليف و النشر كجزء من عملية البحث العلمي، بالإضافة إلى الاستفادة من مطبوعات و منشورات مراكز الأبحاث في كثير من الأحيان في العملية التدريسية لطلبة الجامعات في مؤسسات التعليم العالي.

إن محاولة معرفة مدى تأثير مراكز الأبحاث و الدراسات لدى صناع القرار أو صانعي السياسات العامة دفعت العديد من الباحثين إلى إيجاد مؤشرات أساسية تساعد في معرفة حجم تأثير هذه المراكز، و من أهم المؤشرات كما يلخصها بعض الباحثين كما يلي31:

  • مدى العلاقات و الاتصالات مع صناع القرار أو صانعي السياسات، أو الإدارة المنفذة             أو المشرفة على تنفيذ للسياسات.
  • مدى حجم وجودة الأبحاث و الدراسات الصادرة عن مركز الأبحاث و اتساع توزيعها.
  • مدى استخدام صانعي السياسات العامة أو متخذي القرار لإصدارات أو أبحاث و دراسات مركز الأبحاث.
  • مدى استخدام أو اعتماد أو اهتمام النخب المتنفذة، مثل كتاب الصحافة و المعلقين الإعلاميين و هيئات التحرير.

عموماً، إن نفوذ و تأثير مراكز الأبحاث و الدراسات يعتمد على طبيعة القضية موضع الدراسة و تعقيداتها،  و على طبيعة البيئة السياسية و الاجتماعية و ما يتعلق بها من مستوى الحريات و النمط الثقافي و غيرها،  و على توقيت العمل في الدراسة و إنجازها، و على توفر التمويل اللازم للدراسات مع مستوى الاستقلالية، بالإضافة إلى أهمية و دور الجهة الداعمة و المنفذة للدراسات التي تعمل على إنجازها مراكز الدراسات  و غير ذلك من العناصر.

أهم الإشكاليات و التحديات التي تواجه دور و فعالية مراكز الأبحاث و الدراسات:

إن هناك مجموعة من الإشكاليات و التحديات التي تواجه مراكز الأبحاث و الدراسات التي تؤثر على دورها و فعاليتها، سواء في مجال البحث العلمي بشكل عام و في مجال صنع السياسات العامة  و عملية صنع القرار بشكل خاص. إن الإشكاليات و التحديات التي تواجه مراكز الأبحاث و الدراسات يمكن تقسيمها إلى مجموعتين، الأولى الإشكاليات العامة المشتركة، و الثانية الإشكاليات التي ترتبط بخصوصية البيئة التي تعمل فيها مراكز الأبحاث و الدراسات، و نقصد هنا بالتحديد البيئة العربية. و فيما يلي استعراضاً لأهم هذه المشكلات و التحديات.

أولاً: الإشكاليات و التحديات العامة المشتركة:

1)  إشكالية التمويل Funding: إن إشكالية توفير التمويل اللازم لمراكز الأبحاث و الدراسات، أو للمشاريع البحثية التي تقوم أو ترغب بإنجازها، تُعتبر من أهم التحديات و الإشكاليات التي تواجهها مراكز الأبحاث و الدراسات الخاصة، فهذه الإشكالية تلعب دوراً محورياً في سياسات المراكز و استقلاليتها العلمية والسياسية، و كذلك في تحديد أجندتها البحثية، و أحياناً في اختيار مستوى أو نوعية الخبراء و الباحثين، أي مستوى الكفاءات العلمية القائمة على البحوث و الدراسات. و بالمحصلة في مستوى أو الجودة العلمية للدراسات أو المنتوج العلمي. و هذه الإشكالية تُعتبر من أخطر و أصعب التحديات التي تواجه المراكز البحثية الخاصة.

2)  إشكالية الموضوعية و الاستقلالية العلمية: إن مشكلة الاستقلالية العلمية هي تحد آخر يواجه مراكز الأبحاث الخاصة، و يقصد بالاستقلالية هنا سواء من حيث اختيار المواضيع أو تحديد الأجندة البحثية، أو الاستقلالية في التعبير و نشر نتائج الدراسات، أو في قدرتها بالمحافظة على الموضوعية العلمية في الدراسات و الأبحاث. بمعنى آخر إن إشكالية الاستقلالية في جوهرها تعتمد على مدى توفر استقلالية القرار السياسي و العلمي و المالي لهذه المراكز. و إن مستوى الاستقلالية عموماً يخضع لمجموعة من العوامل منها مستوى الحريات السياسية، و مستوى التطور الاجتماعي و العلمي في الدولة، و مدى توفر التمويل و مصادره. و لذلك و حرصاً على الاستقلالية، تشترط بعض مراكز الفكر و الأبحاث العالمية على عدم قبول التبرعات المشروطة، أو عدم الاعتماد في تمويل مشاريعها و عقودها البحثية على الحكومة إلا بنسبة محدودة و ضيقة مثال ذلك معهد بروكنجز الأمريكي،  و مركز الدراسات الدولية و الاستراتيجية CSIS في أمريكا لا يقبلون عقود بحثية Contract Research من الحكومة إلا بنسبة لا تزيد عن أو تتراوح حول 15% فقط من ميزانيتها. بينما بعضها الآخر مثل مركز AEI يرفض كلياً العقود البحثية مع الحكومة حرصاً على الاستقلالية32. و تعتمد العديد من مراكز الأبحاث و الدراسات على “الوقف” لتمويل جزء كبير من ميزانيتها. من ناحية أخرى، فإن إشكالية الاستقلالية العلمية تتأثر في أحيان كثيرة بطبيعة الانتماء الأيديولوجي أو الارتباط السياسي لمراكز الدراسات أو القائمين عليها. و إن كان لديها التمويل الخاص بها، و هذا الانتماء أو الارتباط يؤثر في تحديد الأولويات البحثية، و منهجية التحليل العلمي، و طبيعة قضايا و مواضيع الدراسات، و توصياتها، و نوعية النشر العلمي و أولوياته.

3)  الاستمرارية في الإبداع و الابتكار و إنتاج الأفكار الجديدة: إن عملية الإبداع العلمي أو الفكري و إنتاج الأفكار الجديدة في البحث العلمي و إعداد السياسات العامة يُعتبر من التحديات الصعبة التي تتطلب كفاءات و خبرات علمية مميزة.

و هذا التحدي يعني القدرة المستمرة على العمق في تحليل المشكلات و توفير الحلول الإبداعية مع القدرة العلمية على حسن استشراف المستقبل.

 و عادة توفر هذه القدرة الإبداعية لبعض مراكز الأبحاث يجعل منها ذات تأثير و نفوذ لدى صناع القرار وفي صناعة السياسات العامة، و مرجعية علمية لدى الباحثين و المهتمين. إن حجم  و مستوى الإبداع و الابتكار لدى مراكز الأبحاث و الدراسات يجعلها تسير باتجاه المزيد من الفعالية و التأثير سواء على الصعيد المجتمعي أو الدولة أو الشؤون الدولية، أو مستوى صناع القرار في مختلف القطاعات التي تقع ضمن مجالات اهتمامات و عمل هذه المراكز البحثية.

ثانياً: الإشكاليات و التحديات التي تواجه مراكز الأبحاث و الدراسات الخاصة في العالم العربي

على الصعيد العربي بالرغم من وجود بعض التباينات القطرية بين الدول العربية فإن هناك مجموعة من التحديات و الإشكاليات المتشابهة أو المشتركة التي تواجه دور مراكز الأبحاث و الدراسات سواء في مجال البحث العلمي، أو في المساهمة في صياغة السياسات العامة أو دعم عملية اتخاذ القرار العربي الرسمي.

بالإضافة إلى الإشكاليات أو التحديات التي سبق الإشارة إليها (التمويل، الاستقلالية، القدرة على الإبداع و إنتاج الأفكار الجديدة) فإن هناك مجموعة أخرى إضافية من الإشكاليات و التحديات، خاصة بالعالم العربي، و أحياناً يتشارك فيها مراكز الأبحاث و الدراسات في العالم الثالث. من أهم هذه التحديات و الإشكاليات ما يلي:

  1. ضعف “ثقافة التفكير المنهجي” لدى الكثير من المسؤولين و الإدارة العليا:

إن هذه الإشكالية تتمثل في أن الكثيرين من صناع القرار أو المسؤولين يعتقد أنه “الأعلم” و “الأقدر” على الفتوى في الكثير من المجالات أو المهام المسؤول عنها، و بالتالي فهو لا يتلمس ضرورة الاعتماد على المراكز البحثية التخصصية، أو تكليف مرجعيات علمية خارجية تملك العمق المعرفي التخصصي، أو الأدوات المنهجية اللازمة للتحليل العلمي للقضايا و المشكلات موضع القرار، أو اللازمة لإعداد السياسات العامة. بعكس الكثير من صناع القرار في المحيط الغربي أو الدول المتقدمة التي تعتمد كثيراً على القدرات و المؤسسات الخارجية لتزويدهم بالمعرفة التخصصية و التحليل المنهجي اللازمين قبل اتخاذ القرار. و هذا الأسلوب لديهم هو جزء من “ثقافة منهجية” في التفكير و الإدارة و صنع القرار. و هذا هو السياق الطبيعي، فعدم أو محدودية المعرفة في مجالات معينة لدى صناع القرار يُعتبر سياق إنساني طبيعي يعالج بالتكامل أو الاعتماد على “أهل الاختصاص” سواء أكانوا أفراد أو مؤسسات بحثية. و شريعتنا الإسلامية السمحة تؤكد على سؤال “أهل الذكر”، و هم يُعتبرون بمثابة أهل الخبرة و الاختصاص. و انعكس ضعف هذه الثقافة الممنهجة على علاقة التجسير بين الأكاديميو صانع القرار.

  1.  الحذر المفرط من الانفتاح بسهولة على الأفكار الجديدة “New ideas” القادمة من خارج محيط الإشراف و الإدارة المباشرة للمسؤولين و صناع القرار، و خاصة الأفكار الجديدة القادمة من مؤسسات بحثية عربية و ليست “غربية”. إن عدم الانفتاح بسهولة على الأفكار الجديدة أو رفضها أو تجاهلها بكل سهولة من قبل صناع القرار و المسؤولين الحكوميين عادة لا يترتب عليه أضرار شخصية للمسؤولين، و يتفادى المسؤول و صانع القرار مخاطر قبولها. إن عملية قبوله للأفكار الجديدة قد يترتب عليها مخاطر وظيفية أو مالية، و يحمله مسؤولية نجاح أو فشل تطبيق هذه الأفكار أو السياسات التي تنتج عنها، و يتطلب تحمل هذه المخاطر مستوى عال من التجرد و الإخلاص، و الحرص على الصالح العام، و الانفتاح الذهني و الثقافي، و هو ما يتفاوت فيه المسؤولين و صناع القرار.
  2. غياب لوجود “قواعد بيانات عربية إلكترونية”، و بمعايير عالمية، أي عدم توفر مصادر للمعلومات الرصينة و البيانات العلمية الحديثة، و التي تشكل مصدراً أساسياً لإعداد الدراسات و الأبحاث العلمية و تطور البحث العلمي.
  3. إن هناك درجة من التجاهل أو ضعف الثقة بين المسؤولين أو صناع القرار تجاه بعض مراكز الأبحاث والدراسات، إما نتيجة بعض الشكوك من قبل صانع القرار في الاستقلالية السياسية أو في ارتباط بعض هذه المراكز البحثية بتيارات سياسية معينة (خاصة التيارات المعارضة). أو ارتباطها بدول عربية أخرى سواء من حيث المواقف و الانتماءات السياسية أو من حيث التمويل، و غالباً ما يكون كلا الأمرين معاً. وأحياناً نتيجة ارتباطها بتمويل “أجنبي” غربي لا توجد ثقة في أجندته و أولوياته السياسية أو الاقتصادية.

أيضاً إن عدم الثقة ناتجة أحياناً عن “عقدة الأجنبي/ الغربي” لدى المسؤول الحكومي، فهو يثق بمستوى جودة الدراسات التي تصدر عن مراكز الأبحاث الغربية، بالرغم من أن الكثير من المراكز البحثية الغربية أصبحت تعتمد على خبراء و أكاديميين عرب في إعداد الكثير من الدراسات التي تخص العالم العربي.

  1. ضعف الشراكة التفاعلية بين مراكز الدراسات و الأبحاث الخاصة، و المستقلة مع مختلف القطاعات الحكومية، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، أو حتى مع شركات القطاع الخاص الكبرى التي تميل عادة إلى الاعتماد على إجراء الدراسات و البحوث التي تحتاجها على مراكز الأبحاث الأمريكية أو الأوروبية.
  2. غياب مؤشرات علمية لقياس أداء و مهنية مراكز الأبحاث و الدراسات العربية Think Tank Index: إن هناك غياب لوجود مؤشرات علمية لقياس أداء و مهنية مراكز الأبحاث و مستوى إنتاجها الفكري، و هذه المؤشرات يجب أن توضع من قبل هيئة علمية مستقلة غير ربحية، و تكون لها مصداقية، و تعتمد على معطيات و ثقافات عربية، على أن تحمل الصفة الإلزامية العلمية الأدبية فقط، وليست القانونية. إن وجود هذه المؤشرات العلمية يعطي تقييماً علمياً لمستوى جودة الإنتاج الفكري و الأداء المهني لكل مركز دراسات، و هذه المؤشرات توفر السمعة العلمية لكل مركز حسب أداؤه و دوره و حجم تأثيره على الصعيد القطري و الإقليمي العربي.
  3. إشكالية توفير نظام فاعل جاذب يحفز الكفاءات على الإبداع و الابتكار، و يزيد من أهمية و قيمة العلم و المعرفة و البحث العلمي، بعيداً عن التعقيدات البيروقراطية و الاستبداد الإداري، و يحترم بل يقدر النقد و الاختلاف العلمي، و يعتبر ذلك ضرورة لعملية التطوير و العمران، و يوفر له هذا النظام أيضاً الإمكانيات المادية مقابل علمه و خبراته و معرفته بشكل يوفر له الاستقلالية و الحياة الكريمة التي تليق بالعلم و العلماء.
  4. ضعف الإمكانيات و القدرات التسويقية للإنتاج المعرفي و النشر العلمي الذي يصدر عن بعض مراكز الأبحاث و الدراسات العربية، و التي أصبحت تحصر دورها في “نشر المعرفة” فقط أو “التوقع العلمي” العامودي و تتجاهل كيفية تأثير هذه المعرفة و البحث العلمي و إيصالها إلى صناع القرار.
  5. وجود مراكز أبحاث بمثابة “واجهات اجتماعية” أو غطاء “للعمل السياسي العام” من قبل بعض صناع القرار السابقين، أو كبار المسؤولين أو الدبلوماسيين الذين خرجوا أو تقاعدوا من دائرة صنع القرار. بمعنى أن هذه المراكز البحثية توفر غطاءاً أو مركز للعلاقات العامة لبعض المسؤولين السابقين ليحافظوا على دورهم السياسي أو الاجتماعي أكثر من الاهتمام بعملية البحث العلمي و الإنتاج المعرفي. و هو ما يولد تشويهاً للدور العلمي لمراكز الأبحاث و انحرافاً في جودة أو رسالة البحث العلمي.

الخاتمة:

ختام هذه الدراسة يمكن القول أن دور مراكز الأبحاث و الدراسات يُعتبر جزء أساسي من نشاط البحث العلمي، وهو ضرورة لترشيد و دعم أو “عقلنة” عملية صنع القرار، و لنجاح صنع السياسات العامة و تطبيقاتها في الدولة و المجتمع، و ليس “ترفاً” أو “رفاهية” فكرية أو علمية.

أيضاً يُعتبر دور مراكز الفكر و الأبحاث هي شكل من أشكال ممارسة “التفكير الجمعي” أو الجماعي بين الباحثين و الخبراء للتحليل العلمي للمشكلات أو الأزمات، و تقديم الحلول العلمية أو الإبداعية لمعالجتها. لذلك فإن رعاية دور مراكز الأبحاث في المجتمع أو الدولة أصبح يتطلب اهتماماً خاصاً من صانع القرار و صانعي السياسات في العالم العربي بشكل خاص.

من ناحية أخرى، فإن الشراكة التفاعلية أو التعاونية ما بين صناع القرار من جهة، و مراكز الأبحاث و الدراسات الخاصة في البيئة العربية هو جزء من عملية “تشاورية” ما بين صانع القرار و بين مجموع الخبراء و الباحثين، وأهل المعرفة والاختصاص، من خلال “أشخاص” مراكز الأبحاث و الدراسات التي يعملون فيها.

و في المقابل، فإن على مراكز الأبحاث و الدراسات أن تلجأ إلى المثيرات الإيجابية التي تعتمد على ملاحظة الفرص Opportunities أو المشكلات لدى صناع القرار في البيئة التي تعمل فيها المراكز لتوليد الاتجاهات الإيجابية تجاه دورها، و استقطاب الاهتمام و الرعاية بها سواء من قبل صانعي السياسات العامة، أو صناع القرار، أو من قبل المحيط الذي تمارس دورها فيه أو تعمل على خدمته.

أخيراً، فإنه يتوقع تطور دور مراكز الأبحاث في العالم العربي، خاصة في مرحلة ما بعد “ربيع الثورات” العربية، تطوراً نوعياً سواء على صعيد زيادة الانتشار أو على صعيد النفوذ و التأثير في ضوء نمو سقف الحريات و زيادة مستوى المساءلة و الشفافية، و تغيير و تُعتبر طريقة “إدارة الدولة”، و طريقة اختيار صناع القرار، و ما يرتبط بهذا التغيير و زيادة مشاركة الكفاءات في الإدارة العليا للدولة و ما يتبع ذلك من نمو عملية التفكير العلمي و المنهجي في صنع القرار،  و تطوير عملية التخطيط و رسم السياسات العامة.

التهميش:
1- Howard J. Wiarda, “The New Powerhouses: Think Tanks and Foreign Policy” American Foreign Policy Interests, 30: 96–117, 2008, p 96.
2-James G. McGann, The Global “Go-To Think Tanks 2009”, Thank Tanks and Civil Societies Program, Final United Nations University Edition, January 2010, p65.
3-أحمد بدر، أصول البحث العلمي و مناهجه، دار المعارف بمصر، الطبعة الخامسة، 1989، ص16.
4-المصدر نفسه، ص16.
5-تقرير المعرفة العربي للعام 2009، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، دار الغرير للطباعة و النشر، دبي، 2009، ص164.
6– لمزيد من التفاصيل حول هذا المفهوم انظر أحمد مصطفى الحسين، مدخل إلى تحليل السياسات العامة، المركز العلمي للدراسات السياسية: عمّان، الأردن، 2002، ص10.
7المرجع نفسه، ص7.
8-John J. Hamre, “The Constructive Role of Thin Tanks in Twenty First Century”, Asia-Pacific Review, Vol. 15, No. 2, pp2-5, 2008, pp2-3.
9-لمزيد من التفاصيل حول المؤسسات الكبرى غير الحكومية ( المجتمع المدني) انظر على سبيل المثال الدليل التالي:
“Directory of International Funding Organizations, Nonprofit Organizations, NGOs, Corporate Donors, and Relief Agencies”, http://www.filipinowriter.com/directory-of-international-funding-organizations-nonprofit-organizations-ngos-corporate-donors-and-relief-agencies.
 و هو يحتوي على آلاف المؤسسات المستقلة أو التابعة للشركات الخاصة الكبرى التي تعنى بتمويل الأبحاث و البرامج العلمية في مجال التنمية و الديمقراطية في العالم و غيرها في مختلف دول العالم.
10-لمزيد من التفاصيل انظر:
  • Howard J. Wiarda, Op.cit.
  • Mahmood Ahmad, Op.cit.
11لمزيد من التفاصيل حول هذا النوع من المراكز، انظر:
Mahmood Ahmad, “US Think Tanks and the Politics of Expertise: Role, Value and Impact”, The Political Quarterly, Vol. 79, No. 4, October-December, pp 529- 555, 2008, p536-537.
انظر أيضاً:
Howard J. Wiarda, Op.cit, pp98-101.
12- James G. McGann, The Global “Go-To Think Tanks 2010”, Thank Tanks and Civil Societies Program, Final United Nations University Edition, January 2011.
13- James G. McGann, The Global “Go-To Think Tanks 2009”, Op.cit, p 69.
14-Robert O’neill, “Think Tanks & Their Impact”, Asia-Pacific Review, Vol. 15, No. 2, pp9-12, 2008, p10.
 –15لمزيد من التفاصيل حول تطور المراكز البحثية و توسع دائرة نفوذها، انظر المرجع نفسه، ص 9- 11.
16-هذه المراكز تغطي 9 مجالات تخصص، و هذه المجالات هي: التنمية الدولية (International Development)، السياسة الصحية (Health Policy)، البيئة (Environment)، الأمن و الشؤون الدولية (Security & InternationalAffairs)، السياسة الاقتصادية المحلية (Domestic Economic Policy)، السياسة الاقتصادية الدولية (International Economic Policy)، السياسة الاجتماعية  (Social Policy)، السياسات العامة في العلوم و التكنولوجيا (Science & Technology)، الشفافية و الحكم الرشيد  (Transparency & Good Governance).
17 – Mahmood Ahmad, Op.cit, p552.
18 –Ibid, p552-553.
19 –James G. McGann, “The Think Tanks Index”, Foreign Policy, pp 82-84, January/ February, 2009, p82.
20-عبد الرزاق فارس الفارس، “مراكز البحوث و صناعة القرار في دولة الإمارات العربية المتحدة، مجلة التنمية و السياسات الاقتصادية، المجلد الخامس، العدد الثاني، ص ص 113-137، يونيو 2003، ص 117- 118.
21-المرجع نفسه، ص  118.
22-Howard J. Wiarda, Op.cit, p 97.
23-لمزيد من التفاصيل راجع:
He Li, “The Role of  Think Tanks in Chinese Foreign Policy”, Problems of Post-Communism, vol. 49, no. 2, pp. 33–43, March/April 2002, p38.
24 – لمزيد من التفاصيل انظر المرجع نفسه، ص 38- 39.
25 – المرجع نفسه، ص38.
26- المرجع نفسه، ص 38- 39 .
27-من المراكز البحثية في العالم العربي التي تعطي اهتماماُ خاصاً لهذا النوع من العلم في العالم العربي المركز العلمي للدراسات السياسية في الأردن، و قدم فيه بعض المؤلفات العلمية، و عقد العديد من الدورات للمئات من الباحثين و أساتذة الجامعات و مسؤولي الإدارة الوسطى في عدد من الدول العربي.
28- لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع، أرجو الاطلاع على دراسة:
. pp98-99 Howard J. Wiarda, Op.cit,
29-مهدي شحادة، و صالح بكري الطيار، دور مراكز الدراسات العربية في صناعة القرار، بيروت: مركز الدراسات العربي الأوروبي، 1999، ط1، ص11.
30- تقرير المعرفة العربي للعام 2009، مرجع سبق ذكره، ص168، أيضاً للمزيد من التفاصيل حول واقع مراكز البحوث العربية انظر التقرير نفسه، ص168- 170.
31 – انظر الدراسات التالية:
  • Howard J. Wiarda, Op.cit, p112.
  •  Mohammad Ahmad, Op.cit, pp550-552.
32-Howard J. Wiarda, Op.cit, p114.

عن admin

شاهد أيضاً

"سلام ترام" .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين “سلام ترام” قصة …

تعليق واحد

  1. عمل ممتاز و يستحق الشكر و التقدير