الرئيسية / النظم السياسية / الأحزاب والجماعات / النمـط الانتخـابي اللبناني بين رهان الديموقراطية وحصار الطائفية
النمـط الانتخـابي اللبناني بين رهان الديموقراطية وحصار الطائفية
النمـط الانتخـابي اللبناني بين رهان الديموقراطية وحصار الطائفية

النمـط الانتخـابي اللبناني بين رهان الديموقراطية وحصار الطائفية

النمـط الانتخـابي اللبناني بين رهان الديموقراطية وحصار الطائفية

أ.د. سالم المعوش

     جـامـعـة لبنــان

 

 Le système électoral au Liban représente un cas unique au monde, ce pays applique un système majoritaire combiné au vote par sièges parlementaires dans les circonscriptions électorales et au vote collectif depuis la moitié du 19 siècle.

  Ce système a été conçu dans une société composée de couches sociales hétérogènes (Musulmans sunnite et chiite, Chrétiens maronites, ….) par l’occupation étrangère occidentale à la fin de la présence ottomane dans le monde arabe.

 Le système de vote majoritaire libanais exclu les forces politiques de la représentation parlementaire et les  empêche de remplir correctement leur mandat de représentation. Il a au contraire,  contribué à plonger le Liban dans une instabilité politique constante et l’a conduit à la guerre civile de 1975.

 Depuis la création de la République libanaise en 1943 à nos jours, les libanais ont essayé les découpages de circonscriptions électorales les plus divers, ces systèmes non seulement ne reflétaient pas une représentation équitable de la population, ne sont pas adaptés aux composantes sociales du Liban et ne répondaient  guère aux aspirations du peuple libanais ce qui a entrainé le pays à un désordre civil.

 Les modifications électorales ont jusqu’ici porté seulement sur la taille de la circonscription électorale sans jamais changer la structure du système électoral, c’est la raison pour laquelle le Liban passe par des crises d’instabilité politique et sociale.

مقدمة:

لا يمكن تناول تجربة النمط الانتخابي اللبناني دون العودة إلى جذور تكوّن المجتمع اللبناني منذ ما يزيد على ثلاثة قرون من الزمان..

هذه العودة تجعل الباحث يقف على الكثير من القواعد الأساسية التي تناوب عليها النظام التمثيلي اللبناني.. وهو نظام نشأ في أحضان التدخل الغربي في نسيج المجتمع اللبناني منذ بدأت الامتيازات الأجنبية تترسّخ في هذا النسيج في نهايات النفوذ العثماني على البلاد العربية، حيث كان للطائفية دور بارز في تحديد الكثير من مقوّمات المجتمع اللبناني وبالتالي اختيار الأنماط الإنتخابية التي سادت في المناطق اللبنانية تبعاً لأوضاعها الطائفية التي كانت الأساس في تحديد نوع الحكم وهيمنة طائفة على أخرى عن طريق منحها الإمتيازات وتقويتها على حساب الطوائف الأخرى.

وبناء على ذلك فإنّ هذا النظام التمثيلي الانتخابي قد انبثق في أواسط القرن التاسع عشر مستنداً على النفوذ الذي تحتله هذه الدولة الأجنبية أو تلك، ومدى تبنّيها لطائفة من الطوائف.. لذلك كان أول كيان سياسي لبناني طائفياً بامتياز، وقد تجسّد في نظام المتصرفية الطائفي الذي وُضع قانونه الأساسي في العام 1864 وابتدأ العمل به في العام نفسه واستمرّ إلى حين قيام الحرب العالمية الأولى، وكانت له مؤسساته التمثيلية وعلى رأسها رئيس مسيحي يدير الدولة وفاق ما حدّده الغرب وأعطى فيه سلطة الهيمنة للعنصر المسيحي..

ولقد حاول الانتداب الفرنسي تكريس هذا النمط منذ بدء انتدابه على لبنان، واستمرّت المساجلات والصراعات حول الدساتير الأولى حتى العام 1943 أي إلى تاريخ الاستقلال، لكنّ هذه المساجلات لم تنته واستمرّ هذا الصراع إلى أزمان متأخرة..

ولقد عكست القوانين الانتخابية المتتالية هذا النمط من التفكير في التمثيل النيابي في جميع القوانين الانتخابية التي وضعت فيما بعد، وأبرزها قانون العام 1960 و 2000 و 2008، وفيما بينها يأتي اتفاق الطائف، لا ليعدّل في نظام الانتخابات بل ليحدد صلاحيات الرئاسات الطائفية الأولى: الجمهورية والنيابية والحكومية ويعد بإلغاء الطائفية..

والجدير بالذكر أن هذه الطائفية ظلّت إلى هذا الوقت المرتكز الأساسي في قوانين الانتخابات واختيار الرئاسات الثلاث وتوزيع الموظفين.. وأنّ هذه القوانين المتتالية لم ينفذ منها إلا قانون واحد هو الذي أقرّ في العام 1960 وكان طائفياً في مرتكزه الأساس.

ولقد انعكست في هذه القوانين الأصداء الطائفية: أشخاصاً ومناطق وحيازات زعاماتية طائفية.. لكنّ الدستور اللبناني كان يحتفظ دائماً بالروح الديموقراطية التي أعطت المواطن اللبناني هامشاً واسعاً من الحريات العامة، إلاّ أنّ ذلك كلّه لم يمنع من إخراج الأمور دائماً من عنق الزجاجة الضيّق: الطائفية.

وإذا كانت العملية الانتخابية تتم دائماً من القاعدة إلى القمة فقد حوصرت هذه القاعدة الشعبية بالكثير من القيود التي تحكّمت إلى حدّ بعيد في الاختيار الشعبي لممثليه عن طريق الانتخاب المباشر.

وفي ضوء ذلك سوف يتناول هذا البحث، مفصّلاً في مواضع ومختصراً في أخرى، تطور التجارب الانتخابية في لبنان، وهي تنطلق من العوامل الموضوعية والنفسية والثقافية، ومن واقع التعدّد الطائفي والحضاري والتنظير له والتدخل الخارجي فيما هو تبعية تتجلى في وضع الدستور والتوزيع التمثيلي والمشاركة في الحكومات والإبقاء على الزعامات وتوزيع المناطق على واقع الزعامات التي تحدد الأعداد والمنطقة وتبنّي الخارج لها من عرب وغير عرب، وكيف يأتي النائب بقرار خارجي مفروض على المواطن الذي لا حول له ولا قوّة في اختياره، والوراثة النيابية والأخرى السياسية، ووضع الأقليات الطائفية وتمثيلها وسط طائفة كبرى وانصياعها إلى زعيم تؤيده قسراً يتحول إلى اختيار، وكيف يتمّ التلاعب بلوائح القيد، وكيف يحصل التزوير في النتائج، وكيف تحرم الأحزاب الكبيرة المنتشرة على أرض الوطن من التمثيل النيابي.. وكيف تستعمل الديموقراطية كغطاء، وكيف يتحوّل النائب في المنطقة إلى تابع لزعيمه من دون فاعلية فيتقلّص دوره، وكيف يصب هذا التمثيل في كتل كبرى داخل البرلمان فتعطل الديموقراطية ليبقى صوت الزعيم المطلق، وكيف تؤدي القيادات الدينية دوراً رئيساً أو هامشياً في الأداء التمثيلي..

أما الرأي الآخر في المنطقة فهو ضعيف والمعارضة بحسب النفوذ، والتعديل الدستوري والقانوني بحسب قوّة الزعامة التي تمارس دور المحادل في مناطقها فلا يُتاح لأحد الترشّح أمام قوّتها، وهو ما يؤدي كثيراً إلى نجاح نائب في غير منطقته فيكون وضعه صورياً..

علاوة على تقزّم النزاعات الانتخابية وتعطيل دور المجالس المختصة والتي غالباً ما يكون النائب فيها حاكماً ومتهماً في الوقت نفسه..

وسوف يتوقف البحث عند ظاهرة تعدّد القوانين الانتخابية وعند اتفاق الطائف وسنّ الاقتراع وشروط النيابة ومراقبة هيئات المجتمع المدني للعمليات الانتخابية ومسألة المال الانتخابي والاحتكار الاعلامي.. وغير ذلك من النقاط ذات الصلة المباشرة بالنمط الانتخابي في لبنان حيث يبدو الرهان على ديموقراطية الطوائف ظاهراً فيصبح الانتماء إلى طائفة بدل الإنتماء إلى وطن..

أولاً: في مقاربة العنوان

يبدو أنّ التمثيل النيابي قاعدة عامة درجت عليها جواهر الدساتير منذ انبثاق العهود التي طالب فيها المواطن بأن يكون له إطار ضامن لحقوقه وواجباته، ضمن تطور عميق الجذور في التاريخ، يجعل الديموقراطية في أوّل درجات السلّم الذي يظهره إنساناً ذا قيمة، يحتفي بكرامته ويشعر بوجوده الفعّال ضمن المجموعة البشرية التي ينتمي إليها، سواء أكان حاكماً أم محكوماً، باستثناء الذين اصرّوا على تجربة التسلط البغيض الذي يظهرهم مختلفين عن غيرهم.

1- عن الديموقراطية الرهان

لن نتوقف طويلاً أمام مفهوم الديموقراطية، وقد غدا اساساً للأحكام في العالم، وتداولته المصادر والمراجع على غير صعيد.. لكنّ السياق يدعو إلى قبول القول: إنّ الديموقراطية في مفهومها  ظهرت كقاعدة للحكم مكرّسة منذ اليونانيين القدماء.. وهذا ما تشير إليه التواريخ المكتوبة العائدة إلى تلك الحقبة الإنسانية.. إلاّ أنّ بعض علماء الاجتماع والمؤرّخين يعيدون تاريخ العمل بمفهومها إلى فجر السلالات البشرية ويظهرون تطور المطالبة بحقوق الأفراد والجماعات على أنّه المحرّك الرئيس في التطور الإنساني.. وهذا ما يستند كارل ماركس عليه في كتابه “المادية التاريخية” عندما يقسّم مراحل التطور البشري إلى خمس مراحل، وصولاً إلى المرحلة الرأسمالية التي أفسحت في المجال واسعاً أمام نيل الحريات وتطبيق الحريات العامة والخاصة، كمظاهر رئيسة من مظاهر الديموقراطية المرتكزة على تبيان حقوق الافراد والجماعات ضمن مجتمعاتهم، وصولاً إلى المجتمع الشيوعي الذي يحسبه ماركس قمة التطور الديموقراطي الإنسانسي(1).

بينما يأتي الوضوح في تعريف الديمقراطية منذ اليونان على ألسنة فلاسفتهم وحتى أدبائهم وشعرائهم. ذلك “أنّ كلمة ديموقراطية تتألف من كلمتين يونانيتين Demos  ومعناها الشعب و Kratos ومعناها السلطة، فالديموقراطية إذن، هي حكم الشعب بواسطة الشعب، وهي بهذا التعريف تعلن عن نفسها أنّها نظام حكم”(2)، والديمقراطية مصطلح استخدم للتعبير عن شكل السلطة التي يتولى إدارتها عموم أفراد الجماعة، أي لا تحدّد السلطة بفئة معينة من المجتمع بل من كافة أعضائه..

وإذا كانت الديموقراطية بهذا المفهوم الذي يفضي إلى حكم الشعب نفسه بنفسه، فلا بدّ من وجود أدوات تعبّر عن هذا الحكم، فإنّنا نعاجل إلى ربطها بوسيلة متبعة ورائجة في معظم أنظمة الحكم التي تتبنّى الديموقراطية، ألا وهي التمثيل الديموقراطي الذي يفضي إلى انتخاب الحكام الذين من شأنهم أن يتولوا السلطة لمدة معينة من الزمن.

وإذا كانت ضرورات البحث تقتضي الوقوف عند أنواع الديموقراطيات أو المصطلحات الأخرى التي عرفتها الإنسانية بما يساوي أو يقترب من هذا المفهوم أعلاه، فإننا، من دون شكّ، عاثرون على تجارب عديدة لدى الشعوب.. وما يحضر هنا سريعاً مفهوم الشورى في الإسلام الذي هو من الأساليب الراقية التي عرفتها البشرية في أساليب تعاطيها مع موضوع اختيار الحكام.. فقد جعل الإسلام اختيار الحكام شورى بين المسلمين: “إنما الأمر شورى بينهم” ، و”شاورهم في الأمر”… إلى غير ذلك من الآيات المؤكدة سبل اختيار الحكام وفاق تعاليم الله عزّ وجلّ.. لكنّ هذه التجارب الإنسانية كلّها افضت في العصر الحديث إلى ما تعارف به البشر، وأصبحت القوانين الوضعية هي السائدة في معظم أقطار الأرض، حتى في الأصقاع التي تقوم عليها دول تدين شعوبها بالإسلام.

ولقد أضحى التطور الإنساني كإشارة لازمة لتجارب العديد من الشعوب، وصولاً إلى الديموقراطية الليبرالية التي تأسست في ظلّ هذا التطور الطويل، بحيث اكتنفت النظر إلى الأمور بعامة والسياسة والاقتصاد والفكر بخاصة، وأرست المفهوم التمثيلي وعرّفت بحقوق وواجبات الحاكم والمحكوم وطرق الوصول إلى السلطة، لاسيّما الانتخاب على قاعدة المساواة.. وهو أمر بدأت بلادنا بالتعرّف إليه مع تجربة رفاعة الطهطاوي بعد عودته من فرنسا في العام 1831، حين أسهب في الحديث عن الدساتير وأدخل مفردات جديدة إلى اللغة العربية أولاً وحياة العرب ثانياً، مثل كلمة ناخب ومنتخب ودستور وقانون وشرطة.. كما أدخل نظرية المنافع العمومية للدولة والشعب على حدّ سواء، وأظهر أهمية العقل والعلم والمعرفة والتربية، وأكّد على مفهوم العدالة الاجتماعية والمساواة والحرّيات العامة.. بما يوضح أفكار الليبرالية الديموقراطية ويظهرها حلّاً صحيحاً لإصلاح المجتمعات عموماً والمجتمع العربي خصوصاً(3)..

والحديث عن الديموقراطية متلازم مع أمر آخر هو الإنتخاب أو التمثيل السياسي أو الديموقراطي القائم على أساس الاقتراع العام.. والسؤال المطروح هنا: هل بالإمكان الوصول إلى تعريف للديموقراطية يعوّل على الاقتراع العام الذي قد يفضي إلى نظام عادل ويدموقراطي حقيقة، أم يُستعمل لتغطية سياسة الجور التي يتبعها بعض الحكام؟ وما حال الديموقراطية في لبنان؟ هل هي ديموقراطية محضة أم غطاء لأمر آخر يتركز في نهج الحكام غير الصحيح أو للإمعان في اعتماد الطائفية؟

يجيب الدكتور محمد المجذوب على هذه التساؤلات بقوله: “إنّ إيجاد تعريف جامع وواضح للتمثيل الديموقراطي، ولاسيّما في المجتمعات المركّبة والمسيّسة طائفياً كلبنان، هو في الواقع من الأمور العسيرة المعقدة التي يحتاج تذليلها إلى حنكة واسعة وصبر جميل وثقة متبادلة”(4). لكن الاتفاق العام حول هذه الديموقراطية يركّز على مبادئ أساسية ليس أقلّها سيادة القانون الذي يحدّده الشعب الحاكم وفاق مشيئته في بتّ الأمور العائدة إليه في مختلف نواحي حياته، وتساوي الناس في الحكم والمسؤولية والواجبات والحقوق.. والقول بمبدأ الحريات وبمبدأ فصل السلطات..

وذلك كلّه يتجلى في خلاصات المفكرين والمنظرين في حسبان الديموقراطية تقوم على ثلاثة أسس:

–         المؤسساتي: الذي يعتمد اجرائياً الفصل بين السلطات، والتوازن فيما بينها، والتداول السلمي للسلطة بما يمنع احتكارها، والانتخابات الدورية النزيهة، والتعدّدية الحزبية وحكم الأغلبية.

–         الثقافي: وهو توافر قيم ثقافية وديموقراطية في المجتمع تقبل الاختلاف وتستطيع إدارة الصراع بطريقة سلمية وديموقراطية، فضلاً عن نقد الذات ومراجعتها..

–         الحقوقي: وهي الحقوق التي يكفلها الدستور والقانون، وهي الحق في المساواة وممارسة الحريات الاساسية للمواطنين..

وفي التقدير أنّ هذه الأسس يجب أن تكون مترابطة يدعم أحدها الآخر، كما ينبغي العمل بشكل دائم على ترسيخ مظاهر النظام الديموقراطي في المؤسسات والمصالح الشعبية، وهذا يقتضي توطيد دعائم الديموقراطية بما يمنع من الخروقات الآيلة إلى الإنحراف بالمفاهيم باتجاهات تهدّد قيام الديموقراطية الحقيقية كالتسلط وصوغ القوانين بحسب رغبة الحكام، أو اعتماد أسس بعيدة من الديموقراطية كالطائفية التي تسود مجمل الممارسات الانتخابية في لبنان مثلاً..

وهذه الديموقراطية البعيدة من الطائفية هو ما شكّل رهاناً كبيراً يسعى إليه اللبنانيون للاحتماء به من غوائل تفتتهم واقتتالهم الدائم وتنوّعهم وادّعاءات البعض للانسلاخ عن واقعهم وتميّزهم.

2- الطائفية الحصار

هذه الطائفية التي مرّ عليها حين من الدهر في لبنان تحكّمت في نشوئه كدولة مستقلة ذات سيادة.. وحتى ما قبل هذا الاستقلال، وفي مرحلة طويلة تقارب بضعة قرون، كانت الطائفية تترسخ في أذهان المواطنين الذين حملتهم العهود الاقطاعية المختلفة في لبنان إليها حملاً، فنتج لدى اللبنانيين إرث طائفي واضح الأهداف يعيش على الأرض اللبنانية إلى هذا الزمن، حاملاً مشكلاته وتناقضاته في الاستبطان والإعلان وفي الدساتير والقوانين والنفوس..

ويمكن حسبان بدايات القرن التاسع عشر تاريخاً عاماً لبدء التداول الواقعي بالطائفية التي غذّتها الإقطاعية على حساب وحدة الوطن.. حيث بدأت الحروب الطائفية المغلّفة بالاقطاعية تنتشر وتكرّس واقعا ًانقسامياً لبنانياً، سرعان ما تعهدته الدول الأجنبية وغذّته وأوجدت السبيل إلى تواجده في الدساتير والقوانين التي عرفها لبنان في مراحل لاحقة وحتى الزمن الراهن..

ونظراً لأهمية هذا الموضوع في بلد صغير بمساحته وعدد سكانه وطوائفه وأصوله، وكثير بعدد مفكّريه ومنظّريه، غدت الطائفية الشغل الشاغل في غير مجال من المجالات التي يتوزّع عليها اللبنانيون في الفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب والفلسفة والحقوق وغيرها من المجالات التي توغلت فيها الطائفية وأصبحت الأساس في تركيبها، حتى صارت هذه الطائفية كما يقول الدكتور فؤاد شاهين :”هي ظاهرة نفسية ودينية واجتماعية واقتصادية في الوقت نفسه”(5).. الأمر الذي يجعلنا نستنتج أن هناك تاريخاً طويلاً من التفاعل السلوكي، أخذ يجد مداه في رحاب النفوس وفي الدوائر الدينية والنطاقات الاجتماعية والأحوال الاقتصادية ورعايتها من بعض الدول الأجنبية، حتى أفضت هذه الأوضاع العامة إلى بروز الطائفية كظاهرة سياسية تسعى بوساطتها الطائفة الأقوى اقتصادياً (خاصة المسيحيين) إلى تسلم السلطة والاحتفاظ بها”(6).

وإن كان المجال لا يتسع كثيراً للحديث عن دخول الطائفية في النسيج السياسي والاجتماعي في لبنان فإنّنا يمكننا القول: إنّ الطائفية لازمت الاجتماع اللبناني منذ أن ارتسم في افقه مشروع دولة متعدّدة الطوائف”(7)،  وأنّها، أي الطائفية، غدت لسان حال كثرة من أهل الفكر في لبنان، كما هو الأمر في فكر ميشال شيحا الذي عرّف لبنان السياسي بقوله: “هو مجموعة أقليات، مجموعة اثنيات، مجموعة حضارات، مجموعة أعراق، مجموعة طوائف”(8).

وهو تعريف ينحو بمفهوم الوطن إلى التفتيت، ويغلّب العناصر الصراعية على سواها من المقوّمات التي تشكّل دولة ديموقراطية يتساوى فيها المواطنون أمام القانون ويدينون بالولاء لها بدلاً من الولاء لطائفة أو عرق أو حضارة أو أقلية ما، وإن كان الولاء في لبنان للطائفة يتخطى هذه التجمعات ليتقوقع حول طائفة من الطوائف..

والجدير بالذكر أن بعض المسيحيين كانوا الأنشط في مسألة الدعوة إلى الطائفة، لاسيّما المارونية التي جعلها هؤلاء الأساس لتاريخ لبنان.. ويكفي أن نقرأ ما ورد في كتاب “تاريخ الموارنة” للأب بطرس ضو(9) عن جوانب عديدة للتسويغ لهذه الدعوة.. وقد لخّصها الباحث والمفكر سليمان تقي الدين، نقتطف من هذا التلخيص المنطلقات التالية: يحسب الأب ضو أن تأريخ لبنان هو تأريخ للأمة المارونية، وأنّ الموارنة هم شعب لبنان، وهم الشعب الفينيقي اللبناني والشعب الآري السوري وشعوب البحر، وهم المردة والجراجمة.. والحضارة الفينيقية هي نفسها الحضارة المارونية، وهي حضارة متوسطية عالمية بسبب الموقع الجغرافي والتركيب الإثني.. والكيان السياسي للبنان المستقل اليوم هو من صنع الموارنة المردة منذ الجيل السابع للميلاد، وأنّ لبنان هو الوطن القومي الماروني منذ القرن الثامن للميلاد، والموارنة هم الذين استدعوا الحملات الصليبية وعاونوهم إلى أن استقلّ لبنان، لكنّ المماليك قضوا على هذا الكيان الماروني الذي احتفظ باستقلاله عن الدولة الإسلامية(10).. وهذا ما يتوافق مع الفكرة القائلة بضرورة تميّز الموارنة في معظم المجالات، وهو الأمر الذي أحدث ردّات فعل أخرى انبرت تدافع عن وحدة لبنان وعروبته وانتمائه إلى محيطه، وأنّ الموارنة عرب كسواهم من سكان المحيط: القريب والبعيد.. وكان من شأن ذلك أن يؤدي فيما بعد إلى التفكير بالانتماء إلى الطوائف بدل الإنتماء إلى وطن، حيث شكّل ذلك ظاهرة متميّزة في الدساتير اللبنانية والقوانين الانتخابية والتمثيلية.. على الرغم من الأصوات التي طالبت بنقل المجتمع اللبناني من دولة الطوائف إلى لبنان العربي الديموقراطي العلماني الموحد(11)..

3- محصلة المقاربة

كان القصد من هذه المقاربة للعنوان هو إلقاء بعض الضوء على الجذور الطائفية التي تحكّمت في وضع القوانين الانتخابية التمثيلية في لبنان، هذه القوانين التي مرّت بمفاصل عديدة حتى استقرّت على ما هو سائد حالياً فيه من تجارب انتخابية تمتطي صهوة الديموقراطية، وتعلن أنّ التشريع اللبناني هو في مصاف الدول التي تطبقها في وجوه ايجابية في الكثير منها، لكن الرهان على هذه الديموقراطية، على الرغم من استلهام طرقها الأكثر حداثة، فإن الطائفيّة بقيت سيفاً مسلّطاً عليها، يمنعها في المضمون من التعبير الصحيح عن نفسها، ويعطيها في الشكل صورة ملمّعة تبزّ اقرانها في دول أخرى.. وهذا ما أسميناه “حصار الطائفية” الذي أدّى إلى تكبيل الديموقراطية ومنعها من الانطلاق بالتطور والخلاص من المشكلات الحادة التي يعانيها المجتمع اللبناني منذ قرون وحتى يومنا هذا..

فما هذه الديموقراطية؟ وكيف تطبّق في الانتخابات النيابية التمثيلية منذ عرف لبنان تجاربها الأولى؟

ثانياً: تاريخية التجارب التشريعية في لبنان

تظهر العودة إلى التاريخ اللبناني القديم والحديث قدم تعاطي اللبنانيين في المجالات الحقوقية والتمثيلية تعليماً وتطبيقاً ونشراً في كافة أرجاء العالم، ويمكن الإشارة السريعة إلى هذا التعاطي عبر المحطات التاريخية التالية:

1- تجارب قديمة العهد

لا يخفى على الدارسين في مجال التشريع القانوني أنّ لبنان كان منذ القديم مركزاً لتعليم الحقوق، حيث أنشأ الرومان “معهد بيروت القانوني”، فكانت بيروت بذلك منارة علمية وقانونية لمجموعة كبيرة من البلدان، وسمّيت “أمّ الشرائع”(12)، وقد تخرّج منه عدد كبير من المختصين بالقانون، وكان الوحيد من نوعه في العالم في ذلك الزمن”(13).. وتشير المصادر إلى أنّ طلاباً كثراً من جميع أنحاء العالم كانوا يقصدون هذا المعهد، كما يؤكّدون أنّ الزلازل قد أتت عليه فدمّرته تدميراً كاملاً..

2- تجارب تمثيلية حديثة

في الحقبات الحديثة، وابتداء من القرن التاسع عشر، وفي ظلّ سيادة الاقطاع، وضمن الحكم العثماني، وعلى وقع التدخلات الأجنبية نظراً لامتيازات كل دولة أجنبية في الدولة العثمانية، وفي ضوء دعم كل دولة من هذه الدول لطائفة من الطوائف اللبنانية، وعلى نيران الاقتتال الطائفي البغيض، لاسيما بين المسيحيين (الموارنة) والمسلمين (الدروز)، يمكن رصد جملة من التطورات التي رافقها بعض المجالس التمثيلية على حقبات مختلفة من الزمن وصولاً إلى النظم القانونية التمثيلية الحديثة.

أ- تجربة نظام القائمقاميتين

فعلى إثر الحوادث الدامية التي جرت بين الموارنة والدروز ابتداء من العام 1840 ارتأى العثمانيون أن يقسّموا لبنان إلى قائمقاميتين: واحدة درزية وأخرى مارونية، ولقد عرف هذا النظام “بنظام القائمقاميتين” وأنشئ في كلٍّ منهما مجلس يمثل جميع الطوائف، ويعيّن تعييناً من قبل القائمقام، حيث تراعى فيه الموالاة له وللسلطة العثمانية.. لكنّ هذا النظام التمثيلي المشوّه لم يعمّر طويلاً نظراً لعدم تمثيله تمثيلاً صحيحاً جميع الفئات الشعبية، فما كان من الثورات إلا أن اندلعت ضدّه، كما اشتدت الفتن الطائفية فاضطر العثمانيون إلى إلغائه(14)..

ب- تجربة نظام المتصرّفية

لكنّ إلغاء نظام القائمقاميتين بصيغته الطائفية لم يأتِ بنظام أفضل، فقد عُمّمت النزعة الطائفية، حيث استحدث نظام جديد سمّي بـ”نظام المتصرفيّة” في منطقة جبل لبنان، فقد نشأت دولة لبنان الصغير بعد أن سلخت عنه بقية المناطق، وعيّن على هذه الدولة متصرّف مسيحي، يعاونه مجلس إدارة منتخب وموزّع على بعض الطوائف ومؤلّف من اثني عشر عضواً: 4 للموارنة و 3 للدروز و   2 عن الروم الأرثوذوكس، وواحد عن كل من الشيعة والسنة والكاثوليك.. وقد كان هذا النظام بدعة ابتكرتها لجنة مؤلفة من بعض الدول الأوروبية: فرنسا وانكلترا وإيطاليا والنمسا وروسيا.. وبذلك لم يكن مجلس الإدارة هذا في الواقع أكثر من منفذ لإرادة المتصرّف، لكنّه بعد الاحتلال الفرنسي، اثر الحرب العالمية الأولى، اتخذ لنفسه الصفة التمثيلية البرلمانية وراح يطالب بحقوق الشعب اللبناني كهيئة سياسية مسؤولة(15).

ولكن ما يعنينا في هذا المجال هو أنّ هذا النظام كان حلقة من الحلقات التي بدأت بإيجاد الإطار التمثيلي المستمدّ تجربته من الواقع الطائفي في لبنان، مكرّساً إيّاه، ومستجيباً لتطلعات بعض الدول الأجنبية التي كان يلائمها هذا الانقسام الطائفي لتديم هيمنتها وتثبت حضورها الدائم في المنطقة كمنطلق رئيس للتحكّم بها.. وقد علّق الدكتور منير اسماعيل(16) على هذا النظام، ولاسيما في مادته الثانية، قائلاً عن هذه المادة: إنّها قضت بأن يكون للجبل مجلس إدارة كبير، إلى جانب المتصرّف، يعاونه في المسائل التي يعرضها عليه. ويبدو أن سفراء الدول الأوروبية في الآستانة، حرصوا عند وضع هذا النظام، على تصدير تجربتهم الديموقراطية إلى لبنان الجديد في بعض مظاهرها: إلغاء نظام المقاطعجية، وتقليص صلاحيات بعض المؤسسات الدينية، باستثناء الطائفية التي جهدوا في تعزيزها نصّاً وممارسة، وكان كل هذا، في يقينهم، أنّه السبيل إلى الإصلاح والتجدّد، وقد تأقلم اللبنانيون مع هذه التجربة”(17).

لكنّ ما يلفت النظر في هذا النظام التمثيلي أنّه(18):

–       كان المجلس التمثيلي الانتخابي الأول في دنيا العرب.

–       بروز العنصر الطائفي كمكوّن رئيس له.

–       المطالبة الدائمة بتعزيز الوضع الطائفي الماروني مدعوماً من الدولة الفرنسية.

–   لم يكن المجلس بمنأى عن الإهمال واللامبالاة، وصولاً إلى العجز عن أخذ المبادرات وتصحيح مسار الحكم ومحاسبته.. وكأنّ الأمر لا يعني الأعضاء الذين كانوا يردّدون عبارة “الأمر لوليه” أو لينظر الوليّ في الأمر، لكنّ هذا لم يلغ بعض المحاولات التي أبرزت شخصية بعض الأعضاء مع اثبات ولائهم وخضوعهم للسلطان العثماني.

–   ولقد استتبع طائفية تعيين الأعضاء أو انتخابهم مظهر طائفي آخر تمثّل في توزيع الموظفين على الطوائف، فكان لكل طائفة موظفون تابعون لها.

نخرج من هذه التجارب الأولية إلى القول، إنّ التجربة التمثيلية الأولى في لبنان قد شابها الكثير من الإلتواء، لاسيّما في مسألة التبعية للخارج أولاً، وفي مسألة الخضوع للسلطة المحليّة ثانياً وللسلطة الإقليمية ثالثاً، وفي مسألة تكريس الطائفية في التمثيل النيابي والوظيفي رابعاً، وفي مسألة تطبيق الديموقراطية الوافدة خامساً.. وهو الأمر الذي حافظ عليه المشرّعون اللبنانيون في القوانين الانتخابية اللاحقة، فتأقلموا معه وجعلوه سنّة درجوا عليها حتى وقتنا الراهن.. كما هو الأمر الذي جعل المنطلقات الرئيسة للقوانين الانتخابية التمثيلية اللبنانية تتأرجح بين التوق إلى الديموقراطية الصحيحة التي جعلها اللبنانيون رهانهم، وبين الطائفية التي كانت بمثابة سجن يحاصر المواطن اللبناني ويجعله قاصراً عن التعبير الصحيح عن رأيه في تكوين الحكم الحرّ والمتفلت من القيود.. مع الأخذ بالحسبان أنّ الدستور اللبناني قد ترك هامشاً كبيراً للحريات في لبنان، لاسيّما القول والكتابة والانتقاد..

3- تجارب انتخابية في ظلّ الانتداب

وما حاولته الطائفية مدعومة من بعض الدول الأوروبية، خلال قرنين من الزمان وجد نتائجه الإيجابية، بالنسبة لها، فيما حدث بعد انهيار الدولة العثمانية وهزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى وانسحابها النهائي من بلاد العرب وانتصار الحلفاء، ومن بينهم الفرنسيون الذين أعلنت معاهدة سايكس بيكو انتدابهم على لبنان وسوريا وبعض الأراضي العربية الأخرى.. دخل لبنان إذاً في عهد الانتداب الفرنسي وانتهى نظام المتصرفية وأنشئت دولة لبنان الكبير، ابتداء من العام 1920، ووضع لها نظام ينصّ على ضمّ الأراضي التي سلخت عنه، وقسّمت من جديد إلى سناجق (أومحافظات) وحدّدت صلاحيات السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية التي كانت جميعها تحت قبضة المندوب السامي الفرنسي..

وقد أطلق اسم اللجنة “الإدارية للبنان الكبير” على السلطة التشريعية المؤلفة من ثمانية عشر عضواً موزّعين على الطوائف اللبنانية كالتالي: 4 عن السنة، 2 عن الشيعة، واحد عن الدروز، 7 عن الموارنة، 3 عن الأرثوذكس وواحد عن الكاثوليك.

حيث يظهر هذا التوزيع الإمعان في إبراز أمرين أساسيين:

–       طائفة العضو في هذه اللجنة.

–       التميّز المسيحي لاسيما الماروني.

وهو توزيع مجحف بحقّ الطوائف الأخرى، ولا يتماشى مع الطموح اللبناني المتجه نحو التوحد وقبول الديموقراطية كحلّ طبيعي للتوزّع الديموغرافي في لبنان، حتى وإن كان هذا المجلس مؤقتاً ومعيناً من قبل السلطة الانتدابية.

ويبدو أن السلطة الانتدابية قد أمعنت بالتلاعب بالوضع اللبناني عبر التغييرات العديدة والمتتالية التي أصابت قانون الإنتخاب اللبناني، فمنذ العام 1922 صدر قرار يتضمن قانون انتخاب المجلس التمثيلي، أي أنّه لم يعد لجنة كما كان في السابق. وبالطبع هو مجلس منتخب ولكن بموجب قوانين حدّدها الانتداب الفرنسي ووفق توزيع طائفي متحيّز للطائفة المارونية.. يكون الرأي الأخير فيه للمفوض السامي الفرنسي.

وهكذا فإنّ المجالس تتالت ابتداء من العام 1922، فكان المجلس التمثيلي الأول (1922-1925) مؤلفاً من سبعة وعشرين عضواً: ثلثهم (9 أعضاء من الموارنة) وأكثر من نصفهم (15 عضواً من المسيحيين عموماً)، والباقي موزّع على الطوائف الإسلامية كلها..

وقد احتفظ هذا القانون للحاكم الانتدابي بالحقّ التشريعي، وأناط بالمجلس دراسة بعض الأمور، على أن يعود كلّ شيء في النهاية إلى الحاكم..

وكان المجلس التمثيلي الثاني (1925-1926) مكوّناً من تسعة وعشرين عضواً، أي بزيادة عضوين اثنين عن المجلس الأول، والزيادة لحقت الطائفة المارونية (أصبحت 10 أعضاء) كما لحق المسيحيين من هذه الزيادة عضوين اثنين فأصبح نوابهم سبعة عشر من أصل 29.. وهو المجلس الذي أقرّ الدستور للبنان، كما أصبح اسمه منذ ذلك الحين المجلس النيابي، وإلى جانبه مجلس آخر منتخب هو مجلس الشيوخ..

والملاحظ هنا أنّه على الرغم من احتجاج هؤلاء النوّاب على السلطات الفرنسية لأنّها أبعدتهم عن لجان صياغة الدستور، وعلى الرغم من نيل بعض حقوقهم في المشاركة والإقرار، فإنّ الروح الطائفية بقيت مسيطرة، وأنّ الرغبة الفرنسية في ابقائها في الدساتير المعدّلة والقوانين بقيت موجودة بقوّة حتى في الدساتير الأخيرة التي أقرّت للبنان..

وبذلك تغدو الديموقراطية في قوانين الانتخاب المتتالية محاصرة، ذات سقف وحدود معينة، لها أن تلعب داخل هذه الحدود، لكن ليس لها أن تتخطّاها وتطرح مثلاً تغيير طائفية المجلس التشريعي والسلطة التنفيذية والوظيفة العامة.. للمواطن أن يلعب ضمن طائفته مستفيداً من حرية الانتخاب والقول والتعبير..وحتى ضمن منطقته الجغرافية ذات الأكثرية الطائفية..

ومن المدد التي استغرقها كل مجلس قبل الاستقلال (أي قبل العام 1943) وبعده، نجد أنّ التغيير والتبديل ظلّ مستمراً.. وهذا ما يدل على عدم الاستقرار وبدء تفاقم الصراع بين طموح الناس في لبنان في دولة ديموقراطية مستقلّة وحرّة، وبين السلطات الانتدابية التي تمسّكت بسلطتها وبصنائعها الطائفيين وبالخريطة الديموغرافية والسياسية والثقافية التي ارادتها للبنان..

وهكذا فقد شهد لبنان على مرّ تاريخه مجموعة من البرلمانات كانت في الحقب التالية:

مجلس النواب الثاني: 15/7/1929-10/5/1932.

مجلس النواب الثالث: 30/1/1934-24/7/1937.

مجلس النواب الرابع: 26/10/1937-21/9/1939 (بداية الحرب الثانية)

مجلس النواب الخامس: 21/9/1943 – 2/4/1947.

مجلس النواب السادس: 25/5/1947-20/5/1951.

مجلس النواب السابع: 5/6/1951-3/5/1953.

مجلس النواب الثامن: 13/8/1957-12/8/1958.

مجلس النواب التاسع:12/8/1958–/8/1960.

مجلس النواب العاشر: 14/6/1960-8/5/1964.

مجلس النواب الحادي عشر: 5/4/1964-8/4/1968.

مجلس النواب الثاني عشر: 8/5/1968 – 1974.

والجدير بالذكر أن الحياة النيابية في لبنان قد تعطلت على أثر الحوادث الأهلية الطائفية التي جرت في لبنان ابتداء من العام 1975 واستمرّت إلى بداية التسعينات، أي إلى حين إقرار اتفاق الطائف الذي أجرى تعديلات دستورية على القوانين اللبنانية، لاسيما قانون الانتخاب..

ثالثاً: حصيلة التطور: اشكاليات التكريس المأزوم

1- الديمقراطية والطائفية: إشكالية التعايش الضدّي

يمكن لدارس تاريخ لبنان وقوانينه ودساتيره مع تعديلاتها المتلاحقة أن يلاحظ، بما لا يقطع الشك، أنّ النطاق الانتخابي النيابي قد نشأ وتطور في ظلّ توجّه عام يتضمن الحفاظ على أمرين أساسيين: الديموقراطية والطائفية.. ولقد قامت نظرية النظام الطائفي على فرضية أنّ لبنان مجموعة أقليات طائفية تشارك في حكم البلد، وتوزّع خيراته، وتقرير مصيره وسياسته، تبعاً لحجم كل جماعة، فكان الموارنة حسب هذه النظرية أكبر تلك الطوائف والأقليات فاحتلّوا مركز الصدارة الأولى في النظام السياسي”(19).. وهو احصاء غير صحيح، أجري في العام 1932 لمرّة واحدة ولايزال إلى الآن، على الرغم من التطور السكاني للبنان، وهذا لا يعني حرمان بقية الطوائف من حصّتها في الحكم، بل كانت الركيزة الطائفية تؤكد ذلك، وتقوم على التعدّد والتنوّع.. ويبدو أنّ الفرنسيين قد نحوا باتجاه هذا النحو، فجعلوا من لبنان بلداً يقوم على هذا التعدّد وفق موازين مختلّة تقوّي فئة على أخرى، أي أنّ الفرنسيين حققوا في لبنان التوازن الطائفي بديلاً للوطن المسيحي الذي شكلته المتصرفية بحماية دولية(20).

2- الدستور: تكريس الاشكالية الضدّية

وبناء على ذلك، لحظ الدستور اللبناني هذه المفارقات التكوينية في نظام الحكم: فجعل رئاسة الجمهورية منوطة بالموارنة ورئاسة الحكومة بالسنّة ورئاسة البرلمان بالشيعة.. على أن توزّع المراكز في الوظائف على الطوائف، كلّ بحسب حصّته في المؤسسات جميعها.. حيث تغدو بعض المراكز حكراً على طائفة دون أخرى.

والجدير بالذكر أن أول دستور للبنان كان مستمداً من دستور فرنسا، الجمهورية الثالثة (1875)، وضع باللغة الفرنسية وأقرّ في 23 أيّار في العام 1926.. وهو الذي أقرّ أنّ يكون نظام الحكم في لبنان برلمانياً، والبرلمانية هنا تقوم على مبدأ تفريق السلطات المرن الذي يتم التعاون فيه بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.. وهذا يعني مبدأ التعاون بين السلطات، ولا مسؤولية رئيس الدولة، ومسؤولية الوزراء السياسية وعمل الوزراء الجماعي.. كما تعني هذه البرلمانية في لبنان، أن الأغلبية يجب أن تحكم(21)، والشعب هو الذي يقرّر هذه الأغلبية عن طريق انتخاب ممثليه..

لقد كفل الدستور هذه الحرية للمواطن اللبناني وأعطاه الحق في اختيار حكامه عن طريق الانتخاب المباشر، وأفسح في المجال لهوامش واسعة من التقرير في نطاق الحقوق والواجبات..

وقد أقرّ الدستور موضوع الأهليّة السياسية، وهي صلاحية المرء لأن يكون ناخباً ومنتخباً.. والأهلية النيابية هي القابلية القانونية للصيرورة عضواً في مجلس النواب.. وهذه الأهلية تحدّد هذه الصيرورة في أن يكون النائب في هذا المجلس.. وقد نصّت المادة السادسة من قانون الانتخاب على ما يلي:” لا يجوز أن ينتخب عضواً في المجلس النيابي إلا من كان لبنانياً مقيّداً في قائمة الناخبين، أتمّ الخامسة والعشرين من عمره، متمتعاً بحقوقه المدنية والسياسية، متعلماً، ولا يجوز انتخاب المتجنس بالجنسية اللبنانية إلا بعد انقضاء عشر سنوات على تجنّسه”(22).

ولقد حدّدت المدة النيابية بأربع سنوات قابلة للتجديد في حال اعيد انتخاب النائب.

أما عن عدد المجالس، فقد عرف لبنان نظام المجلسين في أول دستور له في العام 1926، حيث نصّت المادة السادسة عشرة منه: على أن “يتولّى السلطة المشترعة هيئتان، مجلس الشيوخ ومجلس النواب”.. وهي المرة الوحيدة التي عرف لبنان في تاريخه نظام المجلسين، ثم ألغي الأول (الشيوخ) ليبقى الثاني النيابي وليبقى لبنان أحاديّ المجلس حتى اليوم، على الرغم من أنّ اتفاق الطائف عاد وأكّد على المجلسين، لكنّه لم يطبق إلى الآن، ولم يشهد لبنان غير مجلس واحد هو للنواب.

3- التمثيل النيابي وانعكاس الديموقراطية

ولقد اعتمد الانتخاب في لبنان كأسلوب ديموقراطي، و”هو نتيجة طبيعية للفكرة التمثيلية التي تفترض اختيار ممثلي الشعب لممارسة السلطات، لأنّ الشعب لا يقدر على ممارستها بنفسه، كما هي الحال في الديموقراطيات المباشرة”(23).

ويفهم من كلمة انتخاب في القوانين الانتخابية اللبنانية، أنّ الانتخاب هو حقّ من حقوق المواطن، لأنّه يتولّى القيام بجزأ من السيادة الشعبية، وهو اختياري، لا يفرض فرضاً على المواطن الذي له الحرية في القيام به، على أنّه في الأحوال كلّها حقّ يتساوى فيه المواطنون، وأمر شخصي، ويجب أن يكون سرّياً ويتمّ بشكل فردي، ويصبح الانتخاب بذلك واجباً أخلاقياً، وعدم اقتراع الناس كلّهم لا يمثّل إرادتهم جميعاً ولا حتى إرادة الأغلبية في حال عدم توافرها.

والميّزة الرئيسة في هذا القانون الانتخابي اللبناني هي: الحفاظ على الديموقراطية، لذلك كان فردياً وسرّياً، يمارس من خلف ستارة أو عازل، وتوضع ورقة الاقتراع في ظرف مختوم رسمياً..

ولقد أجمعت القوانين الانتخابية المتتالية في لبنان على الإقرار بأن “عضو مجلس النواب يمثّل الأمة جمعاء، ولا يجوز أن تربط وكالته بقيد أو شرط من منتخبيه”(24)، ولا يترتب على النائب أية مسؤولية من جرّاء أعماله النيابية، وهو يتمتّع بالحرية والاستقلال الكاملين.. لذلك نشأت الحصانة النيابية، ولا يمكن عزل النائب إلاّ جماعياً بحلّ المجلس النيابي.. إلا أن القانون استثنى الخيانة العظمى سبيلاً لرفع الحصانة..

وقد أوضح قانون الانتخاب اللبناني مفهوم الأمّة قطعاً لأيّ لبس في بلد مثل لبنان تدّعي فيه بعض الطوائف أنّها أمّة.. وقد حدّد الدستور اللبناني الأمّة بأنّها شخص معنويّ متميّز عن الأفراد الذين تتألف منهم، وقد أعطت لمجموع الممثلين وكالة لتمثيلها كأمّة تضم جميع المواطنين وليس لدائرة انتخابية معينة، النائب هو للأمّة، للوطن وليس لدائرة أو طائفة أو منطقة فيه..

وسمح القانون للمرشح أن يكون مستقلاً، أو أن يكون في لائحة وفق ما تحدّده الأنظمة من مقاعد لطائفة من الطوائف.. وللمرشح أن يفوز بأغلبية الأصوات على منافسه، وهي بهذا المفهوم أغلبية نسبية تعطي الفوز للذي ينال العدد الأكبر من أصوات المقترعين(25).

كما حدّدت القوانين الانتخابية المتتالية أهلية الناخب الانتخابية.. فلكل مواطن في لبنان بلغ من العمر إحدى وعشرين سنة كاملة حقّ في أن يكون ناخباً، على أن تتوافر فيه الشروط المطلوبة بمقتضى قانون الانتخاب”(26). كما حدّد القانون شروطاً أخرى للناخب ومنها: توافر المواطنية (الجنسية) والرشد السياسي، كما حرم البعض من حق الانتخاب، وهم المحرومون من الحقوق المدنية والوظائف العامة والمدانون بالجرائم الشائنة والجنايات والمحجور عليهم قضائياً والمعلن افلاسهم والمجرّدون مدنياً(27).

ونصت المادة 30 من الدستور اللبناني على أنّ “للنواب وحدهم الحق بالفصل في صحة نيابتهم”، كما نصت المادة 39 منه بأنّه “لا يجوز إقامة دعوى جزائية على أي عضو من أعضاء المجلس بسبب الآراء والأفكار التي يبديها مدة نيابته”، وأعطت المادة 40 من الدستور حقاً للمجلس في اتخاذ القرار المناسب في النائب إذا اقترف جرماً جزائياً ما خلا حالة التلبس بالجريمة(28).. وفي ذلك كلّه تظهر لا مسؤولية النائب عن أعماله.. وهو ما يسمى بالحصانة النيابية(29) التي تحول دون إقامة أية دعوى مدنية ناشئة عن عمل من أعمال النيابة حتى بعد انتهاء نيابته إذا ما تعلّق الأمر بالآراء والأفكار.. وبحسب القانون الانتخابي (1964) تنتهي مدة النيابة بعد انقضاء الاربع سنوات.

رابعاً: القوانين الانتخابية في لبنان: النصوص والواقع والممارسة

1- قوانين كثيرة والمصلحة في أحدها: قانون 1960

عرف لبنان وثائق مختلفة لقانون الانتخاب اللبناني، ويمكن حسبان العام 1960 بداية للعمل بالقوانين التي اتخذت صفة الثبات، على الرغم من التطورات الحاصلة في لبنان، وعلى الرغم من صدور عدة وثائق لهذا القانون قبل هذا التاريخ وبعده.

لقد طبّق في لبنان قانون واحد للانتخاب، وهو الذي صدر في 26 نيسان من العام 1960. وهو قانون ألغي بموجب القانون رقم 171 تاريخ 6/1/2000، لكن العمل به لايزال ساري المفعول حتى الوقت الراهن، أي في انتخابات الـ 2000 و الـ2004 والـ 2008.. وكانت عبارة “بشكل استثنائي” ترافق هذا القانون في هذه الدورات الانتخابية المتعاقبة، على الرغم من أنّ عدد النواب قد ازداد من 99 نائباً إلى 128 نائباً، وأنّ لبنان قد مرّ بظروف استثنائية صعبة لاتزال مفاعيلها قائمة حتى يومنا هذا، فلا يخفى على أحد ما جرى من حروب قد أدّت إلى استنزاف طاقة اللبنانيين، سواء منها الأهلية والطائفية، أم الاجتياحات الاسرائيلية، أم الجرائم المفتعلة التي أمعنت في انقسام اللبنانيين وعمّقت خلافاتهم وأنذرت بعواقب وخيمة نتيجة اصطفافات طائفية وسياسية جرت حتى الآن بلا هوادة..

وهكذا كان قانون 1960 هو المعتمد، لأنّه في حدوده القصوى يؤمّن تلك الثنائية الضدّية: الديموقراطية والطائفية، كما يؤمّن مصالح الأكثرية للمرشحين الثابتين في مناطقهم، حيث تعدّل بعض مواد هذا القانون، استثنائياً، بما يخدم بقاءهم ومصالحهم فيفصّلون الرداء على قدر أحجامهم..

ولقد اعتمد القانون الانتخابي للعام 1960 على الدائرة الانتخابية الضيّقة، أي أن الدائرة الانتخابية تتألف من القضاء بشرط ألاّ يقلّ عدد النواب فيها عن اثنين، يستثنى من هذه القاعدة مراكز المحافظات(30).. كما اعتمد على طائفية النيابة، بحيث “يحدد عدد نواب كل طائفة في كل دائرة وفقاً للجدول الملحق بهذا القانون”(31)، و”جميع الناخبين في الدائرة الانتخابية على اختلاف طوائفهم يقترعون للمرشحين عن تلك الدائرة”(32)، وعل المرشح أن يكون متعلماً؟؟ والناخب هو من أتمّ الحادية والعشرين، على أن يكون متمتعاً بالأهلية المدنية والسياسية، ويكون اسمه مدرجاً في إحدى اللوائح الانتخابية وفقاً لقوانين الاحصاء ووفقاً للدائرة الانتخابية التي ينتمي إليها.. ويمنع الانتخاب على كل من انتمى إلى السلك العسكري ولازال في الخدمة.. ويتمّ الانتخاب بحسب آلية خاصة تؤمّن ديموقراطيته من حيث الأوراق والمظاريف والعوازل.. فيفوز بالانتخاب المرشح الذي ينال العدد الأكبر من أصوات المقترعين، وإذا تساوت الأصوات فيفوز الأكبر سناً”(33).. ويسمح للمرشح الإعلان عن ترشيحه بملصقات وفق القوانين التي تحدّدها السلطة الإدارية، ويحظر على موظفي الدولة توزيع المنشورات لصالح أي مرشح.

2-قانون 2008: إيجابيات ديموقراطية محاصرة بالطائفية والمصالح

وبالطبع فإنّ قانون الانتخاب للعام 1960 لاقى اعتراضات كثيرة لأنّه لم يتضمّن تفصيلات كثيرة يمكن أن تحافظ على ديموقراطية الانتخاب، ومع ذلك فقد استمرّ العمل فيه، ليس لعدم كفايته، بل لأنّ فيه مواد تضمن لبعض المتنفذين بقاءهم في الحكم، حيث يمكن القول: “إنّ بعض التعديلات التي قد أضيفت عليه كفيلة بهذا الضمان، لذلك جرى الحديث في لبنان عن “المحادل الانتخابية” التي توفّر للزعيم السياسي، ليس فوزه وحسب، بل فوز لائحته التي غالباً لا تنافسها لوائح أخرى، حيث يكون له فيها الأكثرية الطائفية التي تؤمن هذا الفوز لمجمل اللائحة، وحيث تضطر الأقليات المذهبية إلى الرضوخ لهذا الزعيم أو ذاك لأنّه لا حول لها ولا قوّة، ولا نصيب للنجاح لأي معارض لأنّه لا يضمن أكثرية الأصوات التي تذهب إلى اللائحة وزعيمها.. وهو تغييب للإرادة الشعبية ومنع وصول ممثلين عنها بحكم قلّة مؤيديها وسط بحر من المؤيدين لزعيم الطائفة المعيّنة.

وعلى الرغم من أنّه لم يُعمل بقانون 2000 ولا بقانون 2008، فقد سجّل هذان القانونان لاسيّما الـ2008 تطوراً يعكس حقيقة بعض الطموح الشعبي، إذ يجعل من المحافظة (وليس من القضاء) دائرة انتخابية واحدة تحوي من المتناقضات الطائفية الشيء الكثير، ومن شأن ذلك أن يحدث تغييرات مهمّة على صعيد الفرز السكاني والتحالفات التي يمكن أن تحصل، أو أنّها تمكّن الأحزاب السياسية صاحبة الانتشار من الفوز في حال تضامّ انتشار أصوات أتباعها..

ومن حسنات هذا القانون الاتنخابي (قانون 2008) أنه يتيح لجميع اللبنانيين المقيمين وغير المقيمين أن يمارسوا  حقّهم الانتخابي(34). كما تطرّق هذا القانون في جملة من موادّه إلى المال الانتخابي، وهي قضيّة يعانيها اللبنانيون أثناء الحملات الانتخابية، نظراً لانتشار ظاهرة الرشوة في غير مكان من لبنان. فقد أقرّ هذا القانون تحديد سقف هذا الإنفاق الانتخابي بمئة وخمسين مليون ليرة لبنانية. وهذه الظاهرة تكاد تكون أساسية في فوز بعض المرشحين، لانعدام الرقابة الصحيحة عليهم وتسرّب الأموال بطرق مختلفة إلى الناخبين.. فبعض المرشحين يتحايلون على القوانين في عملية حصر أموالهم وايداعاتهم وتوزيعها على المفاتيح الانتخابية بطرق سرّية لكنّها باتت معروفة..

كما أقرّ هذا القانون شرعية الحملات الانتخابية، وسمح للمرشحين باستعمال الوسائل الإعلامية مقابل بدلات مادية معينة، بالأسلوب والطريقة المناسبين بما لا يتعارض والقوانين والأنظمة(35).. وبما يتماشى مع حرية التعبير واحترامها، وبما يُلتزم به من عدم ترويج مؤسسة إعلامية لمرشع معيّن، والامتناع عن الذم والقدح بحق الآخرين وعدم تحريف المعلومات أو تزييفها أو حذفها أو إساءة عرضها(36).. كما يحق للمرشح ومؤيديه استطلاع الآراء قبل مواعيد الانتخابات بفترة محدّدة..

ومع أنّ هذا القانون، في نصوصه الواضحة، قد كفل حريّة الدعاية والنشر والإعلان والقول والتعبير بوجوه كافة، إلاّ أنّ هناك الكثير من الاختراقات التي تسود هذا المجال.. ذلك أنّ مؤسسات الإعلام في لبنان كثيرة ومتنوّعة، سواء منها المرئي والمسموع، أم المكتوب المتمثّل في الصحافة والنشر والإعلان، بحيث تكثر الدعايات الانتخابية وتصل إلى حدّ المبالغات لصالح هذا المرشح أو ذاك، فلا يتاح المجال في هذه الحملات إلاّ للقادرين على التغطية المالية، وعند هذه المسألة تصبح القضية بلا حدود وتغيّب أصوات المرشحين غير القادرين على الدفع، أو عدم امتلاك مؤسسة إعلامية تتبنّاهم.. علاوة على ذلك فإنّ معظم السياسيين في لبنان يمتلكون مؤسسات إعلامية خاصة، بحيث تتحوّل إلى ميدان واسع للترويج لهم.. مع الأخذ بالحسبان أنّ معظم السياسيين يمتلكون صحفاً خاصة بهم، أو أنّهم قادرون على شراء هذا الصحافي أو ذاك، تروّج له وتتبنى حملاته الانتخابية أو مواقفه السياسية.. وهو أمر يضيع مفاعيل تلك السلطة الرابعة التي عُرف بها لبنان منذ أمد بعيد، ويقيّد حرية الفكر والقول والتعبير ويضلل الرأي العام ويواكب في أحيان كثيرة التلفيقات السياسية الجارية على قدم وساق في لبنان.

وفي حدود المال تنتهي قضايا كثيرة، فثمّة من يملكه وثمّة من لا يملكه، وهي مسألة شائكة تتحكم بمصير الكثير من المرشحين في لبنان، سواء عن طريق الحملات التي تحتاج إلى المال داخل المدن والقرى أو إلى جذب الناخبين، أم عن دفع المال للمؤسسات الإعلامية كي تروّج لمرشح معين..

ولقد نصّت المادة 102 من هذا القانون على أنّه لا يجوز الجمع بين عضوية مجلس النواب وعضوية بعض الوظائف في الدولة أو خارجها، وفرضت على هؤلاء الاستقالة من وظائفهم قبل ستة أشهر من موعد الانتخابات النيابية، وفي هذا الشرط الأخير حرمان لكثير من الكفاءات العلمية والإدارية والإنمائية من الإسهام في أعمال الندوة البرلمانية.. لأنّ هؤلاء يرتابون من عدم النجاح فيخسرون وظائفهم الأساسية فلا يجرؤون على الإقدام على الترشيح..

3-وثيقة الوفاق الوطني – اتفاق الطائف: رهان مع وقف التنفيذ

جاء اتفاق الطائف بعد سلسلة من الأحداث الدامية التي عصفت بلبنان، وقد تنادت الفاعليات اللبنانية لعقد هذا الاجتماع بغية الخروج من المأزق الصعب الذي تعرّض له لبنان، وقد تمّ الاتفاق برعاية عربية، وكما يدل اسمه: “اتفاق الطائف” فإن مكان انعقاد هذا اللقاء قد تمّ في مدينة الطائف السعودية..

وإذا كان موضوعنا ينحو باتجاه الانتخابات النيابية، فإن التشريع العام في القوانين اللبنانية يبدو شاملاً كلّ شيء ومراعياً الأسس التي يجب أن تنعكس على مجمل الأوضاع في لبنان.. لذلك جاءت وثيقة اتفاق الطائف، أو بالأحرى كما سمّيت بحسب المقصد منها: “وثيقة الوفاق الوطني” لتؤسس لهذا الوفاق كحلّ جذري لبعض المشكلات التي عاناها اللبنانيون في تاريخهم الممتد على أكثر من قرنين من الزمان، عنيتُ حسم بعض القضايا التي تشكّل مولّدات للأزمات في كل فترة زمنية قد تطول أو تقصر، عنيتُ مشكلة الطائفية ومشكلة انتماء لبنان النهائي..

الأمر الأول: الإنتماء

وقد نصّت الوثيقة في مبدائها العامة(37) على وحدة لبنان وحريّته واستقلاله ونهائيته كوطن لأبنائه أرضاً وشعباً.. كما نصّت الفقرة (ب) من هذه المبادئ على أن “لبنان عربي الهويّة والانتماء”، وهو تعديل لما جاء في دستور الاستقلال بأنّ “لبنان ذو وجه عربي” أي أنّ له وجوهاً أخرى غير عربية.. فقد أكّدت الوثيقة خلاف ذلك وأقرّت بعروبة لبنان هويّة وانتماء..

الأمر الثاني: إلغاء الطائفية السياسية

والأمر الثاني المهم هو إلغاء الطائفية السياسية، حيث أنّ إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية، وعلى مجلس النواب المنتخب على اساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق هذا الهدف وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية مهمتها دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلس النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية”(38).

وكان ذلك يقتضي إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة والقضاء.. وغير ذلك من المؤسسات وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني، باستثناء وظائف الفئة الأولى أو ما يعادلها فتبقى ضمن المناصفة الطائفية..

كما نصّت الوثيقة على إنشاء المجلس الدستوري والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤوساء والوزراء.. كما أعطت الوثيقة الحق لرؤوساء الطوائف اللبنانية في مراجعة المجلس الدستوري فيما يتعلق بالأحوال الشخصية وحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية وحرية التعليم الديني(39).

لقد ظلّت الطائفية الخلل الرئيس في تطبيق الديموقراطية على أكمل وجه في لبنان.. وكانت خطوة جريئة تمثّلت في اتخاذ هذا القرار التاريخي للحدّ من عرقلة النموّ الطبيعي للوطن والتوقف عن الحوادث التي أودت بكثير من المواطنين على مرّ الزمن.. لكنّ الخطوة بقيت ناقصة، إذ أوكل الأمر للطائفيين أنفسهم.. هؤلاء الذين يمثلون الطائفية بحدّ ذاتها، بها استطاعوا أن يديموا بقاءهم في الحكم، ليس لهم شخصياً وحسب بل لأبنائهم وورثائهم وعائلاتهم. لذلك بقي هؤلاء الحراس أمناء على مصالحهم ولم يتقدّموا قيد أنملة في سبيل إلغاء الطائفية، بل على العكس قد تكرّست وتعمّقت وكادت تقضي على البقية الباقية من لبنان، لولا بعض الحريصين عليه..

وكان الأحرى أن يوضع الأمر في أيدي أناس حياديين من رجال الفكر والسياسة والحقوقيين والأساتذة الجامعيين المتخصّصين وأصحاب التشريع الحقوقي المشهود لهم في هذا الحقل..

علاوة على ذلك، فقد تعزّز وضع الطوائف في لبنان بتعزيز مواقع بعض رجال الدين وجعلهم مرجعية سياسية، بالإضافة إلى مرجعيتهم الدينية.. ولقد لاقى بعض رجال الدين من الشهرة والتكريس والسلطة ما جعل بعض السياسيين يطلبون رضاهم كي ينالوا حظوة لدى الناخبين..

وهو أمر جعل الشؤون العامة في لبنان تتطوّر وفق هذا المنطق الذي يرمي مصالح الناس جانباً ويجعل البعض يلهث وراء تلفيقات سياسية لا تغني في بناء وطن.. لذلك كان هذا التبادل بين السياسي ورجل الدين قائماً على توزّع الأدوار والمصالح دون مصالح الناس..

من أجل هذا لم يطبق اتفاق الطائف وبقي في الهامش ينتظر الدورات الانتخابية كي يُعمل به دون جدوى.. فمنذ إقراره حتى الآن جرت أربع دورات انتخابية متتالية دون اعتماده، على الرغم من وضع بعض مشاريع القوانين العائدة لتنظيم الانتخابات على أسس لا تأخذ باتفاق الطائف كلّياً أو جزئياً..

ولقد كانت بعض بنود هذا الاتفاق حلماً يراود اللبنانيين كي يتخلّصوا من البلاء المحدّد لوجودهم.. ذلك أنّ هذا الاتفاق قد أقرّ بأن “لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة، ومنها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في جميع الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل.. وعلى مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها.. وعلى الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً(40).

ولقد شكّل هذا الإنماء اللامتوازن بين المناطق اللبنانية عقبة كأداء في تطور بعض المناطق اللبنانية.. فقد نما بعضها على حساب الآخر، وأهملت الأقليات الطائفية في بعض الدوائر الانتخابية التي عُدّت ملحقة بمناطق ذات الأكثرية الطائفية، ولم يعمل النائب بما يمليه عليه الدستور من أنّه نائب الأمّة، أي عن كل لبنان، فقد اقتصرت خدماته على جمهوره الانتخابي الذي يرجّح فوزه، حتى أنّ بعض المناطق ذات الثقل الانتخابي تركت من غير إنماء لعدم تأثير ممثلها في الندوة البرلمانية كونه ملحقاً هو الآخر بأحد الزعماء السياسيين الذين يهملون أكثر مما يهتمّون..

ولا يزال اللبنانيون ينتظرون تطبيق بعض بنود هذا الاتفاق التي تؤجّل على أبواب كل دورة انتخابية، ومنها جعل المحافظة دائرة انتخابية، وكذلك أن يعمد أيّ مجلس من المجالس المنتخبة ابتداء من العام 1992 إلى وضع قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، توزّع فيه المقاعد النيابية بالتساوي بين اللبنانيين، ولكن على أساس طائفي يأخذ بالحسبان التساوي بين المسلمين والمسيحيين، ونسبياً بين كل فئة ومذاهبها ونسبياً بين المناطق(41).. هي الثغرة القاتلة التي حارب اللبنانيون الغيورون على وطنهم لإلغائها.

خامساً: التجارب الانتخابية في لبنان بين رهان الديموقراطية وحصار الطائفية

1-مزيّة الديموقراطية في لبنان

وفي المحصلة يبدو أن الناظر في القوانين الانتخابية اللبنانية يراها كانت تتجه دائماً نحو النهج الديموقراطي الذي يوفّر أكبر قسط ممكن من الحرّية والعدالة والمساواة.. ولقد خلّفت هذه التجارب عبر العهود المختلفة أجواء من الاعتقاد بأنّ لبنان بلد الديموقراطية، وأنّ التنوّع الذي يحتضنه ضمانة أكيدة لها.

ولا يخفى على أحد أنّ لبنان، أو الفكرة المكوّنة عنه، بلد يتمتّع بحرية متنوّعة، لاسيّما في ميدان التعبير والقول والانتخاب، وأنّ الدستور اللبناني قد كفل للمواطنين هذا الهامش الواسع من الديموقراطية، مقارنة بما يحيط به من أنظمة سياسية في البلاد العربية وما يطبّق فيها من قوانين وأنظمة.

2- التحديث الطامح للقوانين في لبنان

وكان الشكل القانوني في لبنان مغرياً أمام كثير من اللبنانيين فسعوا بشكل دائم إلى إخراجه من الجمود في المراحل العديدة التي مرّوا بها، لاسيما ابتداء من نظام القائمقاميتين إلى نظام المتصرفية، وصولاً إلى نظام عهد الانتداب ومرحلة ما بعد الاستقلال حتى الزمن الأخير..

وكان هذا الشكل القانوني يبرز في كل مرّة كموضوع للتغيير.. ولا عجب أن شُكّلت، غير مرّة، هيئات لتحديث القوانين الانتخابية، أبرزها التي أقرّت في العام 1992 وكان رئيسها النائب، آنذاك أوجست باخوس.. وكانت طريقة عملها تتلخص بالاعتماد على اختيار الصيغ القانونية المعتمدة في الأكبر من الدول الديموقراطية والاطلاع على الاجتهادات الحديثة فيها وانتقاء الصيغ التي تتلاءم مع دستور لبنان وعادات أهله وتقاليدها، ومراعاة الاختراعات الحديثة واستخدام المعلوماتية ومجاراة الوثبة الحضارية في الدول الأكثر ديموقراطية(42)..

وهو أمر بقي، كسواه من النصوص التي تطوّر القوانين شكلياً، لكنه بقي عاجزاً عن التطبيق في ظلّ وهم عام تحّكم في أذهان بعض اللبنانيين، ألا وهو الطائفية التي حرصت على ابقاء نفسها الأساس في التفكير: في السطح والجوهر من القوانين والأنظمة.. بالإضافة أنّ أرباب التطوير والتحديث والتطلع إلى النظام الديموقراطي الأمثل، هم أنفسهم اللاعبون السياسيون الأساس، ومصالحهم الانتخابية هي التي تبقى طاغية على كل شيء..

وهكذا كانت الصورة الشكلية تقنع بصحة القانون، لكنّ الممارسة العملية تطيح بهذه الصحة لتكرّس ما هو قائم عبر الزمن، يتداوله الأجداد والأبناء والأحفاط، فيضحى كل شيء وراثة ومحافظة عليها، في ظلال نتوءات في القوانين الانتخابية تبدو صغيرة لكنّها في الواقع تكرّس ما هو قائم جيلاً بعد جيل، فتحصر النيابة وحتى الوزارة في عائلات معينة، على الرغم من وجود أحزاب سياسية أسستها هذه العائلة أو تلك..

والجدير بالذكر، كما يقول باخوس: “أن صياغة القوانين تتطلب تقنية معينة، ومن المعروف أنّ نواب الأمة، قد يكون القسم الأكبر منهم من الأطباء ورجال الأعمال والمهندسين، وأنّ القسم الضئيل منهم يتمتّع بالمعرفة القانونية. عدا عن ذلك، ففي غالبية الأحيان ينشغل النواب بخدمات المواطنين، من واجبات اجتماعية وغيرها، وأنّ أعمال الرقابة على الحكومة تشغلهم عن التفرّغ للتشريع الصرف”(43).. وهذا ما يجعل من العمل التشريعي متعثراً.

3-التطبيق المتعثّر للقوانين

وفي الحقيقة إن القوانين الانتخابية في لبنان قد حفظت للمواطن حقّه، كما أسلفنا، إلّا أنّ الجدل الوحيد الذي يثيره المبدأ يدور حول عملية التطبيق، وهذا يعني أن فكرة اجراء انتخابات دورية لاختيار الممثلين لم تعد موضع شكّ أو تساؤل، وأنّ المشكلات التي قد تطرحها لا تتعدّى النطاق التقني أو التطبيقي الذي يمكن إدراجه في خانة البحث عن الصيغ الكفيلة بتوفير أحسن تمثيل للمواطنين في مؤسسات الدولة.. وكل ذلك من أجل الوصول إلى رحاب الديموقراطية الحاكمة(44).

وإن كانت هذه المداخلة تقرّ بالبحث الدائم عن أفضل الديموقراطيات في الحكم، فإنّها في الوقت نفسه تؤكد الجدل القائم حول عملية التطبيق..

وهذا التطبيق بحدّ ذاته يتخذ تفسيرات عديدة تقترب إلى حدّ التطابق مع المصالح الخاصة للافراد وبعض الجماعات.. وهذا ما يفضي إلى الحديث عن الواقع الانتخابي الذي يسوده الكثير من الثغرات، ويتركز معظمها في كيفية التطبيق. وهذا ما يعيدنا إلى ما سقناه آنفاً حول الاستثناءات وتوارث السلطة والحفاظ على المصالح والمكتسبات.

سادساً: الأحزاب السياسية بين الرهان الديموقراطي والتقوقع الطائفي

لن تستطيع هذه الصفحات تقديم عرض واف للواقع الحزبي في لبنان.. وقد عرف العالم تجارب عديدة حول توصل حزب أو أحزاب إلى السلطة، فكانت تجربة الحزب الواحد وثنائية الأحزاب وتعدّدها.. وفي لبنان، ومنذ عهد مبكر، وقبل قيام الدولة اللبنانية الواحدة كانت تجارب الاقطاعيين تطغى على مسألة التسلّط على الحكم، وفي ظلّها عُرف ما يسمّى بالحزب القيسي والحزب اليمني اللذين سيطرا على السلطة في مواقع الإقطاع لفترة طويلة من الزمن.. وهما حزبان لا يرتقيان إلى مستوى الأحزاب المعاصرة، وقد ضمّا لفيفاً من الاقطاعيين الذين كانوا يجتمعون بداعي العصبية أو المصلحة.. يضاف إليهما في تلك الفترة حزبان متنافسان آخران هما: الجنبلاطية واليزبكية داخل الطائفة الدرزية، وهما الحزبان الوحيدان اللذان بقيا منذ العهد الإقطاعي، واتخذ كلّ منهما اسماً آخر غير الذي كان في السابق: الأول الجنبلاطية، وهو ما عرف بالحزب التقدمي الاشتراكي، والثاني اليزبكية وهو ما يعرف اليوم بالحزب الوطني الديموقراطي، وهم الإرسلانيون الذين لا يزالون إلى الآن من سلالة الأمير مجيد ارسلان..

وفي ظلّ العهد العثماني المتأخّر ظهرت جمعيات وأحزاب، لم تكن لبنانية صرفاً بل كانت امتداداً للتشكيل الحزبي العربي في زمن يعود إلى بدايات القرن التاسع عشر.. وكانت تعمل جاهدة على حمل الدولة العثمانية على تحسين ظروف البلاد العربية  وتصحيح أنظمة الحكم فيها حتى إذا قطعت الرجاء من الاصلاح، راحت تعمل للخلاص من نير الأتراك، وقد كان للبنانيين سهم وافر في تأسيس تلك الجمعيات ودفع نشاطها في خدمة البلاد العربية جمعاء”(45).

وقد امتاز هذا النشاط الحزبي، في بعض وجوهه، بالكفاح من أجل خدمة القضية الوطنية، ولم يتميّز بالطائفية ولا العصبية لهذا الزعيم أو ذاك، بل كان من أجل العيش الكريم في وطن مستقلّ.. ويذكر التاريخ أن كثيراً من اللبنانيين قد عُلّقوا على أعواد المشانق، وهم من المنضوين تحت لواء هذه الأحزاب.

ولقد أطلّ زمن الانتداب في العام 1921 ولبنان خالٍ من الأحزاب السياسية، ولكن ما إن انقضت سنوات قليلة حتى تشكّلت بعض الأحزاب ومنها الحزب الشيوعي اللبناني والحزب القومي السوري، وهما حزبان سياسيان غير طائفيين.. ولقد سعيا إلى تسلّم السلطة في لبنان، ولكن من دون جدوى، وإن كان القومي السوري قد استطاع إيصال بعض أفراده إلى الوزارة والنيابة في الزمن الأخير من تاريخ لبنان. ولم تلبث أن تشكّلت في لبنان في ظلّ الانتداب كتلتان أو حزبان برلمانيان هما: الكتلة الدستورية أو حزب الاتحاد الدستوري برئاسة أول رئيس جمهورية استقلال للبنان، وهو بشارة الخوري، ولقد وقفت ضدّ الانتداب الفرنسي، والثانية الكتلة الوطنية التي أيّدت الانتداب وناصرته(46).. ومؤسسها إميل إدّه، وهو من رؤساء الجمهورية في ظلّ الانتداب قبل الاستقلال.

وفي الفترة نفسها  أنشئت أحزاب سياسية كثيرة ومنها حزب الكتائب اللبنانية (1936) وحزب النجادة (1936) والجبهة القومية (1936) وحزب النداء القومي (1945) والحزب التقدمي الاشتراكي (1949) وحزب الهيئة الوطنية (1950) وحزب الوطنيين الأحرار (1957) والحزب الديمقراطي (1969).. وحزب البعث العربي الاشتراكي (1947) وحركة القوميين العرب (1956).. وغيرها من الأحزاب التي لا تزال تشكّل إلى وقتنا الراهن مثل حركة أمل وحزب الله وتيار المستقبل والتيار الوطني الحر وتيار المردة..

والجدير بالذكر أنّ هذه الأحزاب في معظمها طائفي تقوم شعبيته وانتماء أفراده على طائفة من الطوائف.. وهي الأحزاب التي حكمت لبنان منذ خمسينات القرن الماضي حتى الآن.. وهي تجسّد هذا الانقسام اللبناني داخل البرلمان وخارجه.. وتتحكم فيها تحالفات سياسية وطائفية، وهي منقسمة على نفسها، والخطير فيها أنّها تمثّل واقعاً قد يحوّل لبنان إلى دويلات أو كنتونات، كما يتعمّق الطرح السياسي فيها إلى حدّ التطرّف، لاسيّما لجهة انتماء لبنان واصطفاف الناس حول هذا الانتماء أو ذاك..

وهو واقع يطغى على البرلمان اللبناني، حيث نجد تكتلات ضخمة إلى جانب هذا الراي أو ذاك.. وقد تكون تكتلات مختلطة طائفياً، ولكنها في معظم الأحيان تحتوي على طائفة واحدة تهيمن على مجموع المنتخبين الأمر الذي يجعل مصير البلاد في يدها.

وعلاوة على طائفية هذه الأحزاب، فإنّ معظم قادتها يتركزون في عائلة واحدة، يرئس أحد أفرادها الحزب تم يخلفه وريثه القريب، حتى أننا نجد التمثيل النيابي محصوراً فيها ضمن موافقة الأتباع والمؤيدين من دون مناقشة.. وحيث تبرز الأهواء السياسية والمصالح الخاصة كموجّه رئيس لها..

وعلى الرغم من وجود جبهات وتكتلات داخل البرلمان يعود إلى أزمان النصف الأول من القرن العشرين، إلا أنّها قد ذابت أو قلّ تأثيرها في العشر سنوات الأخيرة تحت وطأة الأحداث التي حلّت بلبنان، بما فيها الاغتيالات السياسية والتدخلات الخارجية..

وهذه التدخلات الخارجية بدورها قد كبّلت لبنان وصادرت قراره الوطني.. وهي لم تنشأ من الفراغ، إذ إنّ كثيراً من الزعماء السياسيين والنواب يدينون بالولاء لأصحاب هذه التدخلات..

زد على ذلك أنّ النائب في انتمائه إلى هذا التكتّل أو ذاك يفقد قراره الخاص وينساق إلى قرار كتلته أو زعيمه لاعتبارات عديدة تأتي عملية إعادة انتخابه في طليعتها..

وهو أمر يحوّل البرلمان اللبناني إلى حقل تجاذب، يضيع المواطن بين مصلحة هذا أو ذاك من النواب أو الزعماء، في خضم تلفيقات سياسية مبرمجة، تسحب الناخب من واقعه المعيشي الذي يعانيه إلى الخروج من ذاته واللحاق بهذا التيار أو ذاك مستوهماً أن مصلحته تكمن هنا أو هناك، فلا يملك أن يعارض نائبه أو زعيمه وإلا هُمّش كلّياً وضاعت منه بعض الخدمات التي من الممكن أن تُحمل إليه.. وهكذا يبقى مغلوباً على أمره متأرجحاً بين رفض ما يجري على أنّه غير صحيح، وبين قبوله على مضض ريثما يقضي الله أمراً كان مفعولا.

وباختصار إنّ الأحزاب في لبنان لم تتخذ مستوى واحداً من التعاطي مع السلطة، من جهة، ومع الأمر الواقع من جهة ثانية.. وباتت هذه الأحزاب ترى الديموقراطية من وجهة خاصة، كما أنّها كانت تنشأ لدواع عامة وطنية ولدواع خاصة طائفية أو عائلية أو شخصية.. وتأرجحت في الفترات السابقة بين يسار ويمين ووسط، وبين أحزاب جذرية الطرح تهدف إلى تغيير نظام الحكم، وهو مطلب كل حزب، وبين أحزاب اصلاحية أو انتخابية أو عقائدية.. وهو الأمر الذي دعا الدولة اللبنانية إلى إعادة النظر، غير مرّة في قوانين الأحزاب والجمعيات فرخّصت لبعضها ومنعت الترخيص عن آخر..

لكنّ الذي ينبغي اثباته هو أنّ غياب الأحزاب الديموقراطية يضرّ بالمصلحة الوطنية، حيث “يقر جميع الباحثين بأنّ غياب الأحزاب أو تغييبها هو الداء المميت للديموقراطية، والقوانين الانتخابية التي توالت على لبنان منذ الاستقلال تتحمّل القسط الأوفر من مسؤولية فشل العمل الديموقراطي والتمثيلي في البلاد، لأنّها أسهمت في توطيد نفوذ الزعامات الاقطاعية والطائفية، وحالت دون قيام أحزاب وطنية”(47).

إلاّ أنّ ذلك كلّه لم يجعل الشعب اللبناني ينتخب على أساس حزبي ويوصل نوابه وفق أنظمة الدول ذات الحزب الواحد أو الاثنين أو أكثر.. بقي الأمر عشوائياً، وبقي الناخب يدلي بصوته بالظروف الآنية والمؤقتة التي تشعلها الحملات السياسية بما تطرحه من تلفيقات سرعان ما تتلاشى.. وتبقى الطائفية وحلفاؤها معياراً رئيساً في هذا الانتخاب، حيث تقلّ البرامج الانتخابية، وتخلف الوعود في غير مكان من دوائر الاقتراع.. وللأسف تتجدّد في مواسم الانتخابات اللاحقة، بعد أن تُنسى من الجميع..

لذلك يرى البعض في لبنان أن مسؤولية اختيار الممثلين في مجلس النواب، لا تقع على عاتق المنتخَب وحسب بل يتقاسمه فيها، وإلى حدّ بعيد، هؤلاء الناخبون من المواطنين الذين يتأثرون بالتلفيقات أو أنّهم مجبرون على ذلك، أو أنّهم ينتخبون وفق مصالحهم الخاصة أو مقابل حفنة من الأموال..

وعلى هذا الأساس نرى أنّ الأحزاب التي تحمل برامج تنفيذية حقيقية شبه غائبة عن البرلمان اللبناني، وأنّ قوانين الانتخاب التي تعاقبت منذ الانتداب الفرنسي حتى الآن، لم تحقق خطوة ولو قصيرة في حقل التنظيم الحزبي، فالنظام الطائفي من جهة، وتجارب اللوائح الكبرى والصغرى من جهة ثانية، لم تحقق أكثر من نجاح اللوائح المتحالفة التي تضم نواباً يتفقون في المعركة الانتخابية فقط.. والتكتلات التي تحصل ليست إلاّ ظرفيّة، لذلك كانت عرضة للتفكك(48)..

وإذا ما شكّلت حكومة ما إئتلافية من بضعة أحزاب، فإن كل حزب يعمل كأنّه منفرد، وفي حال الاخفاق فإنّ المسؤولية تلقى على الحليف أو المؤتلف الآخر..

إن المتمكّن من معرفة أوضاع الأحزاب في لبنان وتاريخ تطورها وتواجدها داخل السلطة أو خارجها، لا يصعب عليه كشف اللعبة السياسية التي تمارسها هذه الأحزاب، خصوصاً قادتها الذين يستأثرون بالمقاعد النيابية، وعلى عاتقهم يقوم اختيار النواب في لوائحهم الانتخابية، وهي لعبة “لا تصحّ إلا بين فرق تتنافس على حشد المنافسين والأنصار.. وهي لعبة انتخابية بطبيعتها جماعية لا يستقيم إجراؤها بين لاعبين منفردين.. حيث تظهر الأحزاب السياسية كأداة طبيعية وضرورية لتنظيم التمثيل السياسي بتأطيرالناخبين والتنسيق بين رغباتهم الفردية المشتتة واعطائها مضموناً سياسياً يجعل من عملية الاقتراع اختياراً سياسياً، لا مجرّد تسمية للحكام(49).

وهذا الاختيار السياسي، في معظم الأحيان، يكرّر نفسه وفق آلية تعتمد على حشد الناخبين حول شعارات قد تتجدّد هي نفسها أو قد تتبدّل بحسب التغييرات الجديدة في الأوضاع العامة لبنانياً وعربياً ودولياً..

ولا ينبغي أن يُفهم من هذا السياق، حول الكلام عن الأحزاب، أنّ الديموقراطية يمكن أن تقوم من غير أحزاب، فهي في أساس الحقوق الديموقراطية، وإذا ما وُجد من ينتقد وجود الأحزاب فذلك لإبعادها عن الضوء كمنافس على السلطة للإبقاء على المكتسبات السابقة.. إلّا أنّ الأمر في لبنان ينحو نحواً آخر يتمثل في التشويه الحاصل لتكوّن الأحزاب التي في جلّها يقوم على الطائفية، إذ يصبح المعارض في الطائفة ضدّها وضدّ تواجدها أو أنّه لا يريد لها أن تفوز..

من أجل ذلك يتردّد اللبناني بين القبول بهذه الأحزاب التي لا تقود البلاد إلى الوضع السليم وبين رفضها الذي يطرح علامات استفهام كثيرة حول هذا الرافض.. وفي التحليل الأخير ثمّة أحزاب في لبنان خطت خطوات مهمة باتجاه كرامة الوطن وعزّته والدفاع عنه.. وثمّة أحزاب أخرى أسهمت في تهديمه وأنبتت عناصر وقيادات لا يُرجى منها خير..

سابعاً: ضياع الرهانات في ظلّ الانقسامات

وفي الواقع اللبناني اليوم ثمّة تجاذبات سياسية كبرى تكاد تنحصر في اتجاهين رئيسين في البرلمان اللبناني.. فمنذ العام 2005، أي منذ استشهاد دولة رئيس الحكومة رفيق الحريري، ولبنان يشهد هذا التجاذب بين كتلتين كبيرتين: 8 آذار و 14 آذار، وحولهما يلتف النواب جميعهم، كما يتعدّى هذا الالتفاف إلى صفوف المواطنين، الأمر الذي خلق صراعاً قوياً لم ينتهِ إلى الوقت الراهن، وإن كان الواقع بدا يشهد تحوّلاً بطيئاً في الانتماء إلى أحد الكتلتين، حيث تشهدان تفككاً سياسياً يمكن أن يؤول إلى إراحة الأوضاع العامة في لبنان على الصعيدين الرسمي والشعبي..

وهو انقسام أثّر كثيراً في الأوضاع في لبنان، وأذاب صلاحيات النواب في هذا التكتل أو ذاك، وجعلهم ملحقين يكفّون عن التشريع.. والغريب أنّ هذا الأمر يلقى استجابة فورية من المواطنين الذين اعتادوا على التأقلم مع الأجواء العامة، لاسيّما في الاصطفاف وتبديل المواقع والمواقف، والاستجابة أيضاً لحركة الانتقال من هذه الكتلة إلى تلك أو العكس أو البقاء جانباً إلى حين.

وهو أمر أيضاً جعل قسماً من النواب في الكتلتين مردّدين لشعارات سياسية تخدم إحدى الكتلتين، وهو ما عطّل الكثير من عمليات البناء في لبنان وأخّر الإنماء وحوّل دور النائب إلى إعلامي يدافع عن طروحات سياسية قد تكون في معظمها ملفقة وإلهائية للناس.. بينما الأزمات المعيشية تتفاقم على غير صعيد ولا تجد اهتماماً لحلّها كأزمة الكهرباء والبطالة والقطاعات الانتاجية والتربوية والصحيّة وفي الوقت نفسه ينتشر الفساد في الإدارات العامة، ولا يجد الموظف الفاسد من يردعه أو يكفّ يده لأنّه في التحليل الأخير تابع لإحدى الزعامات.

بيد أنّ هذا الانقسام لا يبتعد كثيراً من واقع الانقسام الطائفي، فقد شهدت السنوات الأخيرة عبئه الثقيل ولكن بصورة جديدة رسمت عظم الاصطفاف السياسي والطائفي في آن واحد.. غدا لبنان أمام طوائف كبيرة تجتاح طوائف أخرى بحسب تواجدها الجغرافي.. فالسنّة يقترعون لمن يقدّمه لهم الزعيم السنّي على مستوى لبنان بأكمله وضمن دوائره الصغيرة (القضاء)، والشيعة والدروز والموارنة كذلك. وثمّة ملحقون ضمن هذه الدوائر، من طوائف أخرى: إمّا أن يصوّتوا وفق الزعيم الطائفي الأوحد، وإمّا يرضخون للزعيم المحلّي لاعتبارات عديدة..

ثامناً: تعثّر الانتماء إلى وطن والقيد الطائفي

وهي نتيجة تطور الأوضاع منذ الاستقلال الذي أتاح في دستوره وجود هذه الركيزة الطائفية المتلازمة شكلاً مع الديموقراطية.. بقيت في ضمير اللبناني تذكره بانتمائه إلى طائفة وليس إلى وطن.. المهم أن يستعمل الديموقراطية المقدّمة إليه في أحسن صورها، لاسيما في التمثيل النيابي.

إنّ التمثيل النيابي الصحيح وبالتالي الإصلاح السياسي الصحيح يبدأ بتمثيل نيابي صحيح، “وهذا التمثيل لا يتحقق إلاّ بتطبيق قانون عادل ومتوازن تجري الانتخابات على أساسه بحرّية ونزاهة، لأنّ الشعور بالقهر أو الغبن أو الإحباط لدى فئة من المواطنين يظهر ويتفاقم عندما تطبق قوانين انتخابية غير عادلة وغير متوازنة تفصّل فيها الدوائر الانتخابية على قياس مرشحين محظوظين أو مرغوب فيهمن وتكون نتيجة ذلك في النهاية نقمة شعبية عارمة”(50).

ولا ريب في أنّه في حمأة الصراع من أجل السلطة نجد الكثير من حالات الانحراف والهرب من تطبيق القوانين وصولاً إلى التزوير والضغط على الناخبين بوسائل مختلفة تصل حتى الإرهاب.. ويؤكد الدكتور محمد المجذوب هذا الأمر باستشهاده بحادثتين تمّ فيها تزوير الانتخابات في لبنان: “فالانتخابات التي جرت في أيار 1947 شابها تزوير، وأتت بعدد من النواب لا يمثلون الشعب تمثيلاً صحيحاً، فدفع رئيس الجمهورية (الشيخ بشارة الخوري) ثمن ما حصل، وتعرّض لثورة بيضاء أكرهته على الاستقالة من منصبه، وفي العام 1957 جرت انتخابات في ظلّ قانون قسّم الدوائر الانتخابية بطريقة راعت مصالح مرشحين معينين وسمحت لأجهزة السلطة بالتدخل والتلاعب بالنتائج، فأدّى ذلك إلى إسقاط زعماء بارزين في تلك الانتخابات، وكانت النتيجة اندلاع أحداث العام 1958 للتعبير عن نقمة الفئة المقهورة”(51)،  وبالطبع هي أحداث طائفية قاتلة..

وإذا كانت هاتان الحادثتان تعودان إلى ما يزيد على نصف قرن من الزمان، فإنّ المراحل اللاحقة لم تخل من عمليات القهر الانتخابي حتى في انتخاب بعض رؤساء الجمهورية اللبنانية.. لكنّ الأمر الأخطر هو أنّ رؤساء الجمهورية المتلاحقين قد عمل كلّ منهم على إقرار نظام خاص بالانتخابات النيابية كي يؤمّن لنفسه الاستمرارية في الحكم اللاحق، فيأتي به وفق مصالحه.. لذلك لم ينج أي نظام انتخابي من هذه الأنظمة، ولم يعمل به حتى الآن، وبقي قانون عام 1960 هو المطبق، على الرغم من هذه القوانين المتلاحقة..

 تاسعاً: التواءات قابلة للإصلاح

علاوة على ذلك فإنّ القوانين الانتخابية في لبنان، وحتى في بعض أجزاء من العالم، في اعتمادها على قاعدة الأغلبية تحرم قسماً لا بأس به من المواطنين من التعبير عن رأيهم أو الاستفادة من طاقاتهم.. وهذا النظام بالأغلبية مبني في الأساس على مغالطة قانونية فادحة تتمثل في اقحام مبدأ الأغلبية على نظرية التمثيل الانتخابي.. وهو حكم بالموت المدني على نصف الناخبين(52)..

ويمكن في هذا الصدد تصحيح مقولة الأغلبية عبر التمييز بين الانتخاب أو الاقتراع التمثيلي وبين التصويت أو الاقتراع التقريري.. فالانتخاب أو الاقتراع التمثيلي هو الأساس الذي يجب أن يُستكمل بالتصويت أو الاقتراع التقديري كي يأتي القرار ممثلاً لإرادة الأغلبية حقاً، وصولاً إلى قاعدة عامة هي: المداولة للجميع والقرار للأغلبية(53).. وهو ما يفضي إلى القول: إنّ التمثيل الانتخابي النسبي هو القاعدة الديموقراطية التي يمكن أن تتيح لأكبر عدد من المواطنين من المشاركة في الحكم، والغريب أنّ معظم اللبنانيين، رسميين وغير رسميين، يتغنون بهذا النظام الاقتراعي النسبي لكنّهم لم يجرأوا حتى الآن من إقراره واعتماده.

ثمّة إلتواءات كثيرة في الأنظمة الانتخابية في لبنان، وهي التواءات يمكن تلافيها في النصوص والتطبيق.. وهو أمر يتعلّق أولاً بإرادة الناخبين الذين لا يصوّتون وفق الحريّة التي صانها الدستور اللبناني لهم، وثانياً التحكم بالسلطة من قبل بعض المتنفذين الذين غالباً ما يطلق عليهم اسم الاقطاع السياسي الذي يعيد إنتاج نفسه عبر هذه السنوات المديدة، ويسوّي الأوضاع القانونية وفق أهوائه ومصالحه ورغباته، وثالثاً التمسك بالقيد الطائفي الذي غدا فعلاً حصاراً يطوّق اللبناني من كل جانب، والطائفية ليست سيئة بالضرورة إن تُنولت بمفهوم مختلف: “فالديموقراطية لا تستقيم ولا تثمر إلّا بوجود أحزاب سياسية قادرة على تحويل الهموم الطائفية والفئوية هموماً وطنية، وكفيلة بصهر كل نزاع طائفي أو شخصي في بوتقة وطنية”(54).. ورابعاً يتعلّق الأمر بالعدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي من شأنها أن تساوي بين المواطنين كما تساوي بين المناطق، ولا تراعي مصلحة زعيم على حساب مصلحة الشعب..

ذلك لا يعني أنّ الأمر عقيم إلى الحدّ البعيد.. فكلّ التواء قابل للاستقامة ولبنان العريق في التاريخ والحضارة والتنوّع قادر على أن يرمّم نفسه ويستعيد عافيته في ظلّ حكم ديموقراطي صحيح يحفظ تاريخه ونبوغ أبنائه وإعادة دورهم الحضاري في أبهى صورة.

وبعد،ثمّة أمور كثيرة يمكن أن يتوقف عندها الباحث في التجربة الانتخابية التمثيلية في لبنان.. وقد لا تفي صفحات عديدة لاستكمال الحديث عن هذه التجربة الفردية والغنية.. لكنّ الدخول إلى هذه المسالة والخروج منها يضع الباحث في نطاق التطبيق العملي الذي يتجاوز النصوص في أحيان كثيرة، ليلغي نفسه متردّداً بين أمرين رئيسين: الطائفية والديموقراطية، وهما أمران تمسّك بهما اللبنانيون، فقد ساروا بخطى حثيثة باتجاه الديموقراطية وتغنّوا بها ورعوها وحاولوا اختيار الأفضل فيها، فكان رهانهم عليها من أجل وحدة الوطن ومن أجل العدالة والمساواة والحرية والخروج من دوائر الحروب والنزاعات والقتل المستمر المتجدّد في مراحل تاريخهم الحديث.. إلّا أنّ رباط الطائفية المحكم الذي ولّدته ظروف خارجة عن إرادتهم حيناً، وبارادتهم حيناً آخر.. وبفعل فاعل خارجي في أحيانٍ كثيرة، جعلهم مكبّلين يراوحون مكانهم وعيونهم تحدّق بوطنهم وهو يحترق، فأصبحوا كريشة في مهب الرياح تتلاعب بها، فيضيع ولاؤهم الوطني، وتبقى عيونهم شاخصة في الوقت نفسه تنظر إلى الخارج وتستمدّ منه وجودها لتطيل عمرها، ولا همّ إن أُحرق الوطن أم لا..

ذلك هو الرهان الكبير على الديموقراطية، وذلك هو القيد المكبّل الذي حاصرهم في حمى الطائفية فأصبحوا: لا إلى الطائفة فينجون بأنفسهم، ولا إلى الديموقراطية فتخلصهم من قيدهم وحصارهم.

الهوامش

[1]- راجع كتابه: “المادية التاريخية”، دار التقدم، موسكو.

2- الخطيب، أنور، المجموعة الدستورية، القسم الثاني: الدولة والنظم السياسية، دستور لبنان – 2، مطابع قدموس الجديدة، ط1، بيروت، 1970، ص2.

3- الحركات الجماهيرية في الوطن العربي (دراسات نظرية وتطبيقية)، مجموعة من الأساتذة، دراسات الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1991، ص46.

4- المجذوب، د. محمد، التمثيل الديموقراطي والنظام الانتخابي في لبنان، مجلة الحياة النيابية، عدد 37، بيروت، 2003، ص31.

5- شاهين، د. فؤاد: الطائفية في لبنان، حاضرها وجذورها التاريخية والاجتماعية، ط2، دار الحداثة، بيروت، 1986، ص43.

6- المرجع نفسه، ص43.

7- تقي الدين، سليمان: المسألة الطائفية في لبنان، الجذور والتطور التاريخي، دار ابن خلدون، بيروت، ص7.

8- المرجع نفسه، ص23.

9- صدر الكتاب في خمسة أجزاء، جزآن عن دار النهار في العام 1970، والثلاثة الباقية عن دار السقيم في العام 1976.

10– تقي الدين، سليمان: المسألة الطائفية، المرجع السابق، ص28-29.

11– ضاهر، د. مسعود: تاريخ لبنان الاجتماعي، دار الفارابي، بيروت، 1974 (عن المرجع السابق، ص40).

12– باخوس، أوغست (رئيس لجنة تحديث القوانين النيابية في لبنان): من مقالة بعنوان “في سبيل تحسين التشريع والوضوح في النصوص”، نشرت في مجلة الحياة النيابية، المجلد السابع والأربعون، بيروت، حزيران، 2003، ص19.

13– داود، د. أحمد: تاريخ سوريا الحضاري القديم: 1- المركز، دار المستقبل، دمشق، 1994، ص759.

14– الخطيب، أنور: الدولة والنظم السياسية، المرجع السابق، ص ح، ي، ط.

15– الخطيب، أنور: المرجع نفسه، ص ي، ك، ل.

16-مؤرخ وباحث لبناني، وأمين عام الجمعية اللبنانية للدراسات العثمانية.

17– اسماعيل، د. منير: مجلس الإدارة الكبير في عهد المتصرفية، أول تجربة انتخابية وإدارية في تاريخ العرب الحديث، مجلة الحياة النيابية، المجلد السابع والاربعون، بيروت، حزيران 2003، ص74.

18– اسماعيل، د. منير، المرجع نفسه، ص75.

19– تقي الدين، سليمان: المسألة الطائفية، المرجع السابق، ص396.

20– ضاهر، د. مسعود: تاريخ لبنان الاجتماعي، دار الفارابي، بيروت، 1974، ص59.

21– الخطيب، أنور: الدولة والنظم السياسية، المرجع السابق، ص71، 72، 73.

22– الخطيب، أنور، المرجع نفسه، ص97.

23– الخطيب، أنور، المرجع نفسه، ص281.

24– المادة 27 من الدستور اللبناني.

25– أنظر القانون الانتخابي اللبناني المقر للعام 1960، وهو الذي نفذ منذ ذلك الحين إلى الوقت الراهن استثنائياً.

26– المادة 21 من الدستور اللبناني، والمادة التاسعة من قانون الانتخاب.

27– المادة 65 من قانون العقوبات اللبناني.

28– أنظر المواد 30 و 39 و 40 من الدستور اللبناني (للتفصيل).

29– المادة 39 من الدستور اللبناني.

30– المادة 2 من هذا القانون (1960).

31– المادة 3 من هذا القانون.

32– المادة 4 من هذا القانون.

33– المادة 6 من هذا القانون.

34– المادة 104 من قانون 1960.

35– المادة 63 من قانون 2008.

36– المادة 68 من قانون 2008.

37– راجع وثيقة الوفاق الوطني، اتفاق الطائف، ص1.

38– وثيقة الوفاق الوطني، الإصلاحات السياسية، ص4.

39– المصدر نفسه، ص5.

40– وثيقة الوفاق الوطني، ص1.

41– المصدر نفسه، ص2.

42– باخوس، أوغست: في سبيل تحسين التشريع والوضوح في النصوص، الحياة النيابية، المجلد السابع والاربعون، بيروت، حزيران/يونيو 2003، ص21.

42– المرجع نفسه، ص20-21.

43– المجذوب، محمد: التمثيل الديموقراطي والنظام الانتخابي في لبنان، مجلة الحياة النيابية، مجلد 74، بيروت، حزيران/يونيو 2003، ص30.

44– الخطيب، أنور: الدولة والنظم السياسية، ص496.

45– المرجع نفسه، ص512.

46– المجذوب، محمد: التمثيل الديموقراطي والنظام الانتخابي في لبنان، ص33.

47– الخطيب، أنور: الدولة والنظم الدستورية، ص486-487.

48– غندور، د. ضاهر: النظام الانتخابي وإدارة الانتخابات، مجلة الحياة النيابية، مجلد 37، بيروت، حزيران 2003، ص41.

49– المجذوب، محمد: التمثيل الديموقراطي والنظام الانتخابي في لبنان، مجلة الحياة النيابية، عدد 37، بيروت، حزيران/يونيو 2003، ص31.

50– المرجع نفسه، ص31.

51– غندور، د. ضاهر: النظام الانتخابي وإدارة الانتخابات، مجلة الحياة النيابية، مجلد 37، بيروت، حزيران 2003، ص38.

52– المرجع السابق، ص38.

53– المجذوب، محمد: التمثيل الديموقراطي، ص33.

عن admin

شاهد أيضاً

"سلام ترام" .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين

“سلام ترام” .. كتاب جديد يرصد كيف غير ترام القاهرة حياة المصريين “سلام ترام” قصة …