دور الأحزاب في التنمية السياسية في العالم الثالث
أ: جمال منصر
جامعة باجي مختار-عـنابة ( الجزائر)
الملخص :
سادت الأدبيات السياسية بشكل عام حتى منتصف الستينيات من القرن الماضي نغمة متفائلة حول الإمكانات الواسعة للأحزاب في البلدان المتخلفة، كأدوات حاسمة وفعالة، في إنجاز الجوانب السياسية للتحديث والتغلب على أزمات التنمية السياسية. هذا التفاؤل ، ما لبث- تحت ضغط التطورات على الصعيدالواقعي- أن خفت حدته ، ليس فقط لما أصاب الأحزاب في البلاد المتخلفةمن نكسات، وإ نما أيضا لما أسفرت عنه التطورات في تلك البلدان من تعقيدات ومصاعب التحول التحديثي والتنموي فيها فضلا عما يتسم به هذا التحول من تمايزات واختلافات من إقليمإلى آخر بل ومن بلد إلى آخر.
في إطار تلك التطورات سوف تتناول هذه المداخلة الدور الذي عهدبه للأحزاب في ظروف التحديث ، والوظائف التي أنيطت بها لتحقيق التنمية السياسية، سواء من خلال دورها في التحديث السياسي بشكل عام أو منخلال التركيز على قضايا محددة في التنمية السياسية، كقضايا المشاركة السياسية والشرعية والتكامل الوطني.
تقديم:
سادت الأدبيات السياسية بشكل عام حتى منتصف الستينيات من القرن الماضي نغمة متفائلة حول الإمكانات الواسعة للأحزاب في البلدان المتخلفة، كأدوات حاسمة وفعالة، في إنجاز الجوانب السياسية للتحديث والتغلب على أزمات التنمية السياسية. هذا التفاؤل ، ما لبث- تحت ضغط التطورات على الصعيدالواقعي- أن خفت حدته ، ليس فقط لما أصاب الأحزاب في البلاد المتخلفةمن نكسات، وإ نما أيضا لما أسفرت عنه التطورات في تلك البلدان من تعقيدات ومصاعب التحول التحديثي والتنموي فيها فضلا عما يتسم به هذا التحول من تمايزات واختلافات من إقليمإلى آخر بل ومن بلد إلى آخر.
وليست أهمية الأحزاب السياسية كظاهرة ترتبط بالنظم السياسية الحديثة، فيحاجة للمزيد من الإثبات. وبصرف النظر عن أي أحكام ” قيمية” حول الظاهرة الحزبية، فإن النظم السياسية الحديثة تظل غالبا نظما “حزبية” سواء أكانت ليبرالية أم شمولية، تعددية أم أحادية. هذا الارتباط القوي بين الظاهرة الحزبية، والنظم السياسية “الحديثة” يضفي أهمية خاصة على موقع وأهمية الأحزاب داخل إطار النظم السياسية السائدة في بلدان العالم الثالث، الساعية للفكاك من أثار التخلف، وتحقيق التنمية.
في إطار تلك التطورات سوف تتناول هذه المداخلة الدور الذي عهدبه للأحزاب في ظروف التحديث ، والوظائف التي أنيطت بها لتحقيق التنمية السياسية، سواء من خلال دورها في التحديث السياسي بشكل عام أو منخلال التركيز على قضايا محددة في التنمية السياسية. وذلك بالوقوف بداية عند مفهومي الحزب السياسي والتنمية السياسية، كما سيأتي بيانه وفق العناصر الآتية:
- التعريف بالحزب السياسي:
أصبحت الأحزاب السياسية مكونا أساسيا من مكونات العملية السياسة في العصر الراهن وحظيت بحيز مهم في الدراسات السياسية والاجتماعية المعاصرة.
إلا أن هذا الموقع المهم للأحزاب في السياسة وفي الدراسة لم يلغ الاختلافات بين المدارس الفكرية حول تحديد مفهوم الحزب السياسي ونشأة الأحزاب السياسية ودورها في العصر الراهن.
وقد تركزت هذه الاختلافات وما استتبعها من مناقشات في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية فكان هذا المركز الأكثر اهتماما بدراسة الظاهرة الحزبية وكانت تجربته هي نموذج الظاهرة المدروس وثقافته ومقاييسه هي المعتمدة في الدراسة، وما ظهر من دراسات عن هذه الظاهرة خارج هذا المركز بقي في فلكه من حيث القياس على تجربته والاقتداء بثقافته ومقاييسه.
ومع أهمية التجربة الأوربية- الأمريكية في هذا المجال والمستوى المتقدم لدراسة الظاهرة الحزبية فيها، فإن هذه التجربة ليست الوحيدة الأمر الذي يوجب إيلاء هذه الظاهرة اهتماما تستحقه في بقاع العالم الأخرى، ومنها العالم الثالث.
وعلى الرغم من أن أغلب دارسي الأحزاب سواء من القدامى أو المحدثين قدموا تعريفاتهم للحزب السياسي فإن البعض من أبرز دارسيها لم يهتموا بمسألة التعريف بشكل مباشر أو شككوا في جدواها. فمن الأمور الملفتة للنظر- ابتداء-أن كتاب الأستاذ الفرنسي موريس ديفرجيه الكلاسيكي الشهير عن “الأحزاب السياسية ” الذي صدر للمرة الأولى عام 1951 لا نجد فيه تعريفا واضحا للحزب السياسي (1) ، أيضا فإن الأستاذ الإيطالي جيوفاني سارتوري في مؤلفه الذي صدر عام 1972 بعنوان ” الأحزاب والنظم الحزبية ” وبعد أن يستعرض التعريفات التي وضعها عدد من الدارسين الآخرين- يتساءل عن جدوى التعريف أو أهميته.
ومع ذلك فإن سارتوري يعود على الفور ليقرر أنه إذا كانت دراسة الأحزاب في الماضي لا تستلزم ضرورة إيجاد تعريف دقيق، فإن التطورات المعاصرة تحتم ذلك، وفي مقدمتها، التوسع العالمي الشامل في الظاهرة وفي مجالات دراستها، والضرورات الإجرائية للدراسة، وأخيرا- يضيف سارتوري- أن دخول الدراسات الحزبية، ضمن عديد من مجالات الدراسات السياسية الأخرى، في عصر ثورة العقول الإلكترونية يستلزم إيجاد تعريفات دقيقة تضمن سلامة البيانات التي تغذي بها الحاسبات وبنوك المعلومات، كشرط أساسي لسلامة النتائج التي يمكن التوصل إليها (2).
والواقع أن التنوع الشديد في الكيانات السياسية التي يطلق عليها لفظ الحزب، سواء منحيث أصولها أو مقوماتها أو وظائفها ، ينعكس- بدوره-على التوسع الشديد في تعريفها بين اللاتحديد على الإطلاق، أو العمومية الشديدة، إلى التحديد الضيق، أو الخصوصية المتزمتة، خاصة مع دخول الظاهرة الحزبية بلدان العالم الثالث.
يعرف ” فريد ريجز” الحزب بأنه :” أي تنظيم يعين مرشحين للانتخاباتلدخول الهيئة التشريعية”.
ويعرف فرنسوا قوقل الحزب على أنه: ” تجمع منظم يشارك في الحياة السياسية، يهدف للسيطرة على السلطة جزئيا أو كليا، ويمثل قيم وأفكار ومصالح المنتمين إليه.” (3)
أمافيليب برو فيرى أن الأحزاب هي: ” تنظيم يتشكل من مجموعة من الأفراد تتبنى رؤية سياسية منسجمة ومتكاملة تعمل في ظل نظام قائم على نشر أفكارها ووضعها موضع التنفيذ، وتهدف من وراء ذلك إلى كسب ثقة أكبر عدد ممكن من المواطنين على حساب غيرها وتولي السلطة أو على الأقل المشاركة في قراراتها.”(4)
ويستخلص كاي لاوسون تعريفا للحزب السياسي بأنه: ” تنظيم من الأفراديسعى للحصول على تفويض مستمر (انتخابي أو غير انتخابي) من الشعب (أو من قطاع منه) لممثلين محددين من ذلك التنظيم لممارسة القوة السياسيةلمناصب حكومية معينة مع إعلان أن تلك القوة سوف تمارس بالنيابة عنالشعب”.
وبالمثل يصوغ كولمان وروزبرج تعريفهما للأحزاب السياسية بأنها:” اتحادات منظمة رسميا، ذات غرض واضح ومعلن يتمثل في الحصول على و (أو) الحفاظ على السيطرة الشرعية (سواء بشكل منفرد، أو بالتآلف، أو بالتنافس الانتخابي مع اتحادات مشابهة) على مناصب وسياسات الحكمفي دولة ذات سيادة فعلية أو متوقعة”. (5)
ويحدد لابالومبارا ووينر عناصر مفهوم الحزب كما استعملاه في دراساتهما الهامة عن الأحزاب في البلاد المتخلفة في أربعة عناصر(6):
– استمرارية التنظيم- أي وجود تنظيم لا يتوقف المدى العمري المتوقع له على المدى العمري للقادة المنشئين له.
– امتداد التنظيم إلى المستوى المحلي مع وجود اتصالات منتظمة داخلية وبين الوحدات القومية والمحلية.
– توافر الرغبة لدى القادة على كل من المستويين المحلي والقومي للقيام بعملية صنع القرار (سواء منفردين أو بالتآلف مع آخرين) وليس مجرد التأثير على ممارسة السلطة.
– اهتمام التنظيم بتجميع الأنصار والمؤيدين في الانتخابات أو السعي- بشكل أو بآخر- للحصول على التأييد الشعبي
في ضوء هذا كله يمكن القول إننا عندما نتحدث عن الحزب السياسيفإننا نقصد بذلك وجود” اتحاد أو تجمع من الأفراد، ذي بناء تنظيمي علىالمستويين القومي والمحلي يعبر- في جوهره-عن مصالح قوى اجتماعيةمحددة، ويستهدف الوصول إلى السلطة السياسية أو التأثير عليها، بواسطةأنشطة متعددة خصوصا من خلال تولي ممثليه المناصب العامة، سواء عنطريق العملية الانتخابية أو بدونها”.
- التنمية السياسية: إشكالية التعريف.
بدأ ومنذ أكثر من أربعة عقود البحث في التنمية السياسية يأخذ أبعادا جديدة في علم السياسة، ولم يتناول هذا البحث البنية الاجتماعية- الاقتصادية للمنظومة السياسية فقط، وإنما تناول بالإضافة إلى ذلك المنظومة السياسية بحد ذاتها بهدف توصيف التحولات التي تصيبها من حيث كون المنظومة السياسية تتطور كما تتطور المنظومة الاقتصادية والاجتماعية.
إن التنمية السياسية عملية معقدة تتجاوز التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وإن كانت غير منفصلة عنها، وهي تتضمن من خلال بحثها في مجموعة متعددة من العناصر، الانتقال إلى منظومة سياسية حديثة تؤدي دورا ايجابيا في عملية التنمية الشاملة التي تراهن دول العالم الثالث على انجازها.
و ابتداء ينصرف الحديث عن أفكار “التنميةالسياسية” في الأغلب الأعم منه خصوصا في مراحلها الأولى إلى إسهامات مجموعة من العلماء الأمريكيين الذين ضمتهم – على وجه الخصوص- لجنة السياسات المقارنة التابعة ﻟﻤﺠلس بحوث العلوم الاجتماعية “SSRC” الأمريكي برئاسة جابرييل ألموند.
وكانت القضية المحورية هي كيفية إحداث “تنمية سياسية” في “الدول الجديدة” في إفريقيا وآسيا بشكل يؤدي إلى إقامة الديمقراطية الليبرالية فيها، هذا التركيز على التحرك نحو الديمقراطية الليبرالية كان مجرد جزء من نظرية أشمل للتحديث “Modernization” قائمة على التفرقة بين الحداثة والتقليدية في كافة العلوم الاجتماعية، وهو التقسيم الذي استند إلى أفكار “ماكس فيبر” حول التقليدية كحقيقة سابقة على الدولة وعلى العقلانية وعلى التصنيع.
وبعبارة أكثر تحديدا كان القول ابتداء وكمدخل للتعريف بالتنمية السياسية، على أنها- كحقيقة فكرية – تمثل إسهام علم السياسة في نظرية التحديث التي تقاسمتها كافة فروع العلوم الاجتماعية والتي طرحت افتراضاتها النظرية الواسعة حول اﻟﻤﺠتمعات المتخلفة.
ودون الخوض في مختلف التعريفات المعطاة للتنمية السياسية، فإنه وفي كل الأحوال تعبر التنمية السياسية عن تطور ملموس في واقع الدول والمجتمعات، من حيث أنها عملية تغير اجتماعي متعدد الجوانب ركيزته الإنسان، أي أن التنمية ذات مدلولات واضحة أهمها( 7):
– مدلول قانوني: يتمثل بسيادة قواعد قانونية توصي بالتساوي والتمتع بحماية القانون، ويعبر عن ذلك وجود سلطة شرعية مركزية قوامها العدالة، قادرة على ضبط السلطات المحلية والتقليدية مع تبني اللامركزية الإدارية.
– مدلول اقتصادي سياسي: يتمثل بالسعي لتحقيق العدالة، بإشباع الحاجات المادية للمواطنين من خلال كفاءة في الإنتاج وعدالة بالتوزيع.
– مدلول إداري: يتمثل في القدرة على أداء الأدوار والوظائف بطريقة رشيدة وبكفاءة عالية في شتى الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
– مدلول اجتماعي سياسي: يتمثل بوجود مجتمع سياسي ذي ثقافة سياسية معينة متبلورة وهوية محددة، يقبل الامتيازات ويتحمل المسؤوليات التي يتضمنها نظام سياسي ديمقراطي شرعي، وشرعية هذا النظام لا تقوم على مرتكز التقليدية، وإنما على مرتكزات حديثة في المقام الأول، من قبيل احترام الدستور والقانون، ومبدأ تداول السلطة ومبدأ تكافؤ الفرص والأداء السياسي المتميز داخليا وخارجيا.
ويعتمد نجاح أي أنموذج تنموي سياسي يتم اختياره لتجاوز الواقع السياسي المتخلف لمجتمع ما على تحقيق المعايير الآتية:
- الهوية:إن شرط وجود مجتمع سياسي متماسك يشعر بالهوية المشتركة و الإحساس بالانتماء إلى نظام سياسي و ثقافة سياسية متبلورة و مقنعة، هو دليل على نجاح التنمية السياسية في ذلك المجتمع ، لأن هذا يعني أن المجتمع استوعب نظاما ثقافيا و معنويا تحددت به عناصر الولاء والتضحية والانتماء بصورة موحدة، وتشكلت قيم راسخة في قناعات المواطنين كمواطنين متجاوزين هوياتهم الثقافية الفرعية وما يرتبط بها من ولاءات جزئية .
- الشرعية: و يقصد بها رضا المجتمع عن النظام السياسي الذي يدير شؤونه واعتقاد المواطنين بأن النمط القائم في توزيع الأدوار والمكاسب هو النمط الذي يستحق الولاء. وشرط الشرعية يتمثل في ثلاثة مظاهر أو ثلاث حالات:
الأولى: حالة المجتمع السياسي وما إذا كان مجتمعا متوافقا ومنسجما له أهداف موحدة وقدرة على تقديم التضحيات الضرورية لكيانه السياسي.
الثانية: هي حالة النظام السياسي و ما إذا كانت له القدرة على حشد المواطنين وتعبئته حول سياسته وبرامجه.
الثالثة: أن تكون للنظام القدرة على تلبية احتياجات مواطنيه والتعبير عنهم وتمثيلهم كرمز لكرامتهم وسيادتهم ومصالحهم.(8)
- التغلغل: و يقصد به امتداد سيطرة الحكومة المركزية إلى جميع المناطق الجغرافية للدولة، وشمول أداء النظام السياسي لوظيفته المجالات كافة، وبكيفية مناسبة، وهذا يقضي إدخال المجتمعات في إطار شبكة من العلاقات الرسمية والتفاعلات والخدمات التي تشرف عليها الحكومة المركزية، الأمر الذي يعتمد على درجة التناسق بين الأجهزة الحكومية المختلفة، ويعكس مستوى الفاعلية في الأداء والانجاز.(9)
- الاندماج:و يقصد به تحقيق عملية تفاعل سياسي متماسكة و منتظمة، وإدخال كل الوحدات والوظائف السياسية في إطار عملية سياسية واحدة فعالة و منسجمة، أي العمل على توزيع الأدوار والمسؤوليات و المهام و المصالح، ووضع الضوابط القانونية التي ترسخ ذلك، مع إمكانية التقاضي حول الاختلافات التي يمكن أن تنشأ بينها، ثم إيجاد القنوات اللازمة للاتصال بين الأجهزة التي أوكلت إليها مهمة القيام بهذه الوظائف مع ضرورة التوفيق بين أجهزة الدولة والتأكد من تكيفها مع الإطار السياسي السائد في المجتمع.(10)
- المشاركة السياسية :ويقصد بها تلبية المطالب المتزايدة بالمشاركة السياسية في النظام السياسي من قبل شرائح عدة من المواطنين، أي وضع الأطر المناسبة لتأهيل النظام السياسي للاستجابة لتطلعات مواطنيه، وهو ما يتم عن طريق إيجاد القنوات المناسبة لمشاركة المواطنين والتعبير عن مطالبهم، واحد أهم هذه القنوات هي الأحزاب السياسية.
و تعني مشاركة أعداد غفيرة من المواطنين في الحياة السياسية، سواء على مستوى رسم السياسة العامة، أو صنع القرار واتخاذه وتنفيذه.”(11) كما يمكن أن تعني أيضا: “مساهمة الشعب أفراد وجماعات ضمن نظام ديمقراطي، فهم كأفراد يمكنهم أن يساهموا في الحياة السياسية كناخبين أو عناصر نشطة سياسيا، وكمجموعات من خلال العمل الجماعي، كأعضاء في منظمات مجتمعية أو نقابات مهنية أو أحزاب سياسية لتنظيم مشاركة فاعلة للأفراد في الحياة السياسية.(12)
- التوزيع:ويقصد به توزيع المزايا والمكاسب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على القطاعات المختلفة من المواطنين كمحصلة لعملية المشاركة.(13)
وتبدو هذه المعايير جميعها ضرورية وحيوية للنظام السياسي، وأنه بقدر ما يستجيب للمطالب المتعلقة بها بقدر ما تتأكد قوة الدولة أو ضعفها، وصلابتها أو رخاوتها، وبقدر ما تشير إلى عمق وشرعية النظام السياسي وفعالية قيادته ونضج ثقافته السياسية، وما إذا كان يتمتع بالمرونة الكافية لتداول السلطة والتكيف مع المستجدات الداخلية والخارجية، ودرجة استعداده المستمر للتغير وقبول التغيير.
III. التنمية السياسية والظاهرة الحزبية في العالم الثالث:
يمكن القول أن معالجة أدبيات التحديث والتنمية السياسية للظاهرة الحزبية في البلدان المتخلفة تمت من خلال مداخل عديدة، لا شك في أن أبرزها يتمثل في مفهوم ، أزمات التنمية السياسية ، وفكرة المؤسسية وكذلك أفكار النخبة و الكاريزما وعلاقات السيطرة والتبعية الشخصية.
ولقد دارت الأعمال التي تربط أزمات التنمية من ناحية والأحزاب في البلاد المتخلفة- من ناحية أخرى. حول محورين: أولهما هو أثر أزمات التنمية في نشأة وتطور وتشكيل الأحزاب السياسية في البلاد المتخلفة، والمحور الثاني هو دور الأحزاب السياسية في حل مشاكل التنمية السياسية.
من الناحية الأولى قدمت أدبيات التنمية إسهامات تتجاوز النظريات التقليدية في نشأة الأحزاب السياسية وتطورها. وأمام عدم تلاؤم الأفكار التي تربط ظهور الأحزاب بالظاهرة البرلمانية والنظم الانتخابية مع الظواهر الحزبية التي شهدها العالم غير الأوروبي، خصوصا البلدان المتخلفة، ربطت نظرية التحديث وأدبيات التنمية السياسية بين مفهوم الأزمات وظهور وتطور الأحزاب في العالم الثالث.
وإذا كان مفهوم الأزمات يعبر عن مواقف معينة في التطور التاريخي تمر بها النظم السياسية أثناء انتقالها من الأشكال التقليدية إلى الأشكال الأكثر تطورا، وإذا كان من المفترض أن الطريقة التي تتلاءم بها النخب السياسية مع تلك الأزمات، يمكن أن تحدد نوع النظام السياسي الذي ينمو، فقد نُظر إلى تلك الأزمات ليس على أنها تقدم فقط السياق الذي تظهر فيه الأحزاب للمرة الأولى، ولكنها تتجه لأن تكون عاملا حاسما في تحديد أسلوب التطور الذي سوف تتبعه تلك الأحزاب.
ومن بين الأزمات السياسية الداخلية العديدة، التي تمر بها الأمم في أثناء الفترات التي شهدت تكوين الأحزاب السياسية، نظر إلى ثلاث أزمات على أنها ذات تأثير حاسم على تشكيل الأحزاب، وهي أزمات: الشرعية، والتكامل والمشاركة. وهي أزمات، يلاحظ أنها- في البلاد الآخذة في النمو- تتقارب بل إنها قد توجد في وقت واحد في حين أنها- في مجتمعات أخرى تعاقبت وفي فترة زمنية أطول.
وترتبط بهذا- في الواقع- الإسهامات التي قدمت في نطاق أدبيات التحديث والتنمية حول الظروف التحديثية التي تدفع نحو المشاركة السياسية ونحو تبلور الظاهرة الحزبية في اﻟﻤﺠتمعات المتخلفة ، وفي هذا الإطار أيضا فرضت ظاهرة “الحزب الواحد ” في البلاد المتخلفة نفسها على نظريات التحديث والتنمية السياسية، وإن ظل أحد الانتقادات الأساسية لتلك النظريات أنها- بحكم تحيزها العرقي والأيديولوجي- عاجزة عن التوغل كثيرا في تفسير تلك الظاهرة. فأدبيات التنمية السياسية والسياسة العامة تجد كثيرا من أصولها في تقاليد التعددية في علم السياسة الغربي والأمريكي، والتي تُبنى على السلوك السياسي الملحوظ والظاهر وعلى القضايا الرئيسة التي تولد صراع المصالح، متغافلة عن العناصر والتوجهات غير المنظورة في التحليل السياسي. وهي أمور ذات أهمية بالغة في العالم الثالث، ليس فقط على الصعيد الداخلي، وإنما أيضا في علاقاته الخارجية بالمنظمات والقوى الدولية.( 14)
كذلك هناك قدر ضئيل للغاية من الاتفاق حول قواعد اللعبة السياسية في أغلب بلدان العالم الثالث حيث تنظر الجماعات المتنافسة إلى السياسة بمنطق المباراة الصفرية (أي الانتصار المطلق أو الهزيمة المطلقة)، في حين أن ا الموارد المتاحة في تلك اﻟﻤﺠتمعات- بأوسع معاني كلمة موارد- محدودة جدا وتسيطر عليها جماعات نخبوية لصنع القرار، مما يثير التساؤل حول مدى ملاءمة أفكار التعددية لتلك اﻟﻤﺠتمعات التي يسود فيها احتكار النخب لعملية صنع القرار.
ومع هذا كله، قدمت أدبيات التحديث والتنمية إسهاماتها العامة حول الشروط المحددة لنظم الحزب الواحد في العالم الثالث سواء من حيث مشروعية اعتبارها حزبا بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، أو من حيث اختلاف شروط قيامها عن الخبرة التاريخية للأمم الغربية، والظروف السابقة للاستقلال التي تحكمت في النظم الحزبية. بل إن الحديث عن الأحزاب في العالم في كثير من أدبيات السياسة المقارنة ذات التوجه التنموي لا يأتي إلا في سياق الحديث عن الحزب الواحد، خاصة باعتباره مرتبطا بالمراحل الأولى لبناء الدولة.(15)
على أن الإسهامات الأكثر شيوعا لمنهجية التحديث والتنمية السياسية، فيما يتعلق بالظاهرة الحزبية في البلاد المتخلفة، إ نما تدور حول دور الأحزاب كأدوات أو وسائل للتنمية والتحديث حيث تعتبر- بتلك الصفة – واحدة مع أدوات أخرى مثل البيروقراطية أو الجيش أو القيادة الكاريزمية، تسهم في حل أزمات التنمية وعلى رأسها أزمة التكامل الوطني و أزمة المشاركة السياسية وأزمة الشرعية.
بل غالبا ما نظر إلى الأحزاب باعتبارها أهم أدوات التحديث على الإطلاق، في اﻟﻤﺠال السياسي. ويعزى هذا إلى أن الأحزاب السياسية نفسها ترتبط تاريخيا بتحديث اﻟﻤﺠتمعات الأوروبية
كما أنها- بأشكالها اﻟﻤﺨتلفة: الإصلاحية، والثورية، والقومية، أضحت أدوات التحديث في المناطق المتخلفة. وعلى ذلك، فالحزب السياسي قوة حاسمة للتحديث في كافة اﻟﻤﺠتمعات المعاصرة التي يعزى اختيار نمط التحديث الذي تأخذ به إلى الأحزاب نفسها.
وفي حين أن الأدبيات السلوكية في السياسات المقارنة تنسب للأحزاب- بشكل عام- أدوارا تتعلق بالتنشئة السياسية ، والتجنيد السياسي ، وصياغة وتجميع المصالح، فإن أدبيات التنمية السياسية على وجه التحديد، تركز- بشكل خاص- على دور الأحزاب في التنشئة السياسية، على أساس أن هذا الدور هو الأكثر بروزا للأحزاب في العالم الثالث ، وهو دور ينطوي عليه ضمنا دور الأحزاب في حل أزمات المشاركة أو التكامل أو الشرعية.
كذلك فإن أفكار المدرسة المؤسسية ، سواء في أصولها في الستينات ، أو في امتداداتها داخل منهجية السياسة العامة تقدم- فيما يتعلق بدراسة الظاهرة الحزبية- تركيزا هاما على البعد المؤسسي لتلك الظاهرة، وعلى الدور الذي تؤديه في تنظيم عملية المشاركة السياسية.
وكما يرى صامويل هنتينجتون Samuel P. Huntington (16)فإن الدولة الحديثة تتميز عن الدولة التقليدية بالمدى الواسع الذي يشارك بمقتضاه الأفراد في السياسة. وبتعبير هنتينجتون أيضا فإن الأحزاب تقدم أساسا أو قاعدة للمشاركة السياسية، تختلف في أهميتها تبعا لتطور اﻟﻤﺠتمع، فمع تقدم اﻟﻤﺠتمع على طريق التحديث، تنتقل المشاركة من قواعدها التقليدية (مثل علاقات السيطرة والتبعية Patron-Clientوالجماعات المحلية) إلى قواعد أكثر عصرية (مثل الطبقة والحزب)، وهو ما يعني – حسبه – رقيا في مستوى المشاركة نفسه.(17)
أيضاً يرى هنتينجتون في سياق دراسته للمشاركة السياسية لدى الطبقات الفقيرة في اﻟﻤﺠتمعات المتخلفة أن الأحزاب السياسية تمثل أهم التنظيمات واسعة النطاق، التي يمكنها تحقيق هذا الهدف مقارنة-على سبيل المثال- بالتنظيمات ا لنقابية.
ومن ناحية أخرى فإن إسهامات هنتينجتون حول المؤسسية وأهميتها في البلاد المتخلفة، تسهم- بعمق- في تحليل الأحزاب كمؤسسات. وتكفي هنا الإشارة إلى تحليل الحزب كمؤسسة سياسية سواء من حيث علاقته بالقوى الاجتماعية التي يمثلها، أو من حيث قدرته على بلورة المصالح العامة للمجتمع، أو من حيث توافر معايير المؤسسية لديه. ويجمل هنتينجتون تلك المعايير في أربعة عناصر أساسية هي(18):
– مرونة الحزب أو تصلبه.
– تعقيد البنيان الحزبي أو بساطته.
– استقلالية الحزب أو تبعيته.
– ترابط الحزب أو تفككه.
غير أن دخول أعداد متزايدة من الناس إلى حلبة السياسة والمشاركة السياسية، قد يؤدي إلى انعدام الاستقرار أو ما يسميه هنتنيجتون “التحلل السياسي” “Political Decay”، ويعني هذا ببساطة أن أية محاولة للتحديث ستؤدي إلى عدم الاستقرار، فبينما يؤدي التطور الاقتصادي إلى رفع مستوى المعيشة، فإنه يحطم الفئات الاجتماعية التقليدية، ويولد التوترات الفردية، ويفرض مطالب جديدة على الحكومة، وإذا عجزت المؤسسات السياسية عن السيطرة على نتائج التغيير وآثاره فإنها ستعاني من عدم الاستقرار. (19) ومن وجهة النظر تلك فإن الوظيفة التحديثية للأحزاب السياسية تتمثل في الأساس في تقديم، الإطار المؤسس الذي يحد من هذا التحلل السياسي، ويوفر -بالتالي- الاستقرار السياسي اللازم للتنمية.
ويجدر التنبيه أنه في هذا الإطار العام حول الدور التحديثي للأحزاب توغل الكثيرون من دارسي التحديث والتنمية السياسية للتنقيب عن الوظائف أو الأدوار التحديثية للأحزاب في البلاد المتخلفة بشكل أكثر تفصيلا.
الخلاصة:
يتفق دارسو الأحزاب والتنمية السياسية، بشكل عام، على تحديد الوظائف التي تضطلع بها الأحزاب في النظم السياسية الحديثة، مثل التمثيل، والاتصال وربط المصالح وتجميعها. وقد تصاغ تلك الوظائف في شكل أكثر تحديدا لتشمل: تجنيد واختيار العناصر القيادية للمناصب الحكومية، ووضع البرامج والسياسات للحكومة، والتنسيق بين أفرع الحكم والسيطرة عليها، وتحقيق التكامل اﻟﻤﺠتمعي من خلال إشباع مطالب الجماعات والتوفيق بينها، والقيام بأنشطة التعبئة السياسية والتنشئة السياسية.
ويفترض- بالطبع- في النظم السياسية الحديثة أن الأحزاب تقوم بأدوارها تلك في مجتمعات تتسم بدرجة عالية من المشاركة السياسية، والقبول بشرعية النظام السياسي، والتكامل الوطني.
على أن الأمر يختلف كثيرا في بلدان العالم الثالث، التي تسعى إلى التحديث والتنمية السياسية. ففي سياق ظروف تلك البلاد أناط بالأحزاب السياسية وظائف ومهام تتعلق بالتحديث وبالتنمية السياسية، تفوق- في أهميتها- الوظائف التقليدية للأحزاب السياسية، و أضحىت الأحزاب- من ذلك المنظار- “متغيرات مستقلة” أي قوى مؤسسية مستقلة، تؤثر على التحديث وعلى التنمية السياسية، وليست مجرد نتاج لهما. بل إن قدرة اﻟﻤﺠتمع على مواجهة أعباء التحديث وأزمات التنمية تتأثر-إلى حد بعيد- بأنواع الأحزاب القائمة فيه، ومدى فاعليتها. ولذلك، لم يكن غريبا أن أصبح الحديث عن الأحزاب في الغالبية الساحقة من أدبيات التحديث والتنمية يتم من خلال تحديد دورها في التحديث والتنمية، أو كواحدة من أبرز “أدوات” أو “وسائط ” التحديث والتنمية السياسية.
الهـوامـش:
(1)– يعد كتاب ديفرجيه من أمهات الكتب في دراسة الظاهرة الحزبية ولا غنى لأي مهتم بالموضوع عنه، للمزيد يمكن
الرجوع إلى: موريس ديفرجيه. الأحزاب السياسية، ترجمة، (على مقلد وعبد الحسن سعد)، ط3 ، بيروت، دار النهار، 1980.
(2)- المؤلف الأصلي لسارتوري:
Giovanni sartori, Parties and Party Systems: A Framework for Analysis, Vol. 1, CambridgeCambridge
University Press, 1976
– (3)Philippe Braud, la sociologie politique, DALLOZ, Paris, 2001, p 34.
(4)- فيليب برو، علم الاجتماع السياسي،(محمد عرب صاصيلا)، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر
والتوزيع، 1998، ص 357.
(5) – أسامة الغزالي حرب، الأحزاب السياسية في العالم الثالث، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،
1987، ص 17.
(6)– نفس المرجع، ص 17.
(7)- عبد الله نقرش، “إشكالية التنمية السياسية في العالم العربي: مقاربة نظرية”، الجامعة الأردنية، مجلة دراسات العلوم
الإنسانية والاجتماعية، المجلد 32، العدد3، 2005، ص 513.
(8)– نفس المرجع، ص 514.
(9)- محمود خيري عيسى، مذكرات في التنمية السياسية،القاهرة، بروفيشنال للإعلام والنشر، بلا تاريخ ص 90.
(10)– نفس المرجع ، ص 86.
(11)- عبد المنعم المشاط، ” العسكريون والتنمية السياسية في العالم الثالث”، السياسة الدولية، العد 92، أفريل 1988،
ص 85.
(12)- رعد عبودي بطرس، ” أزمة المشاركة السياسية وقضية حقوق الإنسان في الوطن العربي” ، المستقبل العربي،
العدد 26، أفريل 1996، ص 24.
(13)- محمود خيري عيسى، مرجع سابق، ص 92.
(14)– أسامة الغزالي حرب، مرجع سبق، ص 27.
(15)- نفس المرجع، ص 28.
(16)- طرح هنتتنغتون Samuel P. Huntington أفكاره عن المؤسسية في كتابه ” النظام السياسي في مجتمعات متحولة” , ” Political Order in Changing Societies ” والصادر سنة 1968.
(17)- أسامة الغزالي حرب، مرجع سابق، ص 40.
(18)- نفس المرجع، ص41.
(19)- هيثم سطايحي، “التنمية السياسية في المجتمعات النامية: مشكلاتها وآفاقها”، مجلة جامعة دمشق، المجلد 13،
العدد 2، 1997، ص 100.